في الوقت الذي يصرح فيه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعزم بلاده على استئصال شأفة التطرف، يتورط في صناعته وإشعاله بمناطق أخرى من العالم العربي والإسلامي.
هذا ما كشفت عنه تقارير متواترة، أكدت أن السعودية بدأت في التدريب العسكري لشباب ليبيين من أتباع التيار السلفي المدخلي (لمؤسسه الشيخ ربيع المدخلي الأكاديمي السعودي المثير للجدل) داخل أراضيها.
وأفادت مصادر أن الشباب يذهبون دفعات تحت غطاء شركات سياحية تمنحهم تأشيرات لأداء العمرة، إلا أن الغرض الأساسي منها هو حضور تلك التدريبات العسكرية التي تشرف عليها السعودية.
” قوات المداخلة “
التطور الدراماتيكي في الدعم السعودي لهذا التيار يثير العديد من التساؤلات، فبعد أن كان مقتصرًا على التمويل والتوجيه للشباب الليبي عن طريق فتاوى “المدخلي”، أصبح تواصلًا مباشرًا مع قادة هذا التيار، واستقبالهم كمقاتلين وتوفير الدعم اللوجيستي والتدريبي لهم.
وكان لافتًا بشدة خلال الأشهر الماضية، المشاركة الفعالية للكتائب المسلحة التابعة للتيار المدخلي في ليبيا بجانب قوات اللواء خليفة حفتر المنبثقة عن برلمان طبرق، في معاركه شرقي البلاد.
من هم المداخلة؟
لكن قبل الخوض في تلك العلاقات المتشابكة بين أتباع التيار المدخلي في ليبيا وحفتر والسعودية، يجب إلقاء المزيد من الضوء على هذا التيار ومؤسسه وظروف نشأته.
يرجع كثير من الباحثين بداية الظهور العلني لتيار المداخلة في المملكة العربية السعودية إبان حرب الخليج الثانية عام 1991 التي كانت نتيجة لغزو العراق تحت حكم صدام حسين للكويت. نشأت المدخلية المقترنة بما يسمى “الجامية” في المدينة المنورة علي يد الشيخ محمد أمان الجامي الهرري الحبشي، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي أستاذ الحديث بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، فالأول مختص في العقيدة، والثاني مختص بالحديث.
” الشيخ ربيع المدخلي “
برز تواجدهم عى سطح الأحداث كفكر مضاد للعلماء الذين استنكروا دخول القوات الأجنبية إلى الخليج، وأيضًا كانوا في مقابل هيئة كبار العلماء التي رأت في دخول القوات الأجنبية مصلحة، إلا أنها لم تجرم من حرَّم دخولها، أو تنكر ذلك، فجاء المداخلة أو الجامية واعتزلوا كلا الطرفين، وأنشأوا فكرًا خليطًا، يقوم على القول بمشروعية دخول القوات الأجنبية، وفي المقابل يقف موقف المعادي لمن يحرّم دخولها، أو أنكر على الدولة ذلك.
المنتمون لهذا التيار، يقومون وفق ما تشير إليه بعض الدراسات، بالبحث في أشرطة وتسجيلات العلماء والدعاة، ويتصيدون المتشابه من كلامهم وما يحتمل الوجه والوجهين، ثم يجمعون ذلك في نسق واحد، ويشهرون بالشخصية المستهدفة، محاولين بذلك إسقاطها وهدرها.
ويخوض أتباع هذا التيار الذين يسمون في السعودية بـ”أتباع الجامية” معارك فكرية ضارية مع كل العلماء والمشايخ، يحاولون خلالها فقط أن يتصيدوا أخطاء هؤلاء، وتوفر لهم وسائل التواصل الاجتماعي بوقًا لنشر أفكارهم وحصائد حملاتهم التي تكون ممنهجة في غالب الأحيان، خاصة ضد من ينتمون لحركة “الصحوة” التي انبثقت فكريًا وليس تنظيميًا من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وفي مقدمة أتباعها الدكتور سلمان العودة وعلي العمري وناصر العمر وغيرهم.
كما يتمتعون عكس غيرهم بعلاقات قوية مع حكومة المملكة، خاصة مع اشتعال الأوضاع في دول الربيع العربي عام 2011.
مؤخرًا، كان مؤشر يدل بقوة على متانة تلك العلاقة، متمثلًا في إعلان “محمد بن سلمان” سبتمبر الماضي، تكفله بعلاج “ربيع المدخلي” بعدما ساءت حالته الصحية ووجه بنقله إلى أحد المستشفيات لتلقي العلاج على النفقة الخاصة للأمير.
” بن سلمان “
علاقة المداخلة كانت متوترة على الدوام، حتى مع غير المنتمين لفكر الإخوان أو غيرهم، بل مع كبار العلماء الذين أثنوا عليهم سابقًا مثل الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ صالح الفوزان، قبل أن يروجوا لفكرهم القائم على عدة مبادئ خاطئة ومنها بخاصة مبدأ التجريح للعلماء الكبار.
ومن مظاهر هذا التوتر، التسجيل المنسوب للفوزان عضو هيئة كبار العلماء، والذي يصف فيه “المدخلي” بالكذب وتبني آراء “المرجئة” المخالفة لأهل السنة والجماعة.
وبقدر ما تكشف هذه الأمور من دعم خفي تقدمه السعودية لحفتر بشكل مباشر، فإنها تبرز تناقضًا حادًا لدى قيادة المملكة، خاصة وأن من يهاجون المدخي مثل الفوزان مقربون للغاية من السلطة.
“مداخلة” ليبيا وعلاقة مريبة !
