العدسة – منذر العلي

على مدار عقود ترسخ في أذهان العرب والمسلمين أنّ رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الراحل “إسحاق رابين” هو رجل السلام الذي أوقف تاريخًا من الحروب واغتيل على يد متطرف صهيوني رافض للسلام.

لكن ربما لا يتحدث كثيرون عن حقيقة الدور الذي لعبه الرجل في خدمة الصهيونية، في ساحات المعارك ضد العرب والفلسطينيين، أو في اغتيال القادة، أو حتى كسياسي سعى عبر مبادرات السلام ليس للسلام ذاته، بل لتحقيق ما عجز الاحتلال عن تحقيقه بالحرب.

عقلية صهيونية من العيار الثقيل استطاع أن يتحول من زعيم عصابات وإرهابي صهيوني يذبح الفلسطينيين في الأربعينيات مثل سلفه “مناحم بيجين” إلى رجل سلام، نجح في تمكين إسرائيل من الهيمنة على الشرق الأوسط، وتغلغلها في العالم العربي من خلال اتفاقيات اقتصادية، وعلاقات ثقافية، بعيدًا عن آلة الحرب.

فحينما بدأ “مسيرة السلام” مع الفلسطينيين (أوسلو 1993) والأردنيين (وادي عربة 1994) فإنه كان يرغب بسلام يعزز أمن كيان الاحتلال ويثبت وجوده في المنطقة العربية ويجعل منه في النهاية القوة الأولى المهيمنة.

فقد عاش حياته يؤمن بأحقية دولة إسرائيل في الوجود، ويدافع عن كيانها على حساب الحقوق العربية, وأثرت في توجهاته الفكرية الأفكار الصهيونية التي آمن بها والده ووالدته في مقتبل حياتهما، ونمط التعليم الذي تلقاه في صباه في مدارس “الهستدروت”، وعضويته في عصابات “الهاجانا”.

ولعل الحفل التأبيني الذي أحيت فيه إسرائيل، الأربعاء، الذكرى الـ22 لاغتيال رابين، توجب تسليط الضوء على حقيقة الرجل، وتاريخه الأسود في خضم الصراع العربي الإسرائيلي.

نشأة صهيونية لبطل النكسة

ولد إسحاق رابين في القدس عام 1922 لأبوين هاجرا من روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان والده أحد أعضاء حركة “عمال صهيون” هناك، ومنها هاجر والده إلى فلسطين عام 1917 ضمن المهاجرين الأوائل.

التحق رابين بمدرسة ابتدائية أنشأتها الهستدروت أو “اتحاد العمال الصهيوني” ودرس الزراعة في مدرسة “كادوري”، التي كانت محاطة بالقرى العربية وكان من اهتمامات الطلاب القيام بنوبات حراسة وتدريبات دفاعية.

وفي هذه الأثناء انخرط في قوات البالماخ الصهيونية (سرايا الصاعقة) التي أنشئت عام 1941 وكان من أوائل الشباب النشط الذي التحق بهذه القوات ووصل إلى منصب نائب الرئيس بعد  سنوات فقط، فيما أصبحت تلك القوات بعد ذلك الذراع الضاربة لعصابات “الهاجانا” التي ارتكبت جرائم وحشية في فلسطين مثل مذبحة “دير ياسين” و”كفر قاسم”، كما لعب “رابين” دورًا مهمًا في حرب 1948 والتي أسفرت في نهايتها عن قيام دولة إسرائيل.

ارتبط في تلك الفترة بحزب “المابام” وحركة “مزارع الكيبوتس” وبعدما حل “ديفيد بن جوريون” البالماخ عقب إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948 كون رابين وقادة البالماخ من أمثال بارليف وأليعازر وهود نواة “جيش الدفاع الإسرائيلي”.

وفي الفترة بين 1951 و1952 ظهر جهد رابين في جيش الاحتلال بقوة عن طريق معسكرات الإيواء التي وفرها آنذاك لاستقبال 100 ألف مهاجر يهودي قدموا من مختلف الدول العربية والإسلامية للاستقرار في الدولة الوليدة.

وبعد نجاحه في إقامة معسكرات الإيواء أوفده جيش الاحتلال إلى كلية الأركان في بريطانيا التي تخرج فيها عام 1954 ليتولى إدارة التدريب في الجيش، وفي الفترة بين عامي 1956 و1959 تولى قيادة المنطقة الشمالية.

عمل رابين نائبًا لرئيس أركان جيش الاحتلال طوال الفترة بين 1961 و1964 ثم رئيسًا للأركان بين 1964 و1968 وهي الفترة التي شهدت نكسة 1967، وضم الاحتلال لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وهضبة الجولان السورية إضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، وأصبح رابين بعد هذه الحرب بطلًا قوميًا في إسرائيل.

