بسهولة كبيرة تقبلت وسائل الإعلام العربية والدولية الادعاء الأميركي بأن إسرائيل الرسمية لن تشارك في مؤتمر المنامة المخصص للترويج للشق الاقتصادي من خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة باسم “صفقة القرن”، وكأنه أمر مسلم به، فيما رددت وسائل الإعلام في دولة الاحتلال الزعم الأميركي بأن إسرائيل الرسمية لم تدع للمؤتمر الذي يعقد تحت مسمى “ورشة العمل للسلام والازدهار”، وأن من تمت دعوتهم هم من رجال الأعمال، تحت ضغط الدول العربية التي تعارض مشاركة رسمية لإسرائيل.

لكن الحضور الإسرائيلي هو عملياً الأكبر بالرغم من غياب الصفة الرسمية، لأن من يمثل دولة الاحتلال في هذه “الورشة” ليس سوى منسق أنشطة الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلتين، وهو الجنرال يوآف مردخاي، الذي أنهى مهامه الرسمية قبل عدة أشهر فقط. حيثيات الرجل والدور الذي اضطلع به في السنوات الأخيرة يقفان وراء اختيار الأميركيين له لدعوته للورشة الاقتصادية، فيما لا يمثل الرجل برصيده على مرّ ثلاثة عقود من حياته على الأقل، سوى البعد العسكري والأمني الاستخباراتي في جيش الاحتلال، وفي نظرته كمنسق أنشطة الاحتلال لتصورات الحل الممكن مع الفلسطينيين.

ومع أن الإعلام العربي والإسرائيلي تلقف في الأيام الأخيرة وروج لمقولة “عدم دعوة مندوبين رسميين عن إسرائيل”، إلا أن صحيفة “يسرائيل هيوم”، الناطقة بلسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، كانت قد أبرزت في 18 يونيو/ حزيران الحالي، أن الجنرال مردخاي الذي تطرح مشاركته كرجل أعمال، لتفادي الحرج العربي، سيكون الشخص الذي يمثل إسرائيل في مؤتمر البحرين. وكانت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” قد أشارت في نسختها العبرية إلى أن الجنرال مردخاي يشغل اليوم منصب “رئيس مجموعة نوفارد التي تختص بالبنى التحتية والمساعدات الإنسانية في العالم العربي (باستثناء قطاع غزة والضفة الغربية)”، وهو ما يفسر أيضاً قول صحيفة “يسرائيل هيوم” إن للجنرال مردخاي علاقات قوية في العالم العربي مقابل كونه شخصية غير محبوبة على الإطلاق في الجانب الفلسطيني.

وإذا كان البعد العسكري والأمني الذي يمثله مردخاي مغيباً (إعلامياً دون إبراز هوية أو طبيعة نشاطه الحالي الذي يخوله صفة مشاركته كرجل أعمال)، فإن خطته لحل مشاكل غزة ودعوته لخطة “مارشال” لحل انسداد الأفق في وجه حل “معضلة غزة”، موثقة في دراسة شاملة نشرها ضمن فصلية التقدير الاستراتيجي في عدد أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2017 الصادر عن مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب.

وقبل الخوض في خطة “مارشال” التي يطرحها مردخاي، وتلائم إلى حد كبير ما تدعي “ورشة البحرين” تحقيقه من دفع للعلاقات الاقتصادية والتطبيع تمهيداً للوصول إلى الشق السياسي في خطة إملاءات ترامب، ينبغي عدم إغفال الإشارة إلى الشخص الآخر الذي أبرزت الصحف الإسرائيلية حقيقة دعوته لمؤتمر البحرين، ويمثل في الواقع جانباً آخر في غطاء التطبيع الذي يشكله المؤتمر، وهو البروفيسور يتسحاق كرايس، دون أي إشارة لسبب دعوته. وهدف عدم إبداء سبب هذه الدعوة التغطية على حقيقة كون مستشفى “شيبا – تل هشومير” الذي يديره يعتبر من المستشفيات الأبرز في إسرائيل التي تنشط في مجال “السياحة الطبية” ولا سيما إجراء عمليات جراحية معقدة في مجال القلب، لشخصيات مختلفة من الأسر الحاكمة في بعض دول الخليج.​

عملياً يمكن القول إن إبراز مشاركة الشخصيتين أعلاه وحدها كافية لجلاء الحضور الإسرائيلي في المؤتمر بما يمثل سياسة دولة الاحتلال ونظرة حكومة اليمين الحاكم لمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي وفصل القضية الفلسطينية عن هذا الصراع، وتكريس مقولة إن الدول العربية ملّت من هذا الملف وهي جاهزة للمضي قدماً نحو بناء علاقات ثنائية مع دولة الاحتلال بمعزل عن القضية الفلسطينية.

ولعل ما يعزز هذا القول في اليومين الماضيين هي تصريحات مستشار الرئيس الأميركي جاريد كوشنر، أمس، لقناة الجزيرة، التي أعلن فيها صراحة أن مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا تتبنى المبادرة العربية بل هي أقرب إلى تسوية بين الموقف الإسرائيلي ومقترحات المبادرة العربية، التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2000 ونصت على تحقيق سلام شامل مع إسرائيل وتطبيع في العلاقات معها مقابل دولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس مع ضمان حق العودة.

