العدسة –ربى الطاهر

لطالما ارتبط الفرح والحزن بالثقافة الشامية في دول الهلال الخصيب، وبشكل خاص في “فلسطين”، رمز الهوية والقضية العربية، بالغناء والأناشيد والطقوس المختلفة.

كان الفلسطينيون إذا ما فرحوا رددوا “الزغرودة” وهى عبارة عن لحن تطلقه النساء من فمها، مقرون بقافية شعبية معروفة تحمل كلمات المباركة والفخر والتهنئة، وهو نفسه ما يتكرر عند الحزن فيما يشبه “العدودة الصعيدية” في مصر، حيث تطلق النساء صوتا حزينا مقرونا بكلمات الرثاء والحسرة والتباكي.

ولأن الثقافة هى الأصل، وهى ما تضع صبغتها على الأحداث، فعلى مدار سبعين عاما، هي عمر القضية الفلسطينية منذ تنفيذ قرار التقسيم عام 1947، وملاحقة العصابات الصهيونية للشعب الفلسطيني وطرده من أرضه، عرف هذا الشعب آلاف الجنازات، التي ليست كأية جنازات، فهي أعراس الشهداء من حرب إلى حرب، ومن غارة إلى غارة، أعراس شهدتها الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة وأراضي الخط الأخضر(كل ما استوطن به الصهاينة عام 1948 وأعلنوا فوقه قيام دولتهم إسرائيل)، وشهدتها أيضاً دول عربية وأوروبية، فأينما يكون الفلسطيني ويستشهد تكون “الزفة” كما يطلق عليها الفلسطينيون، فتتردد الزغاريد والأناشيد، وتوزع أقراص الخبز وأفرع الزرع الخضراء، كما اختفت عادات سيئة، مثل خروج السيدات بفجر اليوم الثاني متشحات بالسواد يرددن الصراخ بصوت مكتوم من بيت إلى بيت حتى الوصول للمقبرة، وهو الفعل الذي لا يليق بحضرة شهيد.

“امتى يعود الدم ع الدم.. ياريت نعود ع حصيرتنا نلتم..يا ابو الشباب يا حس الجرس..مات ابوفلان وياحمل الجرس”، هكذا كانوا يرددون أغنية حزينة عن دفن الفقيد في فلسطين، وعندما تحول الفقيد إلى شهيد تبدلت كلمات الأغنية الحزينة، ومنها ما تناقلته الشاشات العربية، بينما الآلاف قبل شهور من الآن يزفون الشهيد الشاب الفلسطيني بالضفة الغربية “باسل الأعرج”، فقالت النساء بصوتهن وعبر اللحن المعروف:

تحيتنا بحرارة .. يا باسلها النوارة

ياباسل يا ها المجروح … دمك هدر ما بيروح ..

فلسطين بترد الروح.. فلسطين بترد الروح

وزغردي ياام الشهيد .. دم ولادك فجر جديد

زفوا الشهيد زفوه .. ألف تحية لأبوه

خلي الشهيد بدمه .. وألف تحيه لأمه

خلوا باسل بتخته .. ألف تحية لأخته

من جنازة باسل الفقها

كان “الأعرج” ابن الـ 31 عاما ناشطا بالحراك الشبابي الفلسطيني، أزعجت أنشطته إسرائيل، فأدرك أن الموت قريب، فكتب وصيته، وفيها طالب أسرته بعدم الحزن على جثته إن لم يستطيعوا الوصول إليها، مؤكدا أن السماء هي “بيت الشهداء”.

ولقد تأخرت جنازته بالفعل، فقد سحبت القوة الصهيونية التي اغتالته جثته إلى أحد أقسام الشرطة التابعة لهم، ورفضوا تسلميها لذويه على مدار 24 ساعة، حتى رضخوا لذلك بسبب تقلب الرأي العام العالمي عليهم، بينما فعلوها كثيرا مع غيره من الشباب فكانوا “يسرقون الجثة”.

وبيوم جنازة “الأعرج”، قام والده بأداء التقليد الفلسطيني الشهير بجنازات الشهداء، فقد خلع “حطته” من فوق رأسه، ووجه التحية العسكرية لابنه.

ومن والد الشهيد “الأعرج” إلى طقوس “أم نضال” أو “خنساء فلسطين” كما اعتاد الشعب الفلسطيني أن يطلق عليها، وهى السيدة التي انخرطت بالعمل السياسي عبر حركة حماس في غزة على مدار أربعين عاما، وخلالها قدمت ثلاثة من أبنائها كشهداء، وثلاثة مصابين، وواحدا قضى بالسجون الإسرائيلية أكثر من عشرة أعوام.

أم نضال خنساء فلسطين

 

كانت مثالا للصبر والشجاعة، ومنها تعلمت كثير من السيدات عدم البكاء بالجنازات، وتوزيع الخبز على روح الشهيد، وغرس الفروع الخضراء على امتداد الطريق إلى المقبرة.

توفيت أم نضال قبل عامين، وتركت عادتها من ورائها يتسلمها جيل بعد جيل.

وفي ضوء هذا الاحتفاء بالمقاومة والفداء، طالما استشرس العدو الصهيوني في مقاومة الجنائز الفلسطينية، فعلى مدار عشرين عاما، على سبيل المثال منذ 1967 وحتى عام 1993 (تاريخ توقيع اتفاقية أوسلو التي سمحت بعودة بعض الفلسطينيين إلى جزء من أراضيهم)، حظر الصهاينة على أهالي الضفة الغربية إقامة الجنازات أو دفن شهدائهم فى المقبرة الرسمية المعروفة بالمدن المحتلة، وحددوا لهم بدلا عنها مقابر فى مناطق صحراوية جرداء بعيدة على حدود تلك المدن، ورغم الشدة والرغبة في قهرهم امتدت الجنائز على امتداد المدن.

شاهد مقبرة الشهيد، هو واحد بالأراضي الفلسطينية، حيث يشمل اسم الشهيد مقترنا بالآية الكريمة ” وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ “، وكذلك كلمة “شهيد القضية الفلسطينية” و “اغتالته العصابات الصهيونية”.

تبقى “زفة الشهيد” طالما بقيت المقاومة إلى أن يكتب الله