العدسة – محمد العربي

“هي مجرد حرب نفسية” هكذا علق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على بلاده، وهو التعليق الذي جاء ردا على ما نشرته بعض وسائل الاعلام التركية بأن أنقرة عقدت صفقة تبادلة مع الولايات المتحدة بعد عودة الفتاة التركية “إبرو أوزكان” التي كان مقبوضا عليها في إسرائيل منذ شهر بتهمة دعم حماس، مقابل تسليم واشنطن القس “أندرو برانسون” المحتجز بأنقرة والذي تعتبرته السلطات التركية داعما أساسيا لجماعة فتح الله جولن في الإنقلاب الأخير.

أردوغان كان واضحا بأن الحديث عن الصفقة خاطئا، كما كان واضحا في وصفه للتهديدات الأمريكية بانها غير مقبولة وأن بلاده لن ترضخ للتصعيد الأمريكي، مشيرا  في تصريحات له الأحد 29 من يوليو الجاري “أنه لا أحد يستطيع أن يجبر تركيا على أي شيء وخاصة في تطبيق مقاطعة اقتصادية مع إيران امتثالا للطلب الأمريكي”.

هل هي إيران فقط؟!

ما ذهب إليه أردوغان يشير بأن قصة القس المحتجز لدي بلاده ربما تكون مجرد غطاء للخلاف الأهم وهو موافقة بلاده لخطوات الولايات المتحدة بفرض عقوبات على إيران، وهو ما تعتبره أنقرة امرا غير مقبولا، وبالتالي فإن علاقاتها بطهران لن يحدد مسارها الرئيس الأمريكي، ومن هناك كان إعلان أردوغان بأن علاقة بلاده بأمريكا باتت على المحك، وان قرار بلاده برفض تسليم القس وعدم قطع علاقاتها بطهران أمر لا رجعة فيه، محذرا واشنطن بأنه: “عليها ألا تنسي أنها ستخسر شريكا مخلصا”.

ما أشار إليه اردوغان كان كاشفا لجانب من أسباب توتر علاقة بلاده بالولايات المتحدة، خاصة وأن القوي العالمية الأخري مثل روسيا لن تسير هي الآخري في ركب القرار الأمريكي، وكذلك عدد من الدول الأوربية المؤثرة التي لها علاقات موسعة مع إيران، وبالتالي وجد ترامب نفسه خاسرا في قراراه بفرض عقوبات على طهران وهو القرار الذي لن يلتزم به إلا عدد محدود من الدول العربية التي ليس لها مصالح مؤثرة مع طهران.

ويبدوا للعديد من المحللين أن الأزمة الراهنة لأردوغان تعد الأعنف في تاريخ العلاقات بين البلدين وأن قضية القس المحتجز لدي أنقرة إنما هو إعلان من تركيا على عدم رضاها بموقف الولايات المتحدة من فتح الله جولن الذي تعتبره تركيا المحرك الأساسي للإنقلاب الفاشل الذي جري ضد أردوغان قبل عامين، وتصر واشنطن على عدم تسلميه لعدم صدور أحكام قضائية ضده، وهو ما تعتبره تركيا مشاركة ضمنية من واشنطن في الانقلاب الذي فضح بخسارته تورط العديد من دول المنطقة فيه.

ويشير المحللين إلي أن موقف تركيا من العقوبات الأمريكية ضد طهران محسوم لصالح إيران، ليس لوجود مصالح مشتركة بين الدولتين المتنافستين على زعامة الشرق الأوسط، وإنما لقناعة أنقرة بأنه في حال تم التمرير الدولي للعقوبات على طهران بشكل سلسل، فإن الدور سوف يصيب تركيا من بعدها، خاصة في ظل توتر العلاقات التركية السعودية والإماراتية، والدور الذي تلعبه الرياض وأبو ظبي في تحريك قرارات إدارة ترامب خلال الفترة الماضية بالمنطقة الملتهبة.

فتش عن إسرائيل

فريق آخر من المحللين ذهب إلي أن تصاعد الخلافات التركية الإسرائيلية ربما يكون سببا في شدة التصعيد الأمريكي، في ظل قناعة تل أبيب بأن أنقرة تعاملها من تحت أضراسها، وبالتالي لجأت تل أبيب لداعمها الأساسي من أجل الضغط على أنقرة بحلحلة العلاقات من مربعها المتجمد لمربع آخر أكثر ليونة، وهو ما يمثل مكسبا لتل أبيب التي بدأت توسع من خطواتها بالمنطقة، وفي حال تمرير مشروع الناتو العربي الإسرائيلي ضد إيران، فإن موافقة تركيا تمثل أهمية لنجاحه واستمراره واستقراره في حال تنفيذه.

وطبقا لنفس الفريق فإن موقف تركيا من صفقة القرن وقضية تهويد القدس ونقل السفارة الأمريكية للقدس الشريف، كان مفاجئا لكل من واشنطن وتل أبيب واللذان كانا يعتبرا المواقف التركية ظاهرية فقط كما هو حال الدول العربية، إلا أن الشدة الذي ظهر بها الموقف التركي في دعم الفلسطينين وتبني تركيا لأساطيل رفع الحصار عن قطاع غزة والخلاف التركي مع النظام المصري، كل هذا لا يصب في النهاية لصالح إسرائيل والمخططات الأمريكية بالمنطقة.

