تعيش الساحة التونسية حالة من القلق والتوتر منذ شهور، ويمكن القول إنها دخلت مرحلة الشك في الخيار الديمقراطي ككل. وذلك بسبب أن هناك حالة من التشبث بالآراء الأيدلوجية الضيقة، وتراجع نسبة قبول الأطراف الأخرى، كما أن هناك مشاكل هيكلية في بنية النظام السياسي التونسي. وبالطبع، فإنه لا يوجد حزب أو طرف في تونس برئ من المسؤولية، إلا أن هناك أطرافًا ارتكبت أخطاء أكثر من غيرها.

وحسب مراقبين، فإن الطرف الأكثر خطأً حاليًا، والسبب الأكبر في انسداد الأفق السياسي في تونس خلال اللحظة الراهنة، هو رئيس الجمهورية، قيس سعيد، الذي رفض استقبال الوزراء لأداء اليمين الدستورية أمامه، رغم أنهم قد نالوا ثقة نائبي البرلمان المنتخبين شعبيًا. لأن موقف سعيد قد عمق من الأزمة الموجودة أصلًا، وأدى إلى تعطيل عمل الحكومة، ونشر حالة عامة من التوتر وسوء التفاهم بين المؤسسات الحكومية التونسية.

مشكلة مشابهة في عهد السبسي.. 

وكما يقال، بالمثال يتضح المقال. فإن الرئيس التونسي الراحل، الباجي قايد السبسي، كان له موقفًا مشابهًا من موقف الرئيس الحالي، وذلك في عهد حكومة يوسف الشاهد، حيث اعترض السبسي حينها على بعض الوزراء الذين اختارهم الشاهد، إلا أن ذلك لم يمنعه من قبول أداء وزراء الشعب لليمن الدستورية أمامه، وبذلك جنب الرئيس السبسي حينها البلاد من أزمة كادت أن تشل حركتها السياسية.

وفيما يخص وجاهة ما ذهب إليه سعيد من رفض أداء الوزراء للقسم أمامه، فإنه يبدو أن هناك حالة عامة في مؤسسات الدولة التونسية من عدم الرغبة في عدم الوقوع في حرج مع رئيس الجمهورية، أو عدم الظهور كجزء من الاصطفافات، حيث تقدمت رئاسة الحكومة بطلب استشارة من المحكمة الإدارية، لكن الأخيرة قالت إن هذا ليس من اختصاصها، بل هو من اختصاص المحكمة الدستورية، وكذلك كان موقف الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.

ومن الواضح، أن غياب المحكمة الدستورية لعب دورًا في أن تؤول الأمور إلى ما هي عليه الآن من انسداد في الأفق السياسي. فالمحاكم الدستورية في كل دول العالم تعتبر ضمانة مهمة لإرساء الديمقراطية، وإعلاء القانون. لكن غيابها في الحالة التونسية، مكن الرئيس سعيد من لعب دور الحامي والضامن للدستور، وبالتالي فإن تفسير المواد الدستورية يخضع لوجهة نظر سعيد. وبغض النظر عن إذا ما كان الرئيس يستغل هذه الثغرة بقصد أم لا، فإن مجرد وجودها يمثل مشكلة في النظام السياسي الحالي.

ورغم أن الكثير من الفقهاء الدستوريين لم يوافقوا الرئيس في اعتباره أنه هو الجهة الوحيدة المخولة بتفسير الدستور حاليًا، إلا أن الرئيس ما يزال متمسكًا بموقفه. حيث ألقى خطابًا اتهم فيه الأحزاب بالارتهان لحساباتها السياسية ومصالحها الخاصّة.

برلمان مشتت..