ظل أتباع الحركة السلفية طوال نشأتهم وتمددهم في ليبيا بمنأى عن الشأن السياسي والشأن العام، واقتصرت اهتماماتهم على بعض مظاهر التدين وتأكيدها، كمسألة إعفاء اللحى وحلق الشارب، كما ركزت جهودها على محاربة التصوف بجميع حركاته الفلسفية والطرقية.
وفي فترة لاحقة، بحسب تقارير إعلامية، قام أتباع الحركة السلفية بتأثير من شيوخ سعوديين، بتوجيه سهام نقدهم إلى منهج جماعة “الإخوان المسلمين” وتبادلوا في شأن ذلك الأشرطة والرسائل الصغيرة الواردة من المملكة.
فقد اتصل “الساعدي” نجل القذافي، إبان اندلاع ثورة فبراير2011 ببعض شيوخ الحركة السلفية في السعودية، وحصل من بعضهم على فتاوى تحرم الخروج على الحاكم، واعتبار ثورة فبراير “فتنة القاعد فيها خير من القائم” حسب أدبياتهم المنشورة، وبثت شركتا “لبيانا” و”المدار” الليبيتان للهاتف المحمول، رسائل نصية تحض على التزام البيوت وعدم الخروج في التظاهرات الشعبية.
” معمر القذافي “
“الساعدي” نجل القذافي
وفي خضم اشتعال الأحداث في ليبيا وتحديدًا يوم 21 فبراير 2011، نشر “ربيع المدخلي” عبر موقعه على الإنترنت، فتوى تُحرِّم الخروج على الحاكم.
بعد انتصار ثورة فبراير ومقتل العقيد معمر القذافي، وهروب نجله إلى النيجر، خرج أتباع الحركة السلفية إلى الضوء، وساهموا بشكل فاعل في العمل الإغاثي الاجتماعي، إلا أنهم لم يسهموا في العمل السياسي، بل نظروا إلى انتخابات المؤتمر الوطني عام 2012 على أنها “بدعة” لا يجوز الخوض فيها.
وأثناء زيارة رئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان، للسعودية طلب من شيوخ المداخلة والسلفية إصدار فتوى تحض أتباعهم في ليبيا، على المساهمة في انتخابات مجلس النواب الليبي التي أُجريت في يونيو 2014.
زيارة “علي زيدان” للسعودية
اللافت في مسيرة هذا التيار، تحولها للعمل القتالي الجهادي بعد إطلاق حفتر عمليته العسكرية في بنغازي، المعروفة باسم “عملية الكرامة” في 2014، إذ صدرت فتاوى لربيع المدخلي تحث أتباعه في ليبيا على القتال ضمن صفوفه، باعتباره “القائد الشرعي” المخول من “ولي الأمر”، في إشارة إلى البرلمان الذي عين حفتر قائدًا عامًا للجيش.
وذلك خلافًا لمنهجهم القائم على عدم الخروج على ولي الأمر، الذي كان يمثله في حينها “المؤتمر الوطني العام” (البرلمان السابق)، مدفوعين بفتاوى مفادها أن صلاحية “المؤتمر” انتهت في 17 فبراير 2014، تماهيًا مع حركة “لا للتمديد” التي ظهرت بعد هذا التاريخ، رافضة استمرار المؤتمر.
” خليفة حفتر “
ولم يكتفِ أنصار الحركة بذلك، بل انضم بعضهم إلى البوابات الأمنية التابعة لحفتر والممتدة من منطقة برسس، شرقي بنغازي وحتى مدينة المرج، وأكد بعض الخارجين من سجون حفتر، أن بعض من حقق معهم، كانوا من الحركة، وسألوهم عن منهجهم الديني وكانوا يصنّفون المقبوض عليهم، إما إلى جماعة “الإخوان المسلمين” الليبية، أو إلى أحد التيارات السلفية الجهادية المنتشرة بشرق ليبيا.
وانتشرت في مدن الشرق الليبي مكتبات أتباع المنهج المدخلي السلفي تبيع كتبًا ذات طبعات فاخرة سعودية ولبنانية، بأسعار رخيصة بخلاف ما هو معروف عن أسعار هذه الكتب في ليبيا، خصوصاً الكتب التي تنتقد أتباع الحركات الإسلامية الأخرى، كـ”الإخوان” والسلفية الجهادية، مما جعل مراقبين يقولون إن هذه المكتبات ممولة من السعودية.
ثورة على الإخوان
ومن اللافت عند البحث في بعض الفتاوى على موقع “المدخلي” كم العداء الصريح المباشر والتلميح لجماعة الإخوان المسلمين، ففي أغسطس 2012 أي بعد انتخاب الرئيس الأسبق محمد مرسي بشهرين نشر على موقعه فتوى تحذر من عدة مصطلحات – وصفها بالفتن – كانت حاضرة في خطاب الجماعة إبان الانتخابات، مثل الديمقراطية والدولة المدنية والانتخابات، وغيرها.
الرئيس ” محمد مرسي “
أما في يوليو 2016 فقد حرّض أتباعه الليبيين في فتوى أخرى، على الثورة ضد الإخوان هناك والمقصود بهم بعض المجموعات المسلحة التي تقاتل حفتر شرقي ليبيا.
الفتوى قالت نصًا: “وعلى السلفيين في ليبيا النصرة لدين الله تعالى وحمايته من الإخوان المسلمين وغيرهم؛ فالإخوان المسلمون أخطر الفِرق على الإسلام منذ قامت دعوة الإخوان المسلمين، وهم من أكذب الفرق بعد الروافض؛ عندهم وحدة أديان، ووحدة الوجود، وعندهم علمانية”.
اضف تعليقا