العدسة_ منذر العلي

لم تفتأ أزمة النزاع على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي بين مصر والسودان تهدأ حتى تشتعل مرة أخرى على يد أحد طرفيها، ولعل أحدث تجليات الأزمة، كانت في تقرير نشرته صحف سودانية قبل أيام، اتهم جهاز المخابرات العامة المصرية ـ بإيعاز من وحدة حرس الحدودـ باعتقال مواطن سوداني بعد ملاحقته وآخرين بالقرب من بوابة حلايب.

وتطل منطقة “مثلث حلايب وشلاتين” على ساحل البحر الأحمر، وتقع على الطرف الجنوبي الشرقي من الجانب المصري، وعلى الطرف الشمالي الشرقي من الجانب السوداني، وتبلغ مساحته الإجمالية 20.5 ألف كم2.

ويطلق على هذه المنطقة اسم مثلث؛ نظرا لأنها تضم ثلاث بلدات كبرى هي “حلايب” و”أبوالرماد” و”شلاتين”، ويتوزع سكانها بين عدة قبائل، أشهرها “البشارية” و”العبابدة”.

ودائمًا ما يروج الإعلام السوداني أن مصر “تحتل” المنطقة بقوة السلاح، وتمارس بين الحين والآخر مضايقات وانتهاكات بحق القبائل السودانية التي تعيش هناك، وتشكو الخرطوم القاهرة في مذكرات سنوية رسمية ترسلها إلى مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، منذ عام 1958، بينما ترد مصر بأن المثلث “مصري خالص” ، ولا مجال للتنازل عنه بأي شكل من الأشكال، وتقول: إن ادعاءات السودان بانتهاكات تُرتكب هناك واهية.

مؤخرًا، خيّر السودان مصر بين خيارين للخروج من الأزمة؛ إما عن طريق القبول بالتحكيم الدولي، أو بالتفاوض المباشر بين الجانبين، بينما أبدت الخارجية السودانية، قبل نحو شهرين، استعدادها لتطبيق نموذجي منطقة طابا التي استردتها مصر بالتفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي، أو جزيرتي تيران وصنافير اللتين تنازلت عنهما القاهرة للسعودية.

” مدينة حلايب “

 

جذور تاريخية للأزمة

ومن المسلَّم به أن تلك الأزمة ليست وليدة اللحظة أو العهد الحالي، بل إن لها جذورًا تاريخية ممتدة، بدأت بشكل فعلي في أوائل القرن الـ19، وبالتحديد عام 1820، حين ضم والي مصر “محمد علي” السودان، ووضعه تحت سلطته السياسية، وبذلك امتدت حدود مصر السياسية جنوبًا لتضم الإقليم السوداني بأكمله.

وحينها اعترف السلطان العثماني “محمود الثاني” (حيث كانت إحدى ولايات الخلافة العثمانية)، بسلطة الوالي المصري على المناطق التي فتحها من الجنوب، وأقرّ عدم أحقية ولاة مصر في التنازل عن أية امتيازات تكون قد أُعطيت لهم، سواء في مصر أو في السودان، كما منعهم من التخلي عن أي جزء من هذين الإقليمين، أو إبرام أية معاهدات سياسية بشأنهما.

وفي 19 يناير 1899، وقّعت مصر وبريطانيا ما عُرف بـ”اتفاقية السودان”، باعتبارهما قائمتين على الحكم الثنائي المصري البريطاني في السودان آنذاك، رغم أن القاهرة كانت ترزح تحت الاحتلال البريطاني المتحكم في مقاليد الأمور بالبلاد.

ونصت الاتفاقية في مادتها الأولى على أن يطلق لفظ السودان على جميع الأراضي الواقعة جنوب دائرة عرض 22 شمالًا.

انعطفت الأزمة مجددًا في يناير 1956، وهو تاريخ اعتراف مصر باستقلال السودان، ومنذ ذلك التاريخ فقط تحول الخط (22 شمالًا) إلى حد سياسي دولي بالمعنى القانوني.

في أواخر يناير 1958، بدأ النزاع المصري السوداني بشكل فعلي على “مثلث حلايب وشلاتين”؛ عندما أرسلت الحكومة المصرية مذكرة إلى الخرطوم على خلفية إجراء الانتخابات البرلمانية في السودان في 27 فبراير 1958، محتجة على أن الجهة السودانية المشرفة على هذه الانتخابات “خالفت” اتفاق عام 1899 بشأن الحدود المشتركة بين الدولتين؛ وذلك لإدخالها المثلث ضمن الدوائر الانتخابية السودانية.

“جمال عبد الناصر” و “الفريق إبراهيم عبود”

وطالبت المذكرة بحق مصر في استعادة المناطق الواقعة تحت الإدارة السودانية شمال دائرة عرض 22 شمالًا إلى سيادتها.

ومع ذلك استمرت المنطقة مفتوحة أمام حركة التجارة والأفراد من البلدين دون قيود من أي طرف حتى عام 1995؛ حيث دخلها الجيش المصري، وأحكم سيطرته عليها، كرد فعل على محاولة اغتيال الرئيس الأسبق، حسني مبارك، في العاصمة الإثيوبية أديس ابابا، والتي اتهمت القاهرة الخرطوم بالضلوع فيها.

