لقد أظهر بيانان أردني وإسرائيلي اختلافًا واضحًا بشأن نتائج وأهداف اللقاء الأخير بين ملك الأردن عبدالله الثاني، ووزير دفاع الاحتلال بيني غانتس، ضمن مسلسل أدوار عمان المتأرجحة تجاه القضية الفلسطينية.
فبينما أكد الديوان الملكي الأردني “ضرورة التهدئة الشاملة في الأراضي الفلسطينية، وإيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام وفق حل الدولتين”، قال غانتس عبر تويتر: “التقيت الملك وشكرته على جهوده في الحفاظ على الاستقرار والتطبيع”. وأضاف غانتس: “بحثنا قضايا أمنية وسياسية واقتصادية وأنا شكرته على تعميق العلاقات الإستراتيجية مع حكومتنا”.
ويأتي هذا اللقاء الذي عقد بعمان في 5 يناير/ كانون الثاني 2022، وغيره من الخطوات لينهي جفاءً واضحًا شهدته العلاقات بين الأردن وإسرائيل في عهد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو (2009-2021)، لدرجة دفعت الملك عبدالله إلى وصفها خلال جلسة حوارية في الولايات المتحدة بأنها “في أسوأ حالاتها”.
كما جاء اجتماع عمان بعد أسبوع واحد فقط من لقاء غانتس برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في اجتماعهما الثاني منذ أغسطس/ آب 2021.
لكن هذا التقارب المتسارع في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، نفتالي بينيت، يثير انتقادات محلية وعربية بالنظر إلى دور عمان المنتظر تجاه القضية الفلسطينية، ووصايتها على المقدسات في الأراضي المحتلة، من خلال دائرة أوقاف القدس التابعة للأردن.
ويمكن ملاحظة هذا التقارب عبر عدة شواهد تدل، بحسب مراقبين، على أداء الأردن دورًا بروتوكوليًا وبيانات معهودة يطالب فيها بإنهاء الاستيطان وحل الدولتين، وفي نفس الوقت يعمق علاقاته مع الاحتلال.
معهد السياسة والاستراتيجية التابع لمركز “هرتسليا” العبري عقب على لقاء وزير الجيش مع الملك بالقول: “الأردن يعد ذخرًا إستراتيجيًا هائل لأمن إسرائيل”.
بدوره، نقل موقع “واللا” العبري عن مسؤولين إسرائيليين أن “أهم موضوع طُرح خلال اللقاء هو التعاون الأمني بين الجانبين في مواجهة الأوضاع بسوريا وبناء على مبادرة الأردن”.
وفي هذا الجانب تحديدًا، قالت صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية في 5 يناير: “لا تمتلك إسرائيل والأردن آليات قوية للتنسيق الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية فيما يتعلق بالتهديدات المشتركة فحسب، ولكن وفقًا لتقارير أجنبية، سمحت عمان للطائرات الإسرائيلية باستخدام مجالها الجوي خلال فترة الحرب داخل سوريا”.
أما النائبة في الكنيست (البرلمان) روت لانداو، فعلقت في تغريدة بموقع تويتر على اللقاء بالقول: “علينا توظيف اتفاقات التطبيع في تعزيز علاقاتنا مع مصر والأردن، اللتين نتقاسم معهما مصالح أمنية مهمة”.
ووفق إعلام عبري، التقى غانتس والملك عبد الله في وقت سابق قبل الانتخابات الإسرائيلية في فبراير/شباط 2020، كما اجتمع الملك مع نفتالي بينيت بشكل سري بالعاصمة عمان في يوليو/تموز 2021.
وأيضًا استقبل العاهل الأردني في سبتمبر/ أيلول من ذات العام، الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. وأعلنت الحكومة الإسرائيلية الحالية منذ تشكيلها في يونيو/ حزيران 2021، أن تطوير العلاقات مع الأردن ومصر من أولوياتها.
وبحسب ما نشرت وسائل إعلام عبرية وقتها، فإن بينيت والملك عبد الله اتفقا على فتح صفحة جديدة في العلاقات والعودة إلى الحوار الطبيعي بين الطرفين، بعد توتر الأجواء بين الجانبين خلال السنوات الماضية.
وفي محاولة لتعزيز العلاقات، وقع الأردن والإمارات وإسرائيل، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 “إعلان نوايا” للدخول في عملية تفاوضية خلال العام الذي يليه، وذلك للبحث في جدوى مشروع مشترك للطاقة والمياه.
وبحسب الإعلان، من الممكن أن يحصل الأردن على 200 مليون متر مكعب من المياه سنويًا. في المقابل، أورد الحساب الرسمي للقنصلية الإسرائيلية في الإمارات، أن البلدان الشريكة وقعت اتفاقية لمقايضة الطاقة بالمياه، خلال حفل أقيم في جناح الدولة الخليجية بـ”معرض إكسبو دبي”.
