العدسة – ربى الطاