في الأسابيع الماضية، تواردت الكثير من الأنباء من أنقرة حول مساعي تطبيع العلاقات مع الدول التي كانت لتركيا علاقات متوترة معها لبعض الوقت.
فقد ورد أن وزير الطاقة الإسرائيلي قد تمت دعوته إلى منتدى أنطاليا الدبلوماسي، وستكون هذه أول زيارة رفيعة المستوى منذ عام 2018، عندما اندلعت آخر أزمة دبلوماسية بين البلدين. ففي ذلك الوقت، انتقد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الكيان الإسرائيلي، بسبب معاملته العنيفة ضد المتظاهرين المحتجين على اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل.
كذلك أُعلن عن قيام وزير خارجية تركيا بتبادل مكالمة هاتفية مع وزير خارجية دولة الإمارات، والتي تنخرط في تنافس مباشر مع تركيا في غالب الملفات. كذلك تشير الأنباء إلى تطبيع محتمل في العلاقات بين تركيا والسعودية.
وأخيرًا ، تبدو علاقات تركيا مع مصر في طريقها للتحسن أيضًا، بعد الأزمة التي أحدثها انتقاد الرئيس أردوغان للانقلاب العسكري عام 2013، وكذلك التنافس الاستراتيجي الأخير بين البلدين في ليبيا، والمنافسة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
بشكل عام، العلاقات بين الدول التي شكلت محاور متنازعة بعد الانتفاضة العربية في الشرق الأوسط -أي السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى- يبدو أنها تتغير. فكيف يمكن تفسير هذا التحول؟
الديناميكيات الدولية والإقليمية..
يبدو أن التطورات العالمية والإقليمية، الفعلية والمتوقعة، مسؤولة جزئياً عن هذا التغير.
وأحد أهم هذه التطورات فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنها لم تضع سياسة شاملة للشرق الأوسط بشكل كامل حتى الآن، إلا أن بعض العناصر قادت بالفعل القوى الإقليمية للتكيف مع التطورات الجديدة.
ومن المثير للاهتمام، أنه على الرغم من الجدل في السنوات العشر الماضية أن واشنطن تنسحب من الشرق الأوسط، فلا تزال التغييرات السياسية في الولايات المتحدة لها بالفعل تأثيرات مهمة في المنطقة.
أوضحت إدارة بايدن أنها لن تدعم بعد الآن التدخل السعودي في اليمن، وأعربت عن رغبتها العامة -بطريقة ما- في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، بل وشجعت إيران والسعودية على التوصل إلى تفاهم في اليمن. إضافة إلى ذلك، فإن توقع سياسات مختلفة في ظل الإدارة الجديدة أنهى بالفعل الأزمة الخليجية بين قطر والأعضاء الآخرين في مجلس التعاون الخليجي ومصر.
في غضون ذلك، هناك لاعبان دوليان آخران، وهما روسيا والصين، يعملان على زيادة وجودهما وأدوارهما في المنطقة، وهم بذلك يشتبكون في تنافس أو صراع مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
من المتوقع -في ظل المؤشرات الحالية- أن إيران ستكون لاعبًا مهمًا قد يحصد على مكاسب استراتيجية في أجزاء مختلفة من الشرق الأوسط.
كذلك فإن توقع الدخول إلى مرحلة جديدة في مناطق أزمة ما بعد الانتفاضة العربية في ليبيا وسوريا واليمن يجبر دول المنطقة على إبقاء القنوات المختلفة مفتوحة مع بعضها البعض. وبالتالي، تريد الكتلة التي تقودها السعودية مرة أخرى تطبيع علاقاتها مع تركيا لتكون قادرة على تحقيق التوازن مع إيران.
من جانبها، وجدت تركيا -المعزولة إقليمياً بعض الشيء- نفسها في موقف شكلت فيه دول أخرى تحالفات مضادة، وتريد الآن الوصول إلى هذه الدول حتى تتمكن من الحصول على المزيد من أوراق القوة لصالح بلدها، لا سيما في شرق البحر الأبيض المتوسط.
يبدو أن تركيا مستعدة للتحدث مع اليونان وتوقيع صفقات مع مصر وإسرائيل في شرق البحر المتوسط، ساعية إلى إدراجها في المنتديات الإقليمية المستبعدة منها خلال السنوات الأخيرة.
وبالتالي، بالنسبة لجميع الجهات الفاعلة الإقليمية، بما في ذلك تركيا، يبدو أن هناك تفاهمًا على أن الوقت قد حان لتعديل سياساتها.
عوامل محلية..
بالإضافة إلى التطورات العالمية والإقليمية، هناك أسباب داخلية أيضًا تدفع دول المنطقة إلى التخفيف من حدة التنافسات والمنافسة الصفرية.
