لم يكن التحدّي الأساسي لانفصالي كتالونيا في عام 2017 حين قرروا إجراء استفتاء للاستقلال عن إسبانيا، غير معترف به من السلطات المركزية في مدريد، تأكيد نجاحه بقدر تكريس روحية انفصالية جديدة، تفرز في مرحلة زمنية لاحقة بيئة أكثر استعداداً للقتال من أجل الاستقلال. وهو أمر تحقق، بفعل نجاح الاستفتاء، رغم محاولات مدريد قمعه بالقوة، خصوصاً أن الغالبية العظمى من المستفتين اختارت الاستقلال بنسبة 92.01 في المائة، في ظلّ اقتراع 43.03 في المائة من الناخبين. كما أدى اعتقال مدريد بعض القادة الانفصاليين ومحاكمتهم فضلاً عن هروب البعض الآخر إلى خارج البلد، تحديداً كارليس بيغدمونت، إلى فرض أمر واقع جديد لكنه أشبه بمرحلة انتقالية قبل صدور نتائج المحاكمات وما يمكن أن تنتج عنه شعبياً. وهو ما حصل يوم الاثنين مع إعلان المحكمة العليا الإسبانية سجن تسعة قياديين انفصاليين فترات تتراوح بين تسعة أعوام و13 عاماً بسبب دورهم في “محاولة الإقليم الانفصال عن إسبانيا سنة 2017”. وطاول الحكم نائب الرئيس الكتالوني السابق أوريول خونكيراس، الذي قضت المحكمة بسجنه 13 عاماً، بتهم العصيان واختلاس المال العام. كما صدرت الأحكام بحقّ الرئيسة السابقة للبرلمان الكتالوني كارمي فوركاديل، التي حُكم عليها بالسجن 11 عاماً ونصف العام، ورئيسي منظمتي “التجمع الوطني الكتالوني” و”أومنيوم كولتورال” الانفصاليتين، جوردي سانشيز وجوردي كويكسار (تسعة أعوام)، وخمسة وزراء محليين سابقين (بين 10 سنوات ونصف السنة و12 سنة). ومثل الانفصاليون الـ12 أمام المحكمة لتنظيمهم في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017 استفتاء لتقرير المصير رغم حظر القضاء لذلك، بالإضافة لإعلانهم في 27 أكتوبر من العام نفسه استقلال كتالونيا، الذي لم يدخل حيز التنفيذ، بعدما أقره البرلمان المحلي.

 

ترقّب تداعيات الأحكام القضائية لم يتأخر كثيراً. اشتعلت مدن كتالونيا الرئيسية سريعاً. برشلونة وجيرونا وتارّاغونا. أُحرقت سيارات واشتبكت القوى الأمنية مع المحتجين. دعا الانفصاليون لتظاهرات واحتجاجات حتى إطلاق سراح المعتقلين. بيغدمونت لم يكن بعيداً، وهو المنفي في بلجيكا، بل غرّد على “تويتر” كاتباً: “الأحكام جميعها تساوي 100 عام في السجن. هذا أمر شائن. حان وقت الرد كما لم نفعل أبداً من أجل مستقبل أولادنا ومن أجل الديمقراطية وأوروبا وكتالونيا”. 

 

الردّ الذي تحدث عنه بيغدمونت، قد يكون مزيجاً من احتجاجات سلمية صاخبة وحراك عنفي. أول ملامح الاحتجاج السلمي تجلّى في إقفال مطار إل برات في برشلونة ومنع مئات الرحلات الداخلية والخارجية، في سياق مشابه لتحركات المتظاهرين في هونغ كونغ ضد السلطات الصينية. هذا النوع من الاحتجاجات يناسب رئيس حكومة إقليم كتالونيا كيم تورّا، الذي انتقد الحراك العنفي الذي أعقب صدور الأحكام، فقال “لن نسمح بحوادث مثل تلك التي نراها في الشوارع. هذا يجب أن يتوقف فوراً. لا يوجد هناك سبب أو تبرير لحرق السيارات، ولا لأي نوع آخر من التخريب”. غير أنه سرعان ما تصرّف كقائد للإقليم بعد تعرّضه لانتقادات شديدة في الداخل لعدم تغطيته المتظاهرين، فأعلن: “إذا حُكم علينا بالسجن 100 عام لإجرائنا الاستفتاء، فإن الردّ الواضح هو أنه يتعين علينا المضي قدماً مجدداً سعياً وراء حق تقرير المصير”. وشدّد في جلسة خاصة لبرلمان الإقليم، أمس الخميس، على أنه “لن نظلّ حبيسي هذا القفص الذي يستمر في إضافة المزيد من السجناء”.