روسيا في الصورة أيضا

وطبقا لفريق ثالث من المحللين فإن متانة العلاقات التركية الروسية في الفترة الأخيرة، يمثل أزمة للإدارة الأمريكية، خاصة وأن المصالح الثنائية بين روسيا وأنقرة تجاوزت الملف التجاري والاقتصادي للملف العسكري، حيث تعمل أنقرة للحصول على نظام دفاع جوي صاروخي متطور من روسيا، وهو ما تعتبره واشنطن ضررا بالغا لأمن حلف شمال الأطلسي، ومجازفة بخطط أنقرة لشراء مقاتلات أمريكية من طراز F15، وهي النقطة التي قلل أردوغان من تأثيرها على علاقة بلاده بواشنطن، مؤكدا خلال اجتماع للبرلمان التركي الأسبوع الماضي ” أن قرار مجلس الشيوخ بفرض عقوبات على تركيا بمنع مؤسسات التمويل المالية منحها قروضا ووقف صفقة الـ F15، ليس ذات جدوي مؤكدا أن الأمر في النهاية سوف يخضع لتقدير الرئيس الأمريكي الذي يجب أن يضع مصالح بلاده مع تركيا أمام عينيه جيدا”.

أصابع تركيا

ويري المحللين أن تركيا استطاعت خلال السنوات الماضية فرض نفسها بالعديد من الملفات الحيوية سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، مما جعل التفكير في استبعادها من أية حسابات متعلقة بالملفات الساخنة يمثل خطئا استراتيجيا، وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن تركيا تعرف جيدا كيف تعامل الدول الغربية ومتي تعمل بمدأ ليِّ الذراع، ومتي ترفع شعار التهدئة، فإن هذا كله يجعل تركيا واحدة من الدول التي لم يعد يمكن تجاوزها في الأزمات المرتبطة بها.

ويعد ملف اللاجئين واحد من أهم الملفات التي استطاعت تركيا من خلاله فرض إرادتها على اوربا، فهي تستطيع أن تقلل من الأزمة التي تعانيها أوربا الآن في ملف اللاجئين، وتستطيع أيضا أن تزيد من فاعلية الأزمة، بعد أن أصبح بيدها المفتاح لهذا الملف الشائك.

ويأتي ملف سوريا في مقدمة الملفات التي تمثل تركيا لاعبا أساسيا فيها، وربما كان هذا الملف تحديدا من أسباب الخلاف مع الولايات المتحدة التي تتهمها تركيا بدعم الجماعات الكردية المسلحة بحجة دعم المقاومة المأمونة ضد تنظيمات الدولة الإسلامية المنتشرة بسوريا والعراق، كما أن موقف أنقرة من نظام بشار مثل قوة للمعارضة السورية التي تتخذ من اسطنبول مقرا لها، أمام السياسات الأمريكية الخبيثة التي تتعامل في هذا الملف بوجهين مختلفين.

وقد ارتبط بالقضية السورية ملف آخر تعد تركيا أحد أطرافه المؤثرين، وهو الصراع الشيعي السني بالمنطقة، حيث تعد أنقرة والرياض ذات مصالح مشتركة في التصدي للتوغل الإيراني باليمن وسوريا والعراق، وهو ما دفعها للبحث عن تأمين مصالحها التجارية باسئجار ميناء سواكن السوداني وبناء قواعد عسكرية في السودان والصومال وقطر، وهي القواعد التي تعتبرها القاهرة الحليف الاستراتيجي لواشنطن وتل أبيب تهديدا مباشرا لها، وليس للوجود الإسرائيلي او الإيراني بالبحر الأحمر والقرن الأفريقي.

لماذا أردوغان؟!

يبدو السؤال السابق ملحا في ظل الأزمات التي تشهدها العلاقات الخارجية لتركيا مع إدارة أردوغان، سواء في النسخة الوزارية أو النسخة الرئاسية، حيث شهد عهد أردوغان خلافات ساخنة مع روسيا وإنجلترا وألمانيا والدنمارك وإسبانيا، بالإضافة لتوتر قلق ومستمر مع فرنسا، وأخيرا التوتر مع الولايات المتحدة، ورغم أن الرئيس التركي خرج منها جميعا فائزا، إلا أنها تمثل ظاهرة في السياسة التركية، وهو ما اعتبره المتابعون للملف التركي أمرا طبيعيا في ظل رغبة تركيا أن تكون رقما مؤثرا في شكل العلاقات وبالتالي يجب أن توضع في أية حسابات متعلقة بمحيطها الدولي، خاصة وأن الخيوط التي تمسكها أنقرة بيديها مع أوربا تمنحها فرصة لفرض إراداتها ومواقفها على الدول الغربية، ولذلك خرجت من كل أزمة وقد حققت انتصارا مَثَّل نقطة هامة في الفوز الذي حققه أردوغان مؤخرا بالانتخابات الرئاسية التي شهدت منافسة شرسة، إلا أنهم أكدوا أيضا أن طبيعة الخلاف مع واشنطن مختلفة، وسوف تكشف الأيام القادمة هل يستطيع اردوغان الخروج فائزا، أم أن العاصفة الأمريكية قد تكون أقوي مما كان يتوقعها.