العدسة – ربى الطاهر
أقوال كثيرة تتردَّد عن الشعب الياباني، التي تعبر عن تخطيه لعادات مهمة لجميع البشر، وقد يكون الكثير منها حقيقيًا، ويردده اليابانيون عن أنفسهم، ومن تلك المقولات إن هذا الشعب لا ينام ولا يلجأ إلى القيلولة لأخذ قسط من الراحة، ولكن هؤلاء الأشخاص يتبعون نظامًا آخر في خطف دقائق النوم، حتى لو كان ذلك أثناء اجتماعات العمل أو المحاضرات الدراسية، أو حتى في المواصلات العامة، وأطلقوا على هذا النظام الغريب في النوم اسم غفوة “إينيموري”.
وبالطبع إن ما يقال عن أن اليابانيين لا ينامون هو أمر غير صحيح، ولكن ما يحدث هو اختلاف اجتماعي وثقافي مثير للاهتمام.
وقد ذكرت بريجيت ستيغار أستاذة جامعية في شئون آسيا واليابان أنها قد شاهدت مواقف غريبة لأشخاص نيام عند زيارتها لأول مرة لليابان، وكان ذلك في أواخر الثمانينيات، وكانت اليابان في تلك الحقبة الزمنية في ذروة مجدها، والذي أطلق عليه فيما بعد بالفقاعة الاقتصادية، وتقول “لقد كان الكثير من الأشخاص يتذمر من عبارة “نحن اليابانيون مهووسون بالعمل كثيرًا”، إلا أن واقع الأمر قد يعكس شعورًا آخر، حيث ينطوي هذا التذمر على إحساس بالفخر إذ ينطوي على يقين بأنهم الأكثر تحملًا، وأنهم يمتلكون قدرات تميزهم عن باقي البشر، غير أنني قد لاحظت في نفس الوقت أن عددًا غير قليل من الأشخاص يحصلون على غفوات في وسائل المواصلات خلال تنقلاتي، حتى إن منهم من ينام وهو واقف، ولم تكن مثل هذه المواقف مستغربة على الإطلاق من المحيطين، وكأن ما يحدث هو أمر طبيعي”.
وقد كانت وتيرة الحياة محمومة، إذ لم يعد في الجدول اليومي لمواعيدهم سوى العمل، حتى النوم لم يكن هناك رفاهية تخصيص وقت محدد له، حتى إن الإعلانات التي كانت تنتشر في ذلك الوقت تعكس أسلوب الحياة المتبع في هذه البلد، وقد كان أحدها يروّج لمشروب للطاقة وكان الشعار الذي يرفعه هو “هل تستطيع أن تواصل بذل الجهد على مدار 24 ساعة؟ رجل أعمال! رجل أعمال ياباني!”
وتعلق ستيغار بأن ما توصلت إليه مما يحدث ينطوي على كثير من التناقض؛ إذ إنه في الوقت الذي يستهجن فيه هؤلاء الأشخاص النوم حتى ساعات متأخرة مثل النحلة الدؤوبة على العمل وتختصر ساعات نومها في الليل…تتقبل بسهولة ما يعرف بغفوة “إينيموري”؛ حيث استغلال اوقات الانتقال في المواصلات العامة أو أثناء الاجتماعات وحتى في المحاضرات والحصص الدراسية.
إذ يبدو أنه ليس من المستهجن الحصول على قسط من النوم حال الشعور بالرغبة في ذلك أيا كان المكان أو التوقيت، فإذا كانوا يعتبرون أن النوم على الأسِرّة هو علامة كسل، فكيف لا يفسرون أن النوم أثناء القيام بأحد الأنشطة أو أثناء العمل تعبير اكبر على هذا الكسل؟!
فحتى الأطفال يظلون مستيقظون حتى ساعات متأخرة ليلًا أثناء فترة الدراسة في الوقت الذي ينامون فيه أثناء المحاضرات والحصص الدراسية.
وتضيف أن هذه التناقضات كانت السبب في التفكير في البحث بتوسع أكبر عن طرق النوم ليكون موضوعا لدراسة الدكتوراه فيما بعد، وكانت أولى الصعوبات في تنفيذ ذلك هو عدم الاقتناع من الآخرين بأن طريقة النوم تصلح لأن تكون موضوعًا جادًا لدراسة أكاديمية.. إلا أن هذا الموضوع قد يكشف عن قيم ومواقف من خلال السياق الذي يتم طرحه فيه، فهو يحمل أفكارًا ومعاني متنوعة ومختلفة وإخضاع كل هذا للتحليل ودراسة الانشطة اليومية التي تمارس على المستوى الجمعي والتي قد تبدو تقليدية يكشف عن طبيعة هذا المجتمع وتركيباته والقيم السائدة فيه.
وغالبًا ما قد يعتقد أنه بحلول الظلام تذهب أفراد الأسرة إلى الفراش بشكل تلقائي وطبيعي ويستيقظون صباحًا عند طلوع الشمس… إلا أن هذا الأمر لم يسر أبدًا بهذا الشكل الطبيعي والبسيط، وذلك ليس في اليابان فقط بل في أي مكان آخر.
