سنة ونصف فقط ما زالت تفصل عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية وهي المناسبة التي يعلق عليها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون آمالا عريضة لإعادة انتخابه لولاية ثانية.
ورغم الوعود التي أطلقها خلال فوزه المفاجئ بانتخابات 2017 حول تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي لبلاده الذي تردى إلى الدرك الأسفل بعد أن تفاقمت الصعوبات في كل المجالات مما جعل الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية تدخل في دوامة المراجعات الضريبية والضغط الحاد على الكلفة الاجتماعية والغرق في مستنقع الاقتراض الأجنبي، فإن الوعود ذهبت أدراج الرياح وعجز ماكرون عن الإيفاء ولو بجزء ضئيل من الأحلام التي دغدغ بها مشاعر ناخبيه وزادت جائحة كورونا الأمر تعقيدا وتحولت الأوضاع الداخلية إلى كابوس بسبب الاحتجاجات الدورية التي دأب على إقامتها أصحاب السترات الصفراء من العمال المسحوقين.
وأمام هذه الأوضاع الشائكة لم يجد الرئيس الفرنسي سوى محاولة تحويل وجهة الرأي العام الداخلي والخارجي نحو قضايا أخرى محاولا من خلالها التغطية على فشله في معالجة القضايا التنموية لشعبه وإثبات قدرته المزعومة على رعاية مصالح بلده أولا ومصالح الاتحاد الأوروبي ثانيا، لذلك تشبث بكل ما يملك من شرور على التدخل في القطر الليبي الجريح وأرسل قوات بلاده لاحتلال جزء من ترابه وخاصة في الجنوب الغني بالنفط والثروات الطبيعية والمتاخم لدول أفريقيا التي سبق وأن احتلتها أو عقدت معها اتفاقيات دفاع مشترك مثل تشاد والنيجر ومالي وغيرها، ثم قام ماكرون بدعم المرتزق خليفة حفتر ومكنه من كميات ضخمة من السلاح الحديث والخبراء العسكريين في محاولة للسيطرة على البلاد، وعلى صعيد حوض البحر الأبيض المتوسط انبرى الأسطول الفرنسي يمارس البلطجة واستعراض العضلات على كل القوى الموجودة في محيطه بعد أن اعتبرت فرنسا أنها سيدة المنطقة ويحق لها أن تستبيح أي جهة أخرى سواها وشرعت في التنقيب على الثروات البحرية في كامل الحوض المتوسط دون رادع ولا رقيب.
غير أن أحلام اليقظة لم تستمر كثيرا، وسرعان ما ظهر على الساحة لاعب آخر لم تتوقعه باريس وهو الدولة التركية التي استطاعت أن تتحول إلى الرقم الأساسي في المعادلة السياسية في المنطقة بعد أن أطاحت بكل الخطط والاستراتيجيات الدولية التي حاولت استبعادها وتجاهل وجودها. فكان أن انتصرت للقوى الشرعية في ليبيا ودعمتها بشكل أتاح لها الدفاع عن مواردها وإبعاد كل الأطماع الخارجية وعلى رأسها الفرنسية واندحر المرتزق الجبان خليفة حفتر وانكمش في الشرق انتظارا لهروبه من البلاد نهائيا، ولم تقتصر خسارة فرنسا على هذا الحد بل وصلت إلى أخطر مما كانت تتوقع إذ أعلنت تركيا عزمها على نيل حقوقها من ثروات الحوض المتوسط وشرعت في ذلك فعلا بأن أرسلت سفنها للقيام بعمليات البحث والتنقيب وحمت سفنها بفرقاطات عسكرية في منهج تحذيري جاد.
وقد ظهر للعالم النمو السريع للقوة البحرية التركية التي ترفضها الدول الأخرى وخاصة المجاورة، مدى طموح الدولة التركية في تأكيد مصالحها، والظهور كقوة إقليمية مسلمة تقف على قدم المساواة مع أوروبا وروسيا والولايات المتحدة. واستطاع الرئيس التركي أردوغان نشر قواته خارج بلاده بنجاح أثار قلق الدول الساحلية الأخرى، بحسب وكالة بلومبرج التي أشارت إلى استعداد الصناعات العسكرية التركية لتدشين فرقاطات أكبر حجما وحاملة طائرات تزن 27 ألف طن خلال العام المقبل علاوة على السفن والغواصات الحربية محلية الصنع. الأمر الذي دفع ماكرون، إلى وصف حلف “ناتو” بأنه “ميّت دماغياً ويحتاج لإنعاش”، لأول مرة في أعقاب عملية “نبع السلام” التي أطلقتها القوات المسلحة التركية ضد تنظيم “بي كا كا” الإرهابي في سوريا. مطالبا دول الحلف بالتصدّي لتركيا، بناء على مزاعم تحرش البحرية التركية بسفينة فرنسية. متجاهلا أن تركيا نفسها عضو في هذا الحلف.
وأمام هذا التصدي لأطماع الدولة الفرنسية لم يبق للرئيس ماكرون إلا أن ينكفئ خائبا ويعاود قراءة موازين القوى في المنطقة بعد أن لاح في الأفق تغير الأوضاع عن سابقتها في القرن الماضي أيام تم تقسيم دول العالم بين فرنسا وانجلترا وأبيحت دماء الشعوب وثرواتها بما سمح لهذين البلدين أن يتحولا إلى قوة مالية واقتصادية ضخمة لم تقم على العمل والجهد بقدر ما قامت على النهب والسطو على أرزاق الفقراء في الدول التي تم تفقيرها ونعتها بعد ذلك بالدول المتخلفة.
اضف تعليقا