العدسة – ربى الطاهر
فرضت الظروف الحديثة نمطًا جديدًا من العمل يفرض على الأشخاص التعامل عبر الأجهزة الذكية دون الارتباط بمكان محدد للعمل، وربما لا يلتقي الزملاء الذين يعملون في مكان واحد على الإطلاق.
وقد أظهرت بعض الإحصائيات أن نسبة العاملين عن بعد قد ارتفعت إلى 115% في الولايات المتحدة ما بين عامى 2005 وحتى 2017.
ووصل عدد الأشخاص الذين استخدموا برنامج “سلاك”وهو برنامج للمحادثات الجماعية عبر شبكة الإنترنت بشكل يومي، في بدايات عام 2015 إلى حوالي نصف مليون شخص، وهو ما يرجح استخدامه من قبل مجموعات العمل المختلفة، ولكنه في ارتفاع مستمر حتى وصل في سبتمبر الماضي إلى 6 ملايين شخص.
كما كشف استطلاع أجرته مؤسسة جالوب للأبحاث في عام 2017 لعيّنة من الأمريكيين وصلت إلى 15 ألف شخص أن 43% منهم قد عملوا لبعض الوقت بإحدى الشركات التي تتبع نظام العمل عن بعد، وبهذا يكون مؤشر الارتفاع قد سجل نسبة 4% زيادة عن العام 2012.
وذكرت إحصائية أخرى لدراسة أجرتها مؤسسة “يوغوف” أن عددا من الموظفين بالشركات البريطانية يصل نسبتهم إلى 30% يفضلون العمل عن بعد ويقولون إن إنتاجهم يرتفع بنسبة اعلى في حالة العمل خارج المؤسسة.
وعلى الرغم من أن انتشار هذا النظام الجديد في العمل في تزايد فإن الواقع يشير بأن له تأثيرات سلبية متعددة لا يلتفت لها أحد، فالعمل بشكل فردي قد يؤثر على الصحة النفسية والجسدية والعقلية، كما أنه يعطى تصورا عما ستصبح عليه شكل المدن مستقبلا، وكيف ستدار الشركات كذلك.
روبوتات للتواجد بأماكن العمل مستقبلا
ومع قدوم 2018 زدات نسبة الأشخاص الذين يفضلون العمل من المنزل، فقد يمنح هذا الأسلوب من العمل شعورا بالراحة والاسترخاء بشكل أكبر، ولكن المختصين يتوقعون نتائج خيالية مستقبلا في حالة تعميم ذلك النظام.
ومن ذلك على سبيل المثال هو قيام “روبوتات” بالتواجد في محل العمل نيابة عن اصحابها تقوم من خلال التحكم بها عن طريق الإنترنت بعرض المهام اليومية وأداء تكليفاتنا بدلا من الحضور الشخصي إلى العمل.
وقد يروج لهذا الأسلوب من العمل بعض العلماء الذين يتعاونون لتطوير الأفكار المقترحة لتنفيذ ذلك مستقبلا، وأحد هؤلاء هذا الفريق هو جيمز كانتون، المدير التنفيذي لمعهد جلوبال فيوتشرز والذى يعمل مستشاراً لثلاث إدارات أمريكية في مجال اتجاهات أماكن العمل المستقبلية، ويرجح هذا الاسلوب في العمل ويقول: إن شخصية المهندسة الرقمية التى تنوب عن أي فرد في العمل بإمكانها أن تتعامل مع العملاء والموظفين حول العالم في وقت واحد.
ويضيف كانتون “إن هذه الشخصية الرقمية يمكن توجيهها حسب إرادتى كما يمكن إفساح المجال لها باتخاذ درجة معينة من درجات اتخاذ القرار التى تعتمد فيها على نفسها”.
ويؤكد أنها ستكون مزودة بأجهزة كمبيوتر فائقة القدرة متصلة بخدمة تخزين المعلومات السحابي، كما أن شكلها نفسه يمكن تحديده حسب الرغبة فقد يختار شخصا ما شكل ممثلته المفضلة أو أحد المطربين.
إلا أن ذلك برغم كل ما يثيره من إغراءات فرص الراحة بشكل أكبر يثير التساؤلات حول إمكانية هذا الكائن الاجتماعي في أن يظل طوال الوقت لا يتعامل إلا مع شاشة كمبيوتر قد تضر بصحته العقلية وذكائه العاطفي كذلك، خاصة مع بداية اتخاذ هذا النهج في بعض أماكن العمل التى تخلى فيها الموظفون عن التعامل مع الآخرين وجها لوجه واكتفوا بأجهزة الكمبيوتر.
التأثيرات السلبية للعمل عن بعد
وعلى صعيد آخر يرى فريق من المختصين أن اتساع مساحة العمل عن بعد ستؤدي إلى الشعور بالملل على أحسن تقدير، وقد يتطور الأمر إلى ارتفاع مستويات الاكتئاب على أسوأ تقدير.