حيث إن السياسات التي تعتمد على القوة الصلبة والحروب بالوكالة والمواجهات مكلفة ويصعب تحملها على المدى الطويل. هذا صحيح بشكل خاص بالنظر إلى التأثير الاجتماعي والاقتصادي السلبي لجائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط، وهو ما أدى إلى تفاقم المشاكل القائمة بالفعل. تنطبق هذه الآثار الاجتماعية السلبية أيضًا على تركيا، التي تتعامل مع أزمة اقتصادية بدأت في عام 2018 وازدادت سوءًا مؤخرًا.
وبالرغم من العوامل المتعددة التي تدفع دول المنطقة نحو تطبيع علاقاتها مع بعضها بعضًا، إلا أن حدوث ذلك قد لا يكون سهلًا بأي حال من الأحوال. فالمحادثات النووية الإيرانية تواجه صعوبات، والاستقرار النسبي والمفاوضات في مناطق الأزمة ما بعد الانتفاضة العربية هشة. وبالتالي، يمكن للسياسة الإقليمية أن تعود بسرعة إلى وضع تنافسي بسهولة تامة.
حقول ألغام..
من ناحية أخرى، التطبيع في العلاقات الثنائية محفوف أيضا بحقول من الألغام. ففي حالة العلاقات بين تركيا ومصر، يبدو أن البلدين على استعداد -حتى الآن- لاتخاذ الخطوات اللازمة لتمهيد الأرضية للتطبيع. وقد طلبت تركيا بالفعل من المنصات الإعلامية المعارضة للنظام الانقلابي المصري تخفيف حدة انتقاداتها للحكومة المصرية. كما ورد أن القاهرة قد وجهت وسائل إعلامها بتخفيف حدة انتقاداتها لتركيا والرئيس أردوغان.
لكن بالنسبة لمصر، التي تعتبر جماعة الإخوان المسلمين قضية أمنية للنظام، فإن مجرد تخفيف حدة الانتقادات لن يكون كافياً في حد ذاته. يبدو أن حكومة حزب العدالة والتنمية (AKP) تتصرف بشكل عملي بشأن هذه القضية وقد تتوقف أخيرًا عن دعم هذه المنافذ الإعلامية تمامًا، اعتمادًا على كيفية سير عملية التطبيع. ومع ذلك، يمكن اعتبار هذه القضية كأحد التحديات التي تواجه العلاقات الثنائية.
قضية أخرى قد تخلق مشاكل بين البلدين هي ليبيا، حيث دعمت تركيا ومصر أطرافًا مختلفة في الصراع. لا شك أن دعم كليهما الآن لعملية الانتقال في ليبيا يعد تطورًا إيجابيًا. ومع ذلك، فإن العملية نفسها هشة وقد تستمر في خلق مشاكل للعلاقات الثنائية بين تركيا ومصر.
وبالمثل، فإن احتمالات التطبيع بين تركيا وإسرائيل حساسة أيضًا. حيث إن دعم تركيا المستمر للفلسطينيين والعلاقة الخاصة لحزب العدالة والتنمية مع حماس، إلى جانب الصعود المستمر لليمين الإسرائيلي، هو مزيج معقد لا يجعل التطبيع مرهونًا بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية فحسب، بل يجعله هشًا أيضًا. التطبيع بين تركيا من جهة ومصر وإسرائيل من جهة أخرى عرضة بشكل خاص للتحديات الأيديولوجية. على الرغم من “التحول الواقعي” في السياسة الخارجية لتركيا منذ عام 2016، إلا أن نهج حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه مصر وإسرائيل ظل مشوبًا بالأيديولوجية.
باختصار، مثل القوى الإقليمية الأخرى، تحاول تركيا تعديل سياستها الخارجية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع التغيرات الفعلية والمتوقعة في السياسة الإقليمية وسياسات القوى الخارجية في المنطقة وكذلك الضرورات المحلية. كما في حالة القوى الإقليمية الأخرى، لا تشير هذه التغييرات إلى تغييرات شاملة، بل إلى تعديلات عملية.
من أجل تحقيق سلام واستقرار حقيقيين في المنطقة، يجب على جميع دول المنطقة، التحول إلى علاقات أكثر تعاونية وإفادة لجميع الأطراف. وبالرغم من أنه لا مؤشرات حقيقية -حتى اللحظة- تفيد أن هناك تحولًا جذريًا في السياسات، إلا أن جهود اليوم لا تزال إيجابية ويمكن البناء عليها والانطلاق منها، مثل تدابير بناء الثقة.
اقرأ أيضًا: محاولات لتشويش العلاقة بين تركيا والجزائر.. من يقف وراءها؟
اضف تعليقا