العدسة – ربى الطاهر
أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس التونسي باجي قائد السبسي، حفيظة رجال الدين على مستوى العالم العربي، وتحديدا رجال الأزهر، الذين تصدوا لمثل هذه التصريحات ببيان يلغى فيه صحة ما أجازته دار الإفتاء التونسية، معلنين فيه أن دعوة الرئيس التونسي تتصادم مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وربما ما زاد من حدة الجدل الذي لم يتوقف عند الحدود التونسية، هو مشاركة دار الإفتاء التونسية (أعلى مؤسسة دينية في تونس) فيما اعتبره بعض رجال الدين على مستوى العالم الإسلامي أنه هراء، حيث أيدت كل مقترحات الرئيس السبسي، والتي كان منها المساواة بين الرجل والمرأة في شتى المجالات، بداية من الميراث ومرورا بحق زواج المسلمة التونسية من غير المسلم، وإلغاء المهر بموجب نص قانوني، كما أعطى المرأة الحق في منح اسمها لأبنائها إذا رغب الأبناء.
وبرز دور دار الإفتاء التونسية في خضم هذا الجدل، باعتبارها الشريك الأول في الأزمة حينما لم تعارض أو تنف مخالفة تصريحات السبسي لنصوص الدين، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إنها خرجت لتؤيد وتساند كل ما جاء في خطاب رئيس الجمهورية برغم وضوح معارضتها لنصوص الدين وعدم الاشتباه في مخالفتها الشرعية.
إلا أن تاريخ دار الإفتاء التونسية إنما يدل على انحيازه إلى الدولة منذ وقت بعيد مضى، ولا تعتبر تأييداته لتصريحات السبسي المخالفة للنصوص الدينية والفقهية أمرًا جديدًا أو مستغربًا، فقد بدأت مسيرة دار الإفتاء التونسية في اتباع رءوس الحكم التونسى منذ عقود.
ومفتي الجمهورية التونسية أو من كان يسمى مفتي الديار التونسية سابقا، هو المستشار والمسؤول الأول لدى الدولة المكلف بالشؤون الدينية والإسلامية، وديوان الإفتاء التونسي هو أعلى مؤسسة دينية في تونس، وهو المقر الذي يباشر منه المفتي عمله، وتم مراعاة قربه من مقر رئاسة الحكومة، حيث يتواجد في ساحة القصبة.
ورئيس الجمهورية التونسية هو المسؤول المباشر عن تعيين المفتي، وتعتبر دار الإفتاء من أقدم المؤسسات الوطنية التونسية التي تحمل صفة دينية، ومنصب المفتي كذلك من أقدم الوظائف ذات البعد الديني، وأداء مهامه تقع تحت إشراف رئيس الحكومة، كما يقوم بمساعدته في أداء أعماله عدة علماء وشيوخ وموظفين.
وأطلق على صاحب هذا المنصب “مفتي الديار التونسية”، وفقا للمرسوم المؤرخ في 28 فبراير 1957، ولكنه تغير بعد ذلك ليصبح “مفتي الجمهورية” حسب تعديل بهذا المرسوم يصدر آخر في 6 أبريل 1962، حيث تم تحديد ضبط مهامه.
ومنذ تأسيس دار الإفتاء التونسية تولى بها منصب الجمهورية المفتي ثمانية شيوخ بالتوالي وقد اشتهر عن هذه المؤسسة منذ بداية التأسيس بأنها لم تكن مطلقا مؤسسة مستقلة فقد كانت كل الفتاوى التي تصدر عنها مثيرة للجدل وموافقة لرأى النظام على طول الخط، فلم يحدث على مدار كل هذه السنوات منذ بداية عهد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ومن بعده بفترة رئاسة زين العابدين بن على، أن اعترضت المؤسسة على أي من القرارات الرئاسية المخالفة صراحة لقواعد الدين الإسلامي، باستثناء موقف واحد عزل فيه المفتي، ومنذ ذلك الوقت لم تتكرر هذه المعارضة.
بداية المخالفات في عهد بورقيبة
وقد بدأت تلك المعارضات الصارخة مع ثوابت الشريعة الإسلامية بمباركة مؤسسة دار الإفتاء في عهد بورقيبة عام 1956، عند صدور مجلة الأحوال الشخصية التي احتوت على العديد من التشريعات الصادمة لكافة المسلمين، وأثارت الاستياء، وخلقت ضجة على مستوى الإقليم بأكمله، حيث تعارضت مع نصوص الشريعة الإسلامية دون مواربة حين نصت على منع تعدد الزوجات، بالإضافة الى قوانين متعددة تخص أمور الزواج والطلاق، حيث نص كذلك على منع الطلاق إلا من خلال الإجراءات القانونية من خلال القضاء، وإلا فهو ليس معترفًا به، كما أباح التبني بنص قانوني، وسمح كذلك للمراة بالإجهاض، وكانت المادة (65) من القانون قد نصت على ترخيص عملية الإجهاض بعد الطفل الخامس، إلا أنه قد تم تعديلها فيما بعد، حتى لا ترتبط بعدد محدد من الأطفال.
