تتجه الأنظار بقوة في الآونة الأخيرة نحو السعودية، خاصة في ظل القرارات والإجراءات التي يتبناها نظام الحكم هناك، الذي يسيطر عليه ولي العهد محمد بن سلمان.
وبدا أن محمد بن سلمان يتجه إلى “العلمنة” بخطوات متسارعة للغاية خلال الفترة الحالية، وهو ما يشير إلى رغبة في إحداث تحولات جذرية بهوية المجتمع السعودي.
سلسلة من القرارات والإجراءات يمكن وضعها تحت عنوان “الانقلاب على فتاوى التيار المحافظ بالسعودية”، والتي كانت على مدار سنوات طويلة هي المرجع الأساسي والموجه ليس فقط للمجتمع ولكن أيضا للنظام السياسي وقراراته.
وفي أحدث حلقات تلك “العلمنة” أذاع التلفزيون الرسمي السعودي أغاني لأم كلثوم، فكيف انقلب محمد بن سلمان على فتاوى تحريم الغناء والموسيقى؟.
نهج جديد
فبعد توقف إذاعة الأغاني على التلفزيون الرسمي السعودي، منذ 3 عقود تقريبا، تفاجأ الجميع بإعادة بث أغان لأم كلثوم، في خطوة أثارت علامات الاستفهام، لكنها غير مستغربة في ظل سياسات محمد بن سلمان.
ومثلما أذاع التلفزيون الرسمي أغاني أم كلثوم، كشفت تقارير محلية سعودية إلى اتجاه القناة الثقافية إلى إذاعة أغان لنجاة وفيروز خلال الفترة المقبلة.
ومن مبررات إذاعة الأغاني النسائية، على التلفزيون الرسمي، عدم احتواء العديد من أغاني أم كلثوم على أي كلمات أو جمل خادشة للحياء، كما أنها لا تحمل أي صور لمشاهد مخلة.
والغريب في هذا القرار ليس التوقيت لأنه جاء بعد سلسلة من القرارات التي تؤكد بدء مرحلة “علمنة” السعودية، ولكن الغرابة في أهدافه؛ إذ إنه بإمكان أي شخص في السعودية الاستماع إلى أغاني أم كلثوم وغيرها عبر شاشات الفضائيات أو عبر أي وسائط فيديو.
إذن فليس هناك حاجة ماسة لهذا القرار، لكن يبدو أن هناك رسالة أراد ولي العهد توصيلها، من خلال هذا القرار، بجديةالخطوات التي من شأنها التحرر من السلطة الدينية التي كانت تقيد نظام الحكم في المملكة.
والأغرب من القرار هو عدم طلب محمد بن سلمان فتوى تجيز هذه الخطوة من هيئة كبار العلماء والمفتى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ.. فهل تصدر الآراء القائلة بعدم التحريم؟.
فتاوى تحريم
عاشت السعودية على مدار سنوات طويلة تحت مظلة فتاوى كبار العلماء المحسوبين على ما يعرف بـ “التيار المحافظ”، وكان من بين تلك الفتاوى تحريم الاستماع إلى الأغاني والموسيقى.
قرار السعودية الأخير يصطدم بعشرات الفتاوى التي تؤكد تحريم الغناء والموسيقى، والتي صدرت عن شخصيات لها ثقلها الديني ولها تأثير كبير ليس فقط في الداخل السعودي ولكن في العالم العربي والإسلامي.
ويمكن رصد أبرز فتاوى تحريم الغناء كالتالي:
أولا: فتوى اللجنة الدائمة للفتوى بالسعودية وكان يترأسها الشيخ عبد العزيز بن باز، بتحريم الاستماع إلى الغناء لقوله الله تعالى “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ” ، ولهو الحديث هو: الغناء، كما فسره بذلك جمع من الصحابة.
ثانيا: فتوى مفتي عام السعودية عبد العزيز آل الشيخ، بتحريم تراخيص الحفلات الغنائية ودور السينما، لما ينطويان عليه من مفسدة للأخلاق والقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين.
ثالثا: فتوى مستقلة للشيخ عبد العزيز بن باز، ردا على سؤال حول حرمة الأغاني والموسيقى، وقال إن إجماع أهل العلم كان على حرمة الغناء، مشيرا إلى حديث الرسول الكريم (ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)، والأخيرة هى الأغاني وما يعزف فيه من آلات الملاهي.
رابعا: فتوى مستقلة لمحمد بن صالح العثيمين، وقال إن الاستماع للموسيقى والأغاني حرام ولا شك في تحريمه وقد جاء عن السلف من الصحابة والتابعين أن الغناء ينبت النفاق في القلب واستماع الغناء من لهو الحديث والركون إليه.
خامسا: رد شامل من اللجنة الدائمة للفتوى برئاسة آل الشيخ، على مقال بعنوان “ونحن نرد على جرمان” بقلم أحمد المهندس رئيس تحرير العقارية يتضمن إباحة الغناء والموسيقى والرد على من يرى تحريم ذلك.
وهنا يظهر أن المؤسسات الدينية الرسمية في السعودية لا تقول إلا بتحريم الغناء والموسيقى منذ سنوات طويلة، وهو الرأي السائد في المملكة، حتى تعالت الأصوات التي تقول بغير ذلك.
والسؤال الأبرز هنا: هل يتعامل محمد بن سلمان مع فتاوى تحريم الغناء مثلما حدث مع فتوى منع قيادة المرأة للسيارة؟ إذ حذف فتاوى ابن باز من موقع اللجنة الدائمة للفتوى، فضلا عن استصدار فتوى من هيئة كبار العلماء تتماشى مع الأمر الملكي.
جدلية مع الإصلاحيين
في عام 2010، خرج الداعية عادل الكلباني بفتوى غريبة تماما، وغرابتها في صدورها من أحد الشيوخ بالمملكة، وأباح الاستماع إلى الغناء والمعازف.
وأكد الكلباني، في بيان له ردا على منتقدي فتواه، أن الغناء مباح بكل حالاته سواء كان بالموسيقى أو بدونها، شريطة ألا يصاحبها مجون أو سكر أو التلفظ بكلام ماجن.
وانتقد كل من اتهمه بالإتيان بشيء جديد، أو منتقدا إياه بشكل شخصي، مشددا على أنه لا نص صريحا في الكتاب أو السنة يحرم الغناء، معتبرا أن هذا الأمر كان مثار خلاف كبير بين الفقهاء في مختلف العصور.
وجاء الرد على الكلباني من الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى صالح اللحيدان، وقال: “على الشيخ عادل الكلباني أن يبقى في مسجده يؤم المصلين ويقرأ القرآن، ولا دخل له في مسائل الفتوى”.
ويرى القديمي أن التيار المحافظ هم “أولئك الذين يمثلون امتدادا للخطاب الشرعي التقليدي والحركي الذي سادت أفكاره ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهم اليوم أصحاب الصوت المرتفع في قضايا الاحتساب ومواجهة الأفكار والمشروعات سواء صدرت من الإصلاحيين الإسلاميين أو حتى من الليبراليين.
أما الإصلاحيون “فهم الذين يملكون خطابا شرعيا يرتكز على أولوية قيم النهضة والعدل والشورى والتنمية والتيسير الفقهي وبناء منظومات متكاملة للمحافظة على الهوية والأخلاق، بالإضافة إلى امتلاكهم رؤية شرعية واضحة المعالم في الحقول العقدية أو الفقهية أو الاجتماعية أو السياسية”.
سلسلة إجراءات تشير إلى العلمنة
وظهرت مؤشرات على تحولات السعودية إلى “العلمنة” والابتعاد عن الأحكام والفتاوى الدينية في إدارة الدولة، ومن أبرزها:
أولا: اليوم الوطني
وقطع التلفزيون السعودي البث عن عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان خلال الإجابة عن سؤال يتعلق بمشروعية الاحتفال باليوم الوطني السعودي، فاستهل جوابه بأن “الحجة ليست بفعل الناس ولو كثروا، الحجة بما جاء في الكتاب والسنة.. والنهي عن محدثات الأمور”.
ثانيا: نساء في الاستاد
وسمحت السلطات السعودية للمرة الأولى بدخول نساء إلى استاد رياضي خلال الاحتفال باليوم الوطني، في موقف غير معتاد وغريب على المملكة، التي تحذر من الاختلاط بين الجنسين.
ثالثا: قيادة المرأة للسيارة
وصدر أمر ملكي يجيز قيادة المرأة للسيارة في السعودية، وضرب القرار عرض الحائط بكل ما جاء من فتاوى حول عدم جواز هذا الأمر.
رابعا: حصول النساء على خدمات
وصدر أمر ملكي في مايو الماضي، يجيز حصول المرأة على الخدمات وعدم اشتراط الحصول على موافقة من ولي أمرها ما لم يكن هناك سد نظامي لهذا الطلب وفقا للشريعة الإسلامية.
خامسا: تهميش هيئة الأمر بالمعروف
وصدر تنظيم جديد خاص بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العام الماضي، يغل يدها في سلطة احتجاز المخالفين تماما، بما يعني تهميش دورها في المملكة بعد سنوات طويلة من العمل.
اضف تعليقا