قمع الانتفاضة واغتيال “أبو جهاد”

في عام 1984 تكونت في إسرائيل حكومة وحدة وطنية واختير “رابين” وزيرًا للدفاع، وكان من أهم القرارات التي اتخذها انسحاب إسرائيل من لبنان مع الاحتفاظ بشريط حدودي لحماية أمن الاحتلال في المنطقة الشمالية.

وقاد حملة القمع التي تبناها الاحتلال في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى “انتفاضة الحجارة” عام 1987، وحاول إخمادها بتجنيد 80 ألف جندي واستخدم وسيلة “تكسير العظام” لمحاولة إثناء نحو نصف مليون فلسطيني عن الثورة ضد المحتل الغاصب، لكنه فشل في نهاية المطاف.

كما شارك رابين في عمليات اغتيالات وتصفيات جسدية حتى وهو يشغل منصب وزير الدفاع، كما حدث في اغتيال الزعيم الفلسطيني خليل الوزير “أبو جهاد” في تونس عام 1988، عندما تعاون الجيش مع “الموساد” على تنفيذها، وكان رابين هو ممثل الجيش في العملية.

ويروي “جوردون توماس” في كتابه “جواسيس جدعون” عن التاريخ السري للموساد، كيف اشترك “رابين” في تصفية أبو جهاد، فيقول: “بعد التأكد من الدور القيادي الذي يلعبه أبو جهاد في إضرام نار الانتفاضة الفلسطينية، قرر رئيس الموساد تصفيته بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية..”.

ويمضي الكاتب قائلاً: “وفي الموعد المحدد لتنفيذ العملية أقلعت طائرة مدنية (بوينج 707) من مطار حربي قرب تل أبيب وعلى متنها وزير الدفاع إسحاق رابين وجنرالات عديدين, في حين تسللت العناصر الضاربة قبل يوم واحد من طريق البحر واختبأت في ضاحية تونس العاصمة”.

واستنادًا إلى مصادر إسرائيلية يقول جوردون في كتابه: “الطائرة التي أقلت رابين كانت مزودة بأجهزة متطورة جدًا، بحيث إن آلات التنصت المزروعة في منزل قائد الانتفاضة، نقلت إلى المراقبين من الجو صوت وقع الأقدام داخل غرف النوم وكان رابين يراقب من الطائرة بواسطة عدسات مكبرة، كل ما يجري تحته على الأرض قرب سيارة المرسيدس التي قدمها ياسر عرفات لصديقه أبو جهاد في عيد ميلاده”.

وبعد خلع قفل البوابة الخارجية، واغتيال سائق المرسيدس بمسدس صامت، اقتحمت عناصر الموساد والجيش الاسرائيلي المنزل لتبدأ بقتل الحارسين، وتتوجه نحو غرفة الجلوس حيث كان أبو جهاد يشاهد برنامجًا تلفزيونيًا.

الفصل العنصري فكرته

ووفق تقارير فلسطينية، فإن فكرة “الجدار العازل” أو جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل بعد سنوات من رحيل رابين لعزل المناطق الفلسطينية الآهلة بالسكان عن الأراضي المحتلة وعن بعضها البعض، ليست بالجديدة، بل من نبت أفكار رابين وتعود إلى عهده عندما كان رئيسًا للوزراء، فأثناء مفاوضات السلام مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قال: “أخرجوا غزة من تل أبيب”.

واستخدم “رابين” مصطلح “الفصل” لأول مرة في معرض رد فعله على العملية الاستشهادية التي وقعت أواخر شهر يناير عام 1995 في مفترق “بيت ليد”، والتي أسفرت عن مقتل 21 جنديًا إسرائيليًا، حيث قال رابين: “إننا نعمل بجد ونشاط من أجل الانفصال عن الشعب الآخر الذي نسيطر عليه وإننا سوف نصل إلى هذه الغاية إن عاجلاً أو آجلاً”.

وتابع رابين: “إننا لن نعود إلى خطوط عام 1967، ولن ننسحب من القدس ولن نتزحزح عن غور الأردن”، واللافت في هذا الصريح أنه جاء واتصالاته مع الفلسطينيين جارية لتنفيذ ما تم التوقيع عليه في اتفاقية أوسلو.

وبدأت حكومة رابين بتنفيذ الخطوات الأولى لسياسة الفصل عن طريق فرض الأطواق الأمنية على الأراضي الفلسطينية، وتدعيم نقاط العبور بأجهزة المراقبة وقوات الجيش وحرس الحدود، والفصل التام بين الضفة الغربية وقطاع غزة في كثير من الحالات خصوصًا في أعقاب العمليات الاستشهادية.

هذه الإجراءات خلفت أثارًا سلبية على مجمل حركة المجتمع الفلسطيني على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فتدنى معدل النمو، وازدادت نسبة البطالة، وارتفع خط الفقر، وانعدم التواصل الجغرافي بين المدن والقرى الفلسطينية.