جلال إدريس

على قدم وساق، تعمل الحكومة المصرية على إخلاء منطقة مثلث “ماسبيرو” بالكامل، وذلك بحلول شهر يوليو، تمهيدًا لتسليمها للشركات الخليجية، التي نجحت بعد سنوات طوال في الاستيلاء على “قلب القاهرة” بعد أن وافقت حكومة السيسي على بيع أكثر من ثلثي مساحة أراضي “ماسبيرو” لهم.

وبينما تزعم الحكومة أن إخلاء منطقة “ماسبيرو” بالقوة وإجبار الأهالي على ترك منازلهم، الهدف منه هو تطوير تلك المنطقة العشوائية، التي تتوسط القاهرة، يؤكد الأهالي ومعارضون ومراقبون أن الدولة لا تريد التطوير بقدر ما تريد “الرز” الخليجي، “أي الأموال الخليجية” التي ستدفعها لهم الشركات الكويتية والسعودية والإماراتية التي وضعت يدها على “ماسبيرو”، في مشهد أقرب بتنازل مصر عن جزيرتي “تيران وصنافير”.

ومثلث “ماسبيرو”، هو منطقة سكنية تقع في منتصف القاهرة، وتفصلها أمتار قليلة عن نهر النيل، وعدة أمتار أخرى تفصلها عن ميدان التحرير، والمتحف المصري، ما يجعلها مثيرة للعاب أي مستثمر.

وظلت تلك المنطقة، حلمًا لرجال الأعمال المصريين والعرب، وترددت قصص كثيرة عن محاولات من كبار رجال الأعمال -مثل نجيب وسميح ساويرس- السيطرة على المنطقة، وإقناع الأهالي بقبول تعويضات وتركها، لكن دائمًا ما كانت تبوء هذه المحاولات بالفشل، حتى جاء عبدالفتاح السيسي واستخدم أسلوبه المعهود في تهجير الأهالي وإخلاء المناطق بالقوة، ليبيعها للكفيل الخليجي، مقابل استمرار الدعم المتدفق على حكومته.

الحكاية من البداية

ترجع قصة المنطقة إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأت محاولات من شركات سعودية وكويتية للاستيلاء عليها بحجة أنها منطقة عشوائية، ولا تصلح للحياة الآدمية في القرن العشرين، قبل أن يتصدى السكان لهذه المحاولات.

وقبل ثورة 2011، حاولت الحكومة إخلاء المنطقة عبر تعويض السكان، وقد تم التسعير على أساس الوحدات آنذاك، حيث وصلت إلى 20 ألف جنيه (كانت تساوي حوالي 4 آلاف دولار)، وقد حصل البعض على التعويض ورفض البعض الآخر، ثم قامت الثورة فرفض الجميع إخلاء المكان، بمن فيهم من تسلموا التعويضات.

ووعدت الحكومة آنذاك السكان بنقلهم إلى مساكن بديلة، لكنهم اعترضوا على أن هذه المساكن كانت بعيدة جدًّا عن المنطقة.

وفي عام 2015، تم تثمين المنطقة كأرض فضاء بـ 120 مليار جنيه (الدولار كان أقل من 10 جنيهات)، وتم تقدير سعر المتر المربع من الأرض بنحو 40 ألف جنيه، بحسب مسؤول حكومي.

ورغم وجود اتفاق مبدئي على هذه القيمة، فإن سياسات التعويم التي أوصلت الدولار إلى 18 جنيهًا، دفعت الأهالي (أكثر من 20 ألف نسمة) للمطالبة بمضاعفة قيمة المتر المربع، وقد تم لاحقًا زيادة قيمة الغرفة إلى 100 ألف جنيه.

لكن الأزمة ظلت مستمرة؛ حيث يتشكك المواطنون البسطاء من سكان تلك المنطقة في تسليم الحكومة لهم التعويضات التي وعدتهم إياها، كما أن حكومة السيسي ومحافظة القاهرة وضعت شروطًا تعجيزية لإثبات ملكية الأراضي.

تهجير قسري

ومع مطلع العام الجاري قررت حكومة السيسي إخلاء منطقة “ماسبيرو” بالكامل، للبدء في خطة التطوير التي تدعيها الحكومة، حيث قررت أن يكون يونيو القادم آخر موعد للإخلاء والهدم.

وبالقوة خرج الأهالي من المنطقة، وهم يرون أنهم يتعرضون لعملية تهجير قسري، حيث وضعت الدولة أمامهم خيارات صعبة، وتعويضات مجحفة، وفوق هذا وذاك، أجبرتهم على ترك منازلهم بقوة السلاح، ومن يعترض مصيره السجن.