وليس الأمر مرتبطًا باختراع المصابيح الكهربائية، فقد تشير الأخبار الموثقة إلى أن الناس كانت تسهر لتتسامر وتتناول المشروبات وتمارس الأنشطة التي تخلق جوًا من الاستمتاع والبهجة، ولكن المثقفين وخاصة الساموراي الشباب، فقد كان ينظر إليهم بنظرة تقدير وباعتبارهم الأكثر رقيًا فهم كانوا الفئة القادرة على الاستيقاظ من النوم للدراسة، إلا أن هذا السلوك لم يكن مجديًا حيث إن الاستيقاظ من النوم يحتاج إلى وقود لإشعال المصابيح، كما أنهم يغفون أثناء حضور الدروس والمحاضرات.
إلا أن المصادر التاريخية لم تذكر القيلولة، ولكن ورد ذكر النوم أمام الناس باعتبار أنّ تلك الغفوة أو القيلولة أمر طريف وأتى ذلك من خلال سرد مواقف مضحكة كأن يغنى أحد أغنية مختلفة عن الآخرين أثناء مراسم محددة، وذلك دون أن يعي أنه كان دائمًا كل هذا الوقت، إضافة إلى أن الأصدقاء اعتادوا أن يتمازحوا مع بعضهم البعض أثناء غفوة أحدهم دون أن يشعر.
إلا أنه من زاوية أخرى يعتبر الاستيقاظ المبكر عادة محمودة منذ دخول الكونفوشية إلى البوذية، وقد أخذ جدول عمل الموظفين في النطاق الرسمي اهتمامًا خاصًا في العصور القديمة، ولكن الأمر اختلف فيما بعد منذ العصور الوسطى، وما بعدها حيث اتبع المجتمع بأسره عادة الاستيقاظ مبكرًا، وأصبح ما يمدح به الشخص هو وصفه بأنه “ينام مبكرًا ويستيقظ مبكرًا”.
ويتبع اليابانيون نظامًا مثيرًا للانتباه فيما يخصّ نوم الأطفال ففي الوقت الذي يحرص الآباء في بريطانيا على توفير غرف خاصة للأطفال الرُّضّع حتى يشبوا على الاستقلالية في نومهم، ومن ثم تحديد مواعيد منتظمة للنوم، يصر الآباء في اليابان على مشاركة أبنائهم لهم غرف النوم حتى يصلوا إلى سنّ دخولهم المدرسة حتى يشبعوهم من الطمأنينة، ولكي يصبحوا شخصيات مستقلة ومستقرة اجتماعيًا في الكبر.
ولعل اتباع هذا النمط السلوكي في نوم الأطفال هو السبب الذي يجعل اليابانيين يستطيعون النوم أثناء تواجد الآخرين، حتى لو كانوا من البالغين، حتى إنهم يشعرون بطمأنينة أفضل في النوم أثناء وجود آخرين عن نومهم منفردين، ولعلَّ هذه الملاحظة كانت أوضح بعد تدمير العديد من المدن الساحلية عام 2011 بعد التسونامي الذي ضرب اليابان.
حيث أجبرت تلك الظروف الناجين من هذه الكارثة مشاركة العشرات في ملاجئ للإيواء، وربما أحيانا يصل العدد إلى المئات ورغم ما قد يتسبَّب فيه تلك هذا التشارك من مشاكل فقد عبر من تعرضوا لتلك التجربة عن شعورهم بالألفة والطمأنينة، وأن هذا ساعدهم على استلهام نظام النوم الذين اعتادوا عليه.
وقالت ستيغار إنَّ مشاركة الأطفال غرف النوم لا يعتمد عليها في تفسير ظاهرة غفوة “إنيموري”،: “أدركت مؤخرًا أنه على مستوى معين، لا تعتبر ظاهرة إنيموري نومًا على الإطلاق، فلا ينظر لها على أنها تختلف عن النوم في الفراش أثناء الليل، بل ينظر إليها أيضًا على أنها تختلف عن قيلولة الظهيرة”.
ولعلَّ المعنى اللفظي لكلمة إنيموري يوضح مفهوم تلك الكلمة المكونة من لفظين صينيين الأول: “إي” ويعني الحضور في وضع ليس هو النوم، و”نيموري” ويعني النوم.
وبهذا فيمكننا فهم “إنيموري” على أنه انخراط ثانوي في النوم، ويمكن الغوص فيه طالما أنه لم يؤثر على أحد.
وعلى الرغم من أن النوم أثناء العمل يعطى انطباعًا بالخمول وبأن هذا الشخص مهمل فإن النظر إلى قيلولة “إنيموري” يعدّ علامة إرهاق بسبب العمل، بل يمكن التماس العذر لمن ينامون بهذه الأوضاع.
وعادة ما ينظر إلى المرض، وكذلك النعاس على انهما نتيجة طبيعية للجهد الزائد والعزيمة العالية في العمل، ولذلك غالبًا ما توظف غفوة “إينيموري” على أن صاحبها يعمل وعزيمة واجتهاد، بل وإنه لديه فضيلة معنوية للتحكم في مشاعره.
وهذا يعنى أنَّ الغفوة عند اليابانيين لا تعني الكسل مطلقًا ولكنها عادة أو ظاهرة تتيح للمرء أن يؤدي مهام عمله وواجباته وفي نفس الوقت قد يغيب لفترة (الغفوة)، خلال تنفيذه لتلك المهام لذلك فمقولة إن اليابانيين لا ينامون غير دقيقة فهم يمارسون ظاهرة النوم بشكل مختلف.
اضف تعليقا