ومنذ ذلك الحين، لم يغلق الملف، لكنه يفتح بين الحين والآخر إما بترصيحات دبلوماسية أو حتى بأحداث قد تكون دامية على الأرض.

ماذا يقول الطرفان؟

ويمتلك كل من طرفي الصراع، ما يرى أنها حجج وأسانيد قانونية تعزز موقفه، وتضمن ميل الكفة لصالحه.

فمصر تشدد على أحقيتها في تبعية المثلث الحدودي لأراضيها، وفق عدة اعتبارات، كالتالي:

– التعديلات الإدارية التي تمت على الحدود مع السودان بعد 1956، كانت تهدف الى التيسير على القبائل التي تعيش على جانبي خط الحدود.

– لم يحدث أن أبرمت مصر أية اتفاقات دولية بينها وبين السودان أو بريطانيا (أثناء الحكم الثنائي للسودان)؛ لإضفاء الصفة الدولية على هذه التعديلات.

– مصر لم تتنازل عن سيادتها على المناطق المتنازع عليها؛ لأنها كانت خاضعة لسيادة الدولة العثمانية وقت إجراء التعديلات، ولم تكن تستطيع التنازل، أو البيع، أو رهن أي جزء من أراضيها، إلا بموافقة الباب العالي، وهو ما لم يحدث.

– وفقًا للقانون الدولي فإن التنازل عن الإقليم لا يكون صحيحًا وملزمًا قانونًا، إلا بموافقة الأطراف المعنية على ذلك صراحة.

– السودان لم يكن يباشر إلا اختصاصات محددة في المناطق الواقعة إلى الشمال من خط عرض 22 شمالًا، وهي اختصاصات اقتضتها الضرورات العملية لتنظيم شؤون السكان على جانبي الحدود، لا تكتسب صفة أعمال السيادة.

– من أهم مظاهر الوجود المصري في المنطقة شركة “علبة” التي تعمل في مجال استخراج المعادن منذ 1954، ثم أُدمجت في “شركة النصر للفوسفات” عام 1963، كما يعود النشاط التعديني المصري في المنطقة إلى عام 1915.

” عمر البشير بمدينة حلايب “

أما السودان فيرى المناطق المتنازع عليها الواقعة شمال دائرة عرض 22، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من أراضيه، استنادًا إلى:

– السودان ممثلًا في دولتي الإدارة الثنائية (مصر وبريطانيا) ظل يدير هذه المناطق منذ إجراء التعديلات الإدارية على خط الحدود الذي أنشئ بناءً على اتفاق 1899.

– من خلال الحيازة الفعلية لهذه المناطق باشر السودان كافة أعمال السيادة عليها.

– قبول مصر لاستمرار السودان في إدارة هذه المناطق، طوال الفترة ما بين عامي 1899 و1958 يدل على أنها تنازلت عن حقوقها السيادية في هذه المناطق.

– اعتراف مصر بالسودان كدولة مستقلة ذات سيادة عام 1956، لم يُشر إلى أية تحفظات بشأن الحدود.

– مبدأ قدسية الحدود الموروثة من الاستعمار الذي أقرته منظمة الوحدة الأفريقية عام 1964 بالقاهرة، لم تعترض مصر عليه.

استشراف مستقبل النزاع

وفي ظل تمسك كل طرف بموقفه، فإن استشراف مستقبل النزاع الحدودي بين البلدين، ربما يقتصر على سيناريوهات ثلاثة لا رابع لها.

السيناريو الأول، وهو الذي يبدو مرجحًا، يقتضي بأن يستمر الحال كما هو عليه، فلا عشرات الشكاوى السودانية ضد مصر لمجلس الأمن أثمرت، ولا تبدو القاهرة مستعدة للتفاوض حول تبعية المنطقة الغنية بالمعادن والواعدة استثماريًّا لها.

كما أن الخرطوم لا تبدو هي الأخرى مستعدة للتصعيد فيما وراء الخطوات الحالية، وتلتزم بالتصريحات الدبلوماسية التي تكون عنيفة أحيانًا، والمطالبات الرسمية السلمية.

السيناريو الثاني لمستقبل النزاع، والذي عرضه السودان على مصر يؤول إلى التفاوض المباشر بين الطرفين، بحيث يقدم كل طرف الحجج والأسانيد التي تدعم موقفه، وتتواصل اللقاءات الثنائية حتى يتم الاتفاق على وضع ما يرضي الطرفين.

“إبراهيم الغندور” و “سامح شكري”

في هذا السياق، تبرز تصريحات أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم الدكتور الطيب زين العابدين، والذي كشف أن السودان عرض على الحكومة المصرية في عهد مبارك 3 خيارات لحل مشكلة حلايب.

الحل السواني المقترح، حينها، نص على إقامة منطقة تكامل بين البلدين في المنطقة، أو التوصل إلى تسوية سياسية تؤدي إلى اقتسام الأرض، لكن مصر رفضت.

فهل يمكن أن تقبل مصر الآن بتسوية، من خلال التفاوض، تقود إلى أحد هذين الاقتراحين لإنهاء الأزمة أم تستمر في موقفها الرافض لكل الأطروحات؟.

أما السيناريو الثالث الذي يعرضه السودان دومًا على مصر، هو اللجوء للتحكيم الدولي، الذي يقتضي موافقة طرفي التحكيم عليه، وهو ما ترفضه القاهرة دومًا.