من جهة أخرى، فإن التركيبة الداخلية للبرلمان التونسي لا تسمح لأي طرف بحل الأزمة سواء بالسياسة، أم بقوة القانون ونفوذ الأغلبية، حيث إن الأغلبية المطلقة ليست بيد أحد، وبالتالي فإن الأمر متروك للتوافقات والتحالفات، التي غالبًا ما يسيطر عليها المصلحة الحزبية الضيقة. كما إن أطرافًا كثيرة في البرلمان بإمكانها تعطيل أي قرار إذا أرادت.

كذلك، فإن واقع الأحزاب يبرز تناقضاتها في أكثر من سياق. وربما تكون التسريبات الأخيرة التي أدلى بها رئيس كتلة التيار الديمقراطي، تكشف هذا أن هذا الاستقطاب ممنهج، وأن هناك أطرافًا تعمل على تعميقه. ومن الواضح أن حالة الاستقطاب هذه قد انعكست على الموظفين والعمال الذين وجدوا أنفسهم داخل دائرة الصراع، وأنه من الواجب عليهم تقديم شيء لحل الأزمة.

في هذا السياق، طرح الاتحاد العامّ التونسي للشغل “مبادرة الحوار” في محاولة منه لحلحلة الأمور، وقدمها إلى رئيس الجمهورية، إلا أن سعيد لم يتفاعل معها. حتى إن بعض أطياف الشعب التونسي ظنت أن الرئيس يرغب في إعلان موافقته على مبادرة الاتحاد العامّ التونسي للشغل بالتزامن مع مناسبة عيد الاستقلال، إلا أن المناسبة مرت دون أي إعلان من الرئاسة حول المبادرة، بل إن الرئاسة لم تحتفل بالمناسبة الوطنية أصلًا، خلافًا لتقاليد الشعب وأعرافه.

المزية الأهم في خطر.. 

ويمكن اعتبار تونس نقطة مضيئة في بلاد الربيع العربي، ودول المنطقة بشكل عام، خصوصًا فيما يتعلق بالحوار. حيث اعتمد الساسة التونسيون – على اختلاف توجهاتهم – مبدأ الحوار لحل المشكلات العالقة بينهم، وكان الحوار مخرجًا لكل الأزمات التي كادت تعصف بالتجربة التونسية منذ 2011، حتى أن المنظمات الوطنية التونسية التي رعت الحوار قد حازت جائزة نوبل للسلام.

لكن الأزمة الحالية تشي أن هناك عدة عراقيل تمنع إجراء حوار فعال يخرج البلاد من مشكلاتها،  فرئيس الدولة يصرح أنه لن يتحاور مع ما يسميهم بـ”الفاسدين” دون أن يحدّد هويتهم السياسية أو الحزبية، كما إن الاتحاد يرفض التفاوض مع ائتلاف الكرامة، لأنهم داعمون للإرهاب في نظره، كذلك فإن حزب عبير موسي يعيث فسادًا في تونس، ولا يعترف بحركة النهضة، التي منها رئيس البرلمان، ولديها عدد المقاعد الأكبر تحت قبته.

حل يحتاج لتمهيد.. 

ويرى مراقبون، الحل في الأزمات المتفاقمة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ربما يتمثل في إجراء انتخابات مبكرة. إلا أنه في المقابل، هناك تخوف ألا يتغير المشهد الحالي وأن تنتج الانتخابات نفس المشكلة، وتظل البلاد في نفس الدوامة. لذلك فإن الاقتراح القائل بتغيير القانون الانتخابي قبل الذهاب إلى الانتخابات من الأساس، ربما يكون ذا وجاهة.

لكن هذا لا ينفي أن الأصل هو أن تتخلى القوى الحزبية عن تغليب مصالحها الضيقة عن مصالح الشعب العامة، وأن تقتنع كل القوى أنه ليس بإمكانها إقصاء بعضها البعض، وأن يجلس كل الفرقاء على طاولة الحوار، وأن يقبلوا بنتائجه أيًا كانت.

اقرأ أيضًا: بسبب تعنت الرئيس قيس سعيد .. هل ينعقد الحوار السياسي الجامع بدونه؟