وترى فيث بوبكورن، عالمة المستقبل ومستشارة لعدة شركات ، مثل “AT&T” و “أي بي إم”، و”كوكاكولا”، إن أماكن العمل ستتغير بشكل يسمح أن يكون فيه قدر من التسلية، خاصة في حالة الشركات التى لا تسمح للموظفين بسماع الموسيقي أو مشاهدة مقاطع الفيديو أثناء فترات راحتهم، كما سيكون متاحا لهم الخروج إلى الأماكن الترفيهية من وقت لآخر.
ولكن من زاوية أخرى تتوقع أن تزيد أيام العطلات كما سيتم الانسحاب اجتماعيا إلى التعامل مع عالم الواقع الافتراضي وإدمان المواد الإباحية.
أما طبيب الجمعية الأمريكية لعلم النفس ديفيد بالارد فيوضح أن بعض الأشخاص لا يفضلون العمل عن بعد وأن غياب التعامل المباشر وغير الرسمي مع زملائهم في العمل سيؤثر علي نفسيتهم بشكل سلبي، ويقول: “إن انعدام تكوين الصداقات والزمالة من خلال التعاملات وجها لوجه خلال يوم العمل وممارسة أنشطة اجتماعية كمشاركة الطعام أو المشروبات في الغرفة الخاصة سيؤثر بشكل أكيد على الحماس للعمل ودرجة النشاط كذلك”.
وليس هناك بديل عن التواصل مع الآخرين بشكل مباشر فهذه المواجهة الشخصية تعطي انطباعات هامة جدا في فهم الشخصيات بالإضافة إلى ردود أفعالهم، وعلى أساس هذا يمكن تعديل أسلوب التعامل حسب هذه العوامل، فقد تكتشف ببساطة من لغة الجسد للشخص الذي تتعامل معه وجهًا لوجه ما إذا كان هذا الشخص متفاهما أو متوترا أو منزعجا ..الخ وهذه الانطباعات لا يمكن أن تستنبط من خلال التعامل عبر الإنترنت.
وتفسر كيت ليستر، المتخصصة في تحليل استراتيجيات أماكن العمل، ورئيسة شركة “جلوبال وركبليس أناليتيكس” هذا التراجع في مستوى الذكاء العاطفي بدرجة ما إلى تعاملات الناس مؤخرًا عبر وسائل التكنولوجيا بدلًا من التعاملات المباشرة.
وقد كشفت نتائج لدراسة أجرتها جامعة ميشيغان عام 2010 أن هناك تراجعا بنسبة ثابتة في مستوى الذكاء الاجتماعي، حيث إن التعاطف الذي أظهره طلاب الجامعة مع زملائهم كان أقل مما أظهره زملاؤهم منذ عشرين عاما بنسبة تصل إلى 40%.
مكاسب وخسائر العمل المرن
وقد يبدو بنظرة سريعة أن الشركات التي يعمل موظفوها عن بعد بإمكانها توفير الكثير من المصاريف التى تندرج تحت ثمن المكان أو ثمن استئجار، وكذلك فواتير الكهرباء والإنترنت، وما إلى ذلك وقد قدرت شركة “جلوبال وركبليس”، هذه المكاسب التى يمكن توفيرها بـ 11 ألف دولار من كل موظف في العام.
ولكن على المستوى الفعلي فإن هذه الشركات التى تعتمد على فريق عمل كامل يتعامل عن بعد تكون تكلفته أعلى ولكنها غير واضحة.
وقد تراجعت بعض الشركات عن اتباع هذه السياسة في العمل عن بعد مثلما فعلت شركة “أي بي أم” في عام 2007 وأعلنت أن السبب في طلب عودة الموظفين إلى مكاتبهم بالشركة يتعلق بأن 40% من إجمالى الموظفين، والذي يصل عددهم إلى 400 ألف موظف فقدوا الاهتمام بالمداومة في العمل على مكاتبهم التقليدية.
كما اتبعت شركة ياهو عام 2013 نفس النهج، ولكن لأسباب مختلفة تتعلق بتقارير تم توجيهها إلى موظفي الشركة، أوضحت أن النقاشات التي كانت تدور بين الموظفين في الطرقات أو االكافيتريا أو حتى مع أشخاص يترددون على الشركة أو في قاعات الاجتماعات أسفرت عن خروج أفضل الرؤى واتخاذ قرارات لصالح الشركة.
إلا أنه لم يرد معلومات موثقة بأن الشركات قد تكبدت خسائر حينما سمحت لموظفيها باتباع نظام العمل المرن دون إلزامهم بالحضور إلى مكاتبهم، ولكن المخاوف التى تسيطر على رؤساء الشركات هو تقاعس الموظفين في أداء أعمالهم.
وفي ملمح هام أشار إليه الطبيب النفسي بالارد هو أن الالتزام بالحضور المكتبي لا يسمح للموظفين بإدراة شركات أخرى، خاصة بهم في أوقات العمل الخاصة بشركاتهم الملتحقين بها.
إلا أن النظام الاقتصادي الذي يعتمد على موظفين بعقود مؤقتة أدى لزيادة أعداد الموظفين الذين يعملون عن بعد، ولعل هذا يتضح بنظرة بسيطة داخل أحد المقاهي في إحدى المدن الكبرى لتظهر تلك الأعداد التي تنحني على شاشات الكمبيوتر لأثناء تناولهم القهوة أو مشرباتهم الخاصة.
اضف تعليقا