وفي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2021، نشر مصور ألماني على الإنترنت لقطات بغير قصد، تشير إلى مشاركة الأردن بشكل سري في مناورات “العلم الأزرق” الجوية، والتي نفذتها إسرائيل بمشاركة عدد من الدول. وحتى نشر الصور، ظلت مشاركة الأردن في التمرين نصف السنوي الذي يستمر أسبوعين سرًا لم يكشف عنه رسميا من قبل.
وفي يوم اللقاء الأخير بين الملك وغانتس، قالت صحيفة “جيروزاليم بوست” إن “العمق الإستراتيجي الذي قدمه الأردن والذي لم يدخل في أي تحالف مع دول مجاورة معادية لإسرائيل، أبقى حدودنا الشرقية الأطول في هدوء وأمان منذ عقود”.
وأضافت أن “كلا البلدين يدرك أنه في حالة فشل العلاقات الأمنية، فلن يواجه الملك عدم الاستقرار في الداخل فحسب، بل قد يمتد العنف عبر الحدود إلى إسرائيل”.
أسباب التقارب
يرى الكاتب الأردني بسام البدارين أن عمان تتجاوب بمرونة مع رغبة الرئيس الأميركي جو بايدن التي كانت واضحة في اتجاهين، الاتجاه الأول، هو الحفاظ على التهدئة في الضفة الغربية، ثم الاستمرار في إدارة علاقات أقل صخبا بين الإسرائيليين من جهة، والأردنيين والفلسطينيين من جانب آخر.
أما الاتجاه الثاني، فهو الإلحاح على التركيز في اتجاهات تحسين مستوى التفاعل الاقتصادي وسبل العيش في الأرض المحتلة، وهو ما تطرقت إليه “الاستقلال” سابقًا فيما أصبح يطلق عليه “إدارة الصراع وتقليصه وليس حله، وذلك عبر التنفيس بتسهيلات معيشية، دون التوجه إلى حسم قضايا رئيسة تخص القضية الفلسطينية.
وأوضح الكاتب في مقال نشرته صحيفة القدس العربي اللندنية، في 6 يناير 2021، أنه “دون ذلك، لا يوجد سيناريو أميركي محدد يعود بملف الصراع إلى أي مسار تفاوضي، تعلم عمان ذلك وتتحرك في سياقه، استجابة لإرشاد أميركي خلف الستارة”، محوره رسالة تقول ضمنيًا: “الجنرال غانتس هو الرجل الذي ينبغي التواصل معه في الهرم الإسرائيلي”، وفق قوله.
وكما أوضح البدارين، فإن تلك الرسالة يبدو أن نسخة منها وصلت لرئيس السلطة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يبرر أمسية العشاء الشهيرة والمفاجئة بين عباس وغانتس الذي يعتبر الآن بمثابة “الوصفة التي اقترحها على عمان ورام الله كل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ورئيس الاستخبارات وليم بيرنز”.
وتابع: “ثمة خلل في منظومة التواصل بين الرئاسة الفلسطينية والعاصمة الأردنية، ووراء الميكروفون واللقاءات الرسمية تبادل الملاحظات وعتاب مر أحيانًا، يحاول الأميركيون تبديده أيضًا عبر حلقة غانتس، الرجل الثاني في حكومة هرم إسرائيل، الذي يمكنه أن يتحرك دون قيود، وعلى أساس تفاهمات عنوانها الحرص على إدامة الاتصال وتخفيف آثار الاحتقان”.
بدورها، تحدثت صحيفة هآرتس العبرية عن سبب آخر للتقارب تناولته مباحثات العاهل الأردني ووزير الجيش ويتعلق بالأوضاع في سوريا.
وقالت في هذا الصدد: “لكن القضية الفلسطينية لم تكن القضية الوحيدة في الاجتماع بين غانتس والملك، وربما ليست حتى الموضوع الرئيس للقاء بينهما الذي استمر ساعة ونصف، فالأردنيون يريدون الحديث عن الوضع في سوريا”.
وأوضحت أن “الملك عمل على إعادة وتسخين العلاقات مع نظام الأسد أخيرًا، في ضوء الفهم بأن الديكتاتور السوري باق، لكن الحدود مع سوريا هي النقطة الأكثر حساسية بالنسبة له”.
وتابعت الصحيفة في 6 يناير أن “التعاون الأمني مع إسرائيل بشأن الوضع في سوريا أمر بالغ الأهمية بالنسبة للأردنيين، ومثل دول أخرى في المنطقة فإن الأردن قلق مما يبدو أنه انسحاب أميركي زاحف من المنطقة”.
وأضافت: “أبلغ رئيس الشعبة السياسية والأمنية بوزارة الدفاع زوهار فيلتي مستشاري الملك أن إدارة بايدن تعهدت لإسرائيل بأن الولايات المتحدة لن تسحب قواتها من سوريا والعراق، في المستقبل المنظور”.
