العدسة_ مؤيد كنعان
بدا واضحا أن السيسي ضاق ذرعا من التجمل والصبر على الردود الدبلوماسية والبرود الذي كان يتحلى به مبارك، على سبيل المثال، حينما يتعلق الأمر بمناقشة ملف حقوق الإنسان المتردي في مصر عند زيارة الرئيس أو أي مسؤول رفيع إلى الخارج، لا سيما أوروبا.
وبالإضافة إلى أن طبيعة الرجل تميل إلى التصادمية وتبتعد عن الدبلوماسية، وهو ما ظهر جليا في أسلوب حكمه وعقيدة الصدمة التي يفضلها ويؤمن بها، يبدو أن هناك أسبابا أخرى دفعت السيسي إلى اختيار المواجهة والصدام حيال جدلية حقوق الإنسان، والتي تبدو أزلية بين العديد من أنظمة الحكم في الشرق الأوسط والمؤسسات الحقوقية الغربية.
انفعال وتصادمية
ما الذي دفع السيسي للتصادمية والمواجهة في رده هذه المرة عن تساؤلات الصحفيين الأجانب والحقوقيين حول حالة حقوق الإنسان في مصر؟ لدرجة وقوعه في أخطاء فادحة منحت خصومه ومناوئيه – كالعادة – فرصا ذهبية لتصيد أخطاء الرجل حينما يقرر الارتجال بانفعال، والابتعاد قليلا عن البروتوكولات والأوراق وسياج رجال العلاقات العامة بمؤسسة الرئاسة، والذين يبدو أنهم يعانون أمام اندفاعية الرجل في المحافل الإقليمية والدولية، أيما معاناة.
أراد السيسي أن يرد ليخفف وطأة السؤال فزاد الطين بلة، أو كما يقول المثل العامي المصري (جه يكحلها عماها)…
فعندما سئل عن حقوق الإنسان، قال بنبرة حادة: إن حقوق الإنسان لا يجب أن تكون حقوقا سياسية فقط، وتابع: “لماذا لا تسألني عن حقوق الإنسان في التعليم؟ وفي الحقيقة ليس لدينا تعليم، وكذلك الحال في الصحة والوعي، واستكمل فقرة التخبط الفضائحية بالقول: إن مصر ليست أوروبا المتقدمة علميا وثقافيا وحضاريا.
بدا الرجل وكأنه يعترف بأنه لا حقوق للإنسان في مصر، لا سياسية ولا تعليمية ولا صحية ولا معيشية، وأن رفاهيات حقوق الإنسان لا يجب أن تكون موضع نقاش أساسا في مصر التي لا يجب أن تقارن بالمجتمعات الطبيعية الجيدة.
ثمة إجابة قد تكون لها علاقة بالسؤال حول سر حدة السيسي وتصادميته في هذا الملف، والإجابة هذه المرة قادمة من برلين.
” السيسي “
ضربة ألمانية
فقبل زيارة السيسي إلى فرنسا بأيام قليلة تداولت وسائل إعلام خبرا يفيد بأن الداخلية الألمانية ألغت برنامجا تدريبيا كانت قد أعدته للمسؤولين الأمنيين المصريين، خوفا من استخدامه ضد المواطنين.
وقالت الشرطة الالمانية، في بيان لها، 18 أكتوبر، إن البرنامج كان مصمما لمساعدة المصريين على مراقبة الكيانات الارهابية على شبكة الإنترنت، إلا ان المخاوف الألمانية بشأن استخدام هذه التقنيات ضد المدنيين، بالإضافة الى سجل مصر في حقوق الانسان تسبب في إنهاء البرنامج من الجانب الألماني.
الخطوة الألمانية مثلت ضربة كبيرة للقاهرة، قياسا بالمتانة التي صاحبت تأسيس الاتفاقية الأمنية بين مصر وألمانيا وأهميتها للسيسي ونظامه في إضفاء شرعية أوروبية على وجوده من الأساس، بعد أحداث يوليو 2013 وعزل الرئيس الأسبق المنتخب محمد مرسي، علاوة على طريقته في الحكم، وكانت هذه الشرعية من ألمانيا تحديدا مهمة للغاية لنظام السيسي، باعتبار أن ألمانيا تعد حاليا زعيمة أوروبا.
موافقة برلمانية
في 27 أبريل 2017، أقر البرلمان الألماني “البوندستاغ” تلك الاتفاقية، في جلسة خاصة غاب عنها معظم أعضائه، حيث أيدها نواب الائتلاف الحاكم من الحزب المسيحي الديمقراطي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، في حين رفضها نواب حزبي المعارضة الخضر واليسار.
ومثل هذا التصديق آخر مرحلة لدخول هذه الاتفاقية حيز التطبيق بعد توقيع وزيري الداخلية الألماني توماس دي ميزير ونظيره المصري مجدي عبد الغفار على مشروع قرارها بالقاهرة يوم 11 يوليو 2016، وموافقة مجلس الولايات الألمانية (بوندسرات) على المشروع في مارس 2017.