 

يشرّع كلام توّرا الباب أمام احتمالات عدة، مع بدء طلاب الإقليم الكتالوني تظاهرات صاخبة أمس، قبالة المراكز الإدارية التابعة لمدريد في برشلونة، إذ رشقوا رجال الشرطة بالحجارة، في إطار الدعوات لإطلاق سراح المعتقلين. كما أن الاحتجاج طاول مصير فريق برشلونة الكروي، الذي طالما شكّل ملعبه، كامب نو، قبلة أنظار الانفصاليين، بفعل رفعهم أعلام الإقليم بشكل دائم في المسابقات القاريّة الأوروبية، في تحدٍ واضح لسلطات مدريد. نادي برشلونة، في المبدأ، لن يتمكن من السفر من المطار إلى مدينة إيبار، اليوم الجمعة، للعب ضد ناديها غداً السبت، ما قد يؤدي بالفريق إلى مغادرة برشلونة بالحافلة. ومن سخرية القدر، أن المباراة المرتقبة بين برشلونة وريال مدريد، في 26 أكتوبر الحالي، على ملعب كامب نو، ضمن الدوري الإسباني لكرة القدم، مهددة بالتأجيل حتى موعد أولي في 18 ديسمبر/كانون الأول المقبل. وهو ما يطرح سؤالاً أساسياً: هل يعني هذا أن أي نوع من الاحتجاجات لن تُفضي إلى استقلال كتالونيا، ما يؤدي إلى استمرار برشلونة في اللعب في الدوري الإسباني؟ وإذا كان الاستقلال غير مضمون بحكم الواقعية فلمَ الاستمرار في مواجهة خاسرة؟

 

وحتى تتضح الأجوبة حول تلك المسائل، لا تبدو مدريد مستعدة للتفاوض مع برشلونة، فقد أعلن وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا لقناة “تليسينكو”، أن الحكومة المركزية سترسل المزيد من أفراد الشرطة إلى كتالونيا بهدف ضمان الأمن والسماح لقوات الشرطة الموجودة هناك بالراحة.

 

بالنسبة إلى مدريد، فإن السماح باستقلال كتالونيا، يعني السماح باستقلال إقليم الباسك لاحقاً، وتطوّر الوضع نحو تفكك إسبانيا، خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا توصّلا إلى اتفاق “بريكست” جديد، يسمح في خروج لندن من بروكسل في 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل بهدوء. وهو عامل أساسي ومحفّز لأي فكرة انفصالية أوروبية. كما أن استمرار الاحتجاجات قد يعكّر صفوّ الانتخابات التشريعية المقررة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بعد 7 أشهر على انتخابات مماثلة لم تؤدِ إلى الاتفاق على تشكيل حكومة. ومن شأن تحركات الانفصاليين، إضعاف الوحدويين في كتالونيا ويساريي إسبانيا من جهة وتمتين قوة الانفصاليين وحزب “فوكس” اليميني المتطرف وباقي الأحزاب القومية من جهة أخرى. وهو ما سيؤدي إلى تفسّخ في البرلمان المركزي، وربما إلى فشل جديد على صعيد التأليف الحكومي. عملياً دخلت إسبانيا مرحلة مجهولة المعالم، والاقتصاد سيكون أول الخاسرين.