وبهذا الشأن، يرى باراك رافيد الكاتب في موقع واللا العبري، أن “الأردنيين أرادوا الحديث مع غانتس عن الوضع في سوريا، فقد عمل الملك أخيرًا على تسخين العلاقات مع نظام الأسد، في ضوء فهمه بأنه باق، لكن حدود بلاده مع سوريا هي النقطة الأكثر حساسية بالنسبة له”.
استسلام للواقع
ويمكن القول إن تراجع الموقف الأردني تجاه القضية الفلسطينية نحو تحسين الأوضاع المعيشية فقط، جاء بعد تقلد جو بايدن الرئاسة في الولايات المتحدة، وإثر تعرضه إلى ضغوطات وتحذيرات دولية للقبول بصفقة القرن المزعومة للسلام، التي جرى تجاهلها لاحقًا.
واستقبل بايدن العاهل الأردني في البيت الأبيض يوم 19 يوليو 2021، كأول زعيم عربي يجري زيارة من هذا النوع في ظل الإدارة الأميركية الجديدة.
ووقتها، قال مركز القدس للشؤون الدولية والعامة العبري، إن الملك عبد الله التقى برئيس السلطة محمود عباس وطلب الأول من الثاني تمثيل المصلحة الفلسطينية في المحادثات مع بايدن. وأشارت هذه الخطوة إلى أن الأردن يريد الظهور كدولة محور تدير سيناريوهات إقليمية، وأيضًا تساعد في حل الصراعات في الساحة الفلسطينية.
ووصلت السلطة إلى مفترق طرق حيث كان يتعين عليها أن تقرر ما هو أكثر أهمية لها، الحفاظ على اقتصادها أو التمسك بالشعارات القومية، وفق وصف المركز.
وفي هذه المرحلة كانت تتمسك بالحفاظ على حكمها. ولفت إلى أن الأردن أيضا على مفترق طرق مشابه، متسائلًا: هل هو مستعد للصراع مع إسرائيل بسبب الأزمة الفلسطينية؟ وكما قال، فالإجابة هي لا.
ويعود ذلك إلى أن التدهور في العلاقات -كما حدث خلال فترة بنيامين نتنياهو- يثير القلق في واشنطن.
وهنا يقول معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط إنه بقدر ما قد تكون “اتفاقيات أبراهام” مع دول الخليج مفيدة، فإن المنطقة بأكملها ستكون أقل أمنًا واستقرارًا إذا جرى السماح لركائز السلام الأساسية التي أقيمت قبلها – معاهدات السلام مع مصر والأردن – بالتعثر.
ويعد الأردن بمثابة العمق الإستراتيجي لإسرائيل في الشرق، ويشكل تعاونهما عاملًا رئيسًا في أي إستراتيجية دفاعية تنتهجها الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط وتقوم على نهج “عبر، ومع، ومن خلال”، بحسب دراسة نشرها المعهد في مارس/ آذار 2021.
ولضمان أن تكون هذه العلاقة “ذات الأهمية الحاسمة قوية بما فيه الكفاية”، اقترح المعهد على واشنطن اتخاذ عدة خطوات “لمساعدة أصدقائها القدامى على تجاوز هذه الدينامية غير المفيدة”.
ومن ذلك “استكشاف طرق لضمان استفادة الأردن مباشرة من الديناميات الجديدة والفرص التي أوجدتها اتفاقيات أبراهام”، وهو ما حدث بالفعل لاحقًا عبر توقيع إعلان النوايا لإنقاذ عمان من أزمة نقص المياه.
بحسب ما قال المحلل في شؤون الشرق الأوسط أرون ماجد، إن الملك عبد الله يدرك أنه في حاجة إلى إبرام علاقة فاعلة مع “إسرائيل” حتى يحافظ على تدفق حوالي 1.5 مليار دولار من المساعدات الأميركية السنوية للمملكة الهاشمية، خاصة وأن الأردن يشهد ديونًا عامة قياسية تبلغ 45 مليار دولار.
وتابع في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية في يوليو 2021: “لطالما كانت علاقات الأردن مع إسرائيل مشحونة”.
وأردف أنه “رغم تركيز وسائل الإعلام على طبيعة علاقات الملك عبد الله مع مختلف القادة الإسرائيليين، هناك القليل من الإشارات على أن الحكومة الأردنية ستغير سياساتها بشكل جذري في ظل حكومة نفتالي بينيت”.
وختم بالقول: “من المرجح أن تستأنف عمان توجيه الانتقادات إلى السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، دون الاقتراب من معاهدة السلام لسنة 1994، حيث إن طبيعة المصالح الأردنية لا تقدم أي بديل آخر”.
اضف تعليقا