الاتفاقية كانت تتطرّق لعدد من المجالات، من بينها الهجرة غير الشرعية، والإرهاب، والمطلوبون أمنيًا، وتأمين المطارات، ومواجهة جرائم الإرهاب وتمويله، وتبادل الخبرات والمعلومات بشأن المطلوبين في البلدين، ومجالات تأمين المنافذ والمطارات، ومكافحة الهجرة غير الشرعية…
كما تتناول أوجه التعاون بين البلدين في مجال الحماية المدنية, وأمن وثائق السفر, وطلب المعلومات وحماية البيانات الشخصية (بما يتفق مع حقوق الإنسان).
” مجدي عبد الغفار ” و ” توماس دي ميزير ”
انتقادات حقوقية
الاتفاق كان محل انتقاد كبير لمنظمات حقوقية عالمية، أبرزها “هيومان رايتس ووتش”، والتي اعتبرت أن ألمانيا قد تجد نفسها متورطة في انتهاكات جسيمة جراء هذا الاتفاق مع مصر، وقالت إن الاتفاق “لا يتضمّن إلا إشارة مُبهمة إلى “دعم حقوق الإنسان”، ويفتقر إلى أي ضمان فعَّال لإنهاء انتهاكات الأجهزة الأمنية المصرية الرئيسية لحقوق الإنسان”.
التحليلات كانت تشير إلى أن الاتفاقية الأمنية جاءت كمكافأة أو عربون صداقة من ألمانيا إلى مصر، بعد تضرر الأخيرة من موجات المهاجرين واللاجئين الوافدة إليها، حيث بادرت مصر بإعلان استعدادها لتكون جزءا من حل استراتيجي طويل المدى لهذه الإشكالية التي كانت في طريقها لأن تتحول إلى أزمة انتخابية لميركل وحزبها، والتي كانت تستعد للانتخابات، حينها.
مصر تعهدت بمنع تدفق المهاجرين إلى سواحل أوروبا الجنوبية وألمانيا عبر إمكانياتها الأمنية للسيطرة على سواحل المتوسط ليس في مصر فقط، ولكن في أجزاء من ليبيا، بالإضافة إلى تأكيد القاهرة استعدادها لاستضافة أعداد إضافية من اللاجئين السوريين والأفارقة، مقابل امتيازات اقتصادية من برلين، وهو ما وجدت فيه الأخيرة صفقة جيدة ومربحة.
” أحد مراكب الهجرة الغير شرعية “
تغيرت الأوضاع
الآن، وبعد أن اجتازت ميركل الاختبار الانتخابي، هي وحزبها، في سبتمبر الماضي، دقت ساعة الحقيقة، ولو بشكل نسبي، وبالتوازي أيضا مع عودة التفاهمات التركية الألمانية حول إشكالية اللاجئين من تحت الستار، بعد أن توقفت بسبب تدهور العلاقات بين أنقرة وبرلين، بات الألمان ينظرون أكثر إلى العبء الذي من الممكن أن يقع عليهم من الاتفاقية الأمنية مع المصريين.
من ناحية يشير التطور الألماني بإلغاء تدريب الشرطة المصرية على مراقبة الإنترنت إلى وصول قناعة المسؤولين في برلين بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان بمصر إلى مراحل متقدمة، لدرجة أنها بدأت تطغى على لغة المنافع، التي كان الألمان يتحملون من أجلها هذا التقارب مع الداخلية المصرية.
“ميركل” عقب فوزها بفترة رئاسة رابعة
الأزمة الخليجية
لا يجب أيضا فصل الأمر عن التوجهات الألمانية الأخيرة المستاءة من التحالف المصري السعودي الإماراتي، والذي افتعل الأزمة الأخيرة مع قطر بشكل غير مدروس، مما أدى إلى أزمة مشتعلة في أحد أكثر الأماكن حساسية في العالم، من وجهة نظر الألمان، وهو ما اتضح في موقف برلين الواضح، حيث بادرت بإدانة إجراءات دول الحصار ضد قطر، والمطالبة بإلغائها، وصولا إلى دخول ألمانيا كوسيط غير رسمي في الأزمة، لكنه يناضل بإصرار من أجل دفع الرياض والقاهرة وأبو ظبي للتراجع عن التصعيد ضد الدوحة.
هل ما حدث جاء في سياق ضغوط ألمانية على مصر، لدفعها إلى الانسحاب من ذلك التحالف، أو إقناع بقية الأطراف بأهمية إيجاد حل؟ هل وجهة النظر هذه صحيحة من الأساس؟ تعلمنا في التحليلات ألا نستبعد أي احتمال.
على أية حال، يجب على السيسي الآن أن يختار إما مزيدا من التصعيد والتحدي في الملف الحقوقي غربيا، أو العودة إلى الدبلوماسية الباردة، والتي يبدو بريقها الآن خافتا أمام تصاعد الانتهاكات داخل مصر ورصدها من المنظمات الحقوقية العالمية…
وقد يبحث عن طريق ثالث معيدا لغة المنافع التي يفهمها الأوروبيون جيدا، لكنه اشترى غواصات الألمان ومحطاتها الكهربائية، والميسترال والرافال من فرنسا، بالإضافة إلى اتفاقيات أخرى مع بريطانيا، فهل هناك ما يمكن شراؤه أو بالأحرى هل يمتلك هو ما يمكن أن يدفعه؟!
اضف تعليقا