ووفقًا لمسؤولين بالحكومة، فقد تم إخلاء المحلات التجارية بنسبة وصلت إلى نحو 60%، بينما تجاوزت نسب الإخلاء في المنطقة السكنية 95% من «مساحة مثلث ماسبيرو».

وتعد سياسة التهجير هي سياسة دائمة ومستمرة لحكومة السيسي، حيث لا تمانع في التفريط في أراضي المصريين من أجل استمرار الدعم الخليجي للحكومة.

أهالي “جزيرة الوراق” أيضًا يواجهون الحكومة التي تسعى لتهجيرهم بحجة تطوير الجزيرة، إلا أن الحقيقة أن الدولة باعتها لشركات إماراتية.

وترددت معلومات عن تعاقد الحكومة المصرية مع شركة إماراتية لتطوير “جزيرة الوراق” وتحويلها إلى مركز مال وأعمال، ما يستدعي إخلاء الجزيرة التي تعد أكبر الجزر النيلية وأكثرها ازدحامًا من حيث عدد السكان، حيث يقطنها نحو 100 ألف نسمة.

تعويضات مجحفة

وكان عدد سكان منطقة “ماسبيرو” 3500 أسرة، بإجمالى 14 ألف ساكن، بالإضافة إلى نحو 850 محلًّا تجاريًّا، يعتمد عليها السكان بشكل رئيسي في معايشهم، الأمر الذي دفعهم للتمسك بها.

ووفقًا لخبراء فإن القيمة الإجمالية لأراضي منطقة مثلث “ماسبيرو” نحو 7 مليارات دولار، كما تصل قيمة الأراضي المطلة على شارع الجلاء، الذي تقع في نطاقه القنصلية الإيطالية، نحو 140 مليون دولار، ويصل سعر المتر في المنطقة نحو 2270 دولارًا.

في مقابل ذلك، فإن الدولة قررت تعويض الأهالي بما لا يزيد عن 500 مليون جنيه، أي أن الدولة أخذت الأراضي من الأهالي بثمن بخس.

ويشكو أهالى “ماسبيرو” من تعثر صرف التعويضات المستحقة من قبل الحكومة، سواء كانت عبارة عن تعويض نقدي مقابل تركهم محل إقامتهم، أو بدل انتقال لحين عودتهم لموطنهم الأصلي بعد التطوير، والذي تم تحديد المدة الزمنية له بثلاث سنوات، واصفين حالتهم بأن مستحقاتهم ردمت تحت أنقاض مباني “ماسبيرو”، مؤكدين أنهم يقضون أيامهم «كعب داير».

السيادة للكفيل الخليجي

ويرى مراقبون أن كل ما فعلته حكومة السيسي، هو من أجل استرضاء الكفيل الخليجي، الذي ينفق على السيسي وحكومته منذ وصوله للسلطة عشرات المليارات، ليأتي وقت رد الجميل من نظام السيسي، عن طريق السماح للمستثمرين الخليجيين بتوسيع نفوذهم الاقتصادي في مصر.

وتبلغ المساحة الإجمالية للمنطقة 84 فدانًا، تشمل مبنى الإذاعة والتليفزيون، ومقر وزارة الخارجية المصرية، والقنصلية الإيطالية، بينما تصل المساحة المستهدف تطويرها إلى 51 فدانًا، وسيتم تخصيص 10 أفدنة منها لبناء العمارات المخصصة للأهالي الذين يفضلون الاستمرار.

وتمتلك الدولة حاليًا نسبة 10% فقط من مساحة المنطقة، في حين تخضع 25% من الأرض لملكية الأفراد، بينما تبقى المساحة المتبقية مملوكة لشركتين سعوديتين وشركتين كويتيتين، بالإضافة إلى شركة “إعمار” الإماراتية (الأخيرة دخلت في شراكة مؤخرًا)، وأيضًا لشركة “ماسبيرو” للتنمية العمرانية.

هذه الشركات، كما يقول مسؤولون حكوميون، هي التي تضغط للحصول على المنطقة كلها لتنفيذ مشروعات عقارية فاخرة بها.

وتمتلك عائلة “المطوع” الخليجية أكبر نسبة من أراضي المنطقة، حيث دفعت أموالًا كثيرة في مقابل الحصول على الأرض «الكنز».

ويرى خبراء أن المخطط المستهدف هو تحويل هذه المنطقة إلى ما يشبه “الريفييرا”، أي أنها ستكون حكرًا على أثرياء الأثرياء، “ولن يسمح بمجرد المرور في شوارعها، وليس استغلالها في البيع والشراء كما هي الآن”.

فيما يرى آخرون أن هناك مسعى لإقامة نموذج مصغر من إمارة دبي بالمنطقة، بحيث تتحول المنطقة إلى ما يشبه الفندق الفاخر الذي تتم فيه أمور السياسة والاقتصاد تحت غطاء السياحة”.