ويعني تصريح كوشنر تحويل المبادرة العربية إلى نقطة لبداية المفاوضات وليس نهايتها، مقابل منح إسرائيل حق الاعتراض عليها وانتزاع مزيد من التنازلات العربية، وهو ما ينسجم مع سياسة نتنياهو الثابتة منذ عودته للحكم عام 2009 في رفض مبدأ الدولتين، وهو ما كان نتنياهو يتجنب إشهاره في عهد الإدارات الأميركية السابقة، ولا سيما خلال فترتي ولاية أوباما، رغم إعلانه ذلك في خطاب بار إيلان المشهور. وقد كشف نتان إيشيل، الذي كان مديراً لديوان نتنياهو، بعيد خطاب الرئيس الأميركي دوناد ترامب العام الماضي في القدس مع نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة، أن خطاب بار إيلان كان مجرد مناورة لجأ إليها نتنياهو للتخلص من ضغوط إدارة أوباما.

 وعزز نتنياهو حقيقة حضور دولة الاحتلال في ورشة المنامة عندما أعلن أن لإسرائيل علاقات جيدة علنية وسرية مع دول عربية مختلفة لا تقيم معها علاقات دبلوماسية، مضيفاً أن إسرائيل ستكون مشاركة في المؤتمر.

كل هذه التصريحات، مع احتفاء الإعلام الإسرائيلي بدعوة ستة صحافيين إسرائيليين لتغطية المؤتمر، تؤكد حجم الحضور ببعده السياسي الذي تشكل “ورشة البحرين الاقتصادية” بمجرد تنظيمها ترجمة للرؤية السياسية لدولة الاحتلال ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو. وقد كان لافتاً في هذا السياق أيضاً تجند الإعلام الإسرائيلي لإخلاء ساحة دولة البحرين وحكومتها من المسؤولية عن التطبيع الإعلامي، عندما أبرزت الصحف الإسرائيلية أن دعوة الصحافيين تمت من قبل الإدارة الأميركية نفسها، وأن اختيار الصحافيين كان من قبل البيت الأبيض، وهو ما يوحي بالضرورة بوجود تنسيق بين البيت الأبيض وديوان نتنياهو أو السفارة الإسرائيلية في واشنطن بشأن “انتقاء” الصحافيين الذين تمت دعوتهم.

هذا الجهد المبذول بشكل ملفت ومعلن يؤكد في واقع الحال البعد السياسي لمؤتمر البحرين، وكون العامل الاقتصادي هو الغطاء لعملية التسوية السياسية القائمة على تصفية القضية الفلسطينية من خلال خطة مارشال اقتصادية تقايض الوطن بتحسين ظروف المعيشة.

ويقود هذا إلى العودة لخطة مارشال التي طرحها الجنرال مردخاي في مقالة موسعة ضمن فصلية التقدير الاستراتيجي لمركز أبحاث الأمن القومي في 2017. يقول مردخاي في دراسته “إننا نقصد إدراج مبادرات واستثمارات دولية جادة تمكن من إعمار وتغيير حقيقيين – اقتصادي وفي الوعي – ودون تمكين (حركة) حماس من معارضتها أو منعها. زيادة على ذلك يفترض أن تدرج هذه العملية بمسار تسوية أمنية واقتصادية وحل للمسائل المطروحة على الأجندة العامة مع مبدأ تقليص القوة العسكرية لحكم حماس ووقف مسألة اشتراط العملية بإعادة الأسرى والمفقودين من عملية الصخر الجارف. نطمح لخلق معادلة لن يكون مجدياً للأطراف المختلفة معارضتها وسيكون من مصلحتها تبنيها وتلقفها”.

وفوق كل هذا لا يمكن إغفال تصريحات نتنياهو الأخيرة، في معرض تعليقه على المقاطعة الفلسطينية لمؤتمر البحرين ورفضهم لخطة ترامب، عندما قال إننا “سندرس المبادرة الأميركية بانفتاح وبانصاف” بدون أن يعلن التزاماً بقبول هذه المبادرة، بما يؤكد استراتيجيته في كسب الوقت، لفرض مزيد من الحقائق على الأرض، دون إعلان موقف مما هو مطروح، مكتفياً بالركون إلى الموقف الفلسطيني المعارض للخطة، فيما تكون أوجه التطبيع المختلفة قد باتت أمراً عادياً لا يثير ردوداً حازمة، لأن الكل ينتظر المبادرة المقبلة. ولعله لن يكون مجافياً للحقيقة أن مجرد الحضور العربي في البحرين وفقاً للنوتة الأميركية والإسرائيلية بمفهوم السلام الاقتصادي هو أكبر حضور مساند لإسرائيل ولموقفها الرافض لحل الدولتين وللمبادرة العربية ومبدأ الأرض مقابل السلام واستبدال ذلك بالمال مقابل السلام.