وأصبحت تونس أول دولة عربية تمنع رسميا تعدد الزوجات، وإلى الآن لا تزال تونس ذات الأغلبية الإسلامية من البلدان القلائل التي تمنع تعدد الزوجات، ويعاقب الرجل الذي يقدم على اتخاذ زوجة ثانية بعقوبات زاجرة تصل أحيانا لحد السجن، وشملت مجلة الأحوال الشخصية تفاصيل العقوبات المنصوص عليها وحالات تطبيقها .
ونصت المادة القانونية على الآتي ..
يقول الفصل 18 ” تعدد الزوجات ممنوع ” ” فكل من تزوج وهو في حالة الزوجية، وقبل فك عصمة الزواج السابق يعاقب بالسجن لمدة عام، وبخطية قدرها مائتان وأربعون ألف فرنك…أو بإحدى العقوبتين…”.
ولصيانة المرأة التونسية المتزوجة من أجنبي من الرجوع إلى وضعية تعدد الزوجات التي حجرها التشريع التونسي، فقد أوجب الفصل 38 من قانون الحالة المدنية، الإدلاء قبل تحرير عقد الزواج بشهادة عزوبية أو شهادة طلاق.
كما نص (الفصل 13) على إجازة التبني حسب النص “يتمّ عقد التبني بحكم يصدره حاكم الناحية بمكتبه بمحضر المتبني وزوجه أو عند الاقتضاء بمحضر والدي المتبني أو من يمثل السلطة الإدارية المتعهدة بالولاية العمومية على الطفل الكفيل”.
وفي عام 1981 أصدر قانونًا سمي بالمنشور 108، والذي أمر فيه بمنع ارتداء النساء “الحجاب”، حيث اعتبره “زيا طائفيا” ينافي روح العصر وسنة التطوير السليم وليس فريضة دينية، وعمل على منعه بالمؤسسات التعليمية في الجامعات ومعاهد التعليم الثانوي، وتم تجديده بالمنشور 102 عام 1986.
والأكثر من ذلك محاولة منع التونسيين من أداء مناسك الحج في السعودية، ورأى أن ذلك إهدار للعملات الصعبة، ودعا إلى استبدال هذه الفريضة بزيارة مقابر أولياء الله الصالحين والتبرك بها بدلا من أداء فريضة الحج.
الصدام الأوحد مع النظام العلماني
ولم تشهد تونس أي صدام ما بين النظام ومؤسسة دار الفتوى، باستثناء ذلك الصدام الأوحد الذي حدث عندما قرر الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة منع صوم رمضان في عام 1962، بحجة زيادة الإنتاج ودعا لذلك بنفسه عندما قام بنفسه أمام شاشات التليفزيون بشرب كوب من الماء في نهار شهر رمضان، وهنا حدث صدام النظام والمؤسسة الدينية العليا في تونس “دار الإفتاء”، بعدما قام مفتى الجمهورية التونسية في ذلك الوقت، الطاهر بن عاشور، والذى وافته المنية في 1973، بتلاوة آية الصيام في الإذاعة الرسمية، ووجه الخطاب إلى التونسيين بتعقيبه عن ذلك الحدث بقوله: “صدق الله وكذب بورقيبة”، وهو ما دفع بورقيبة لإصدار قرار بعزله.
وكانت هذه هي الواقعة الوحيدة التي اعترض فيها مفتي الجمهورية على قرار للنظام، ومنذ ذلك الحين لم يحدث أن اعترضت دار الفتوى في تونس على أي قرار يتخذه هذا النظام العلماني، وحتى بعد ثورة 2011، التي صعدت بالإخوان المسلمين إلى الحكم “حركة النهضة”، ظلت دار الإفتاء التونسية على موقفها لا تأخذ أية قرارات مستقلة، بل إنها حاربت الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، واتخذت موقفا من الحركة الإسلامية.
وجاءت التصريحات الأخيرة للرئيس التونسي الحالي باجي قائد السبسي لتثير زوبعة في الأوساط الدينية، ويتوجه الانتقاد إلى دار الإفتاء التونسية التي أصدرت بيانا بإجازة مقترحات السبسى، وهو ما دفع “الفاضل عاشور”، الكاتب العام لنقابة الأئمة، من خلال تصريحات إعلامية إلى مطالبة المفتي عثمان بطيخ، والذى تم تعيينه في 2016 مفتيا لتونس، بتقديم استقالته بناء على ما جاء به البيان الذي نشر على الصفحة الرسمية لديوان الإفتاء.
وقد قام الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي بعزل عثمان بطيخ، والذي تولى منصب مفتي الجمهورية في الفترة من 2008 إلى 2013، وتعيين الدكتور حمدة سعيّد مفتيا جديدا، حيث تصدى لاعتلاء الائمة المخالفين لآرائه المنابر، وقام بحركة واسعة لإقالة معظمهم، وكان من بينهم رضا الجوادي إمام مسجد سيدي اللخمي بصفاقس، حيث كان المفتي الحالي لتونس عثمان بطيخ من أكثر الأعداء للإخوان المسلمين ولفترة حكمهم.
ودفع ذلك الرئيس المرزوقي، لإقالته بعدما أثار حفيظة أعضاء حركة النهضة ضده، وأصبح العداء هو العلاقة المتبادلة، إلا أنه بتولي الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي عادت الأمور إلى ما كانت عليه، حيث أعاده مرة أخرى لمنصب المفتي في العام 2016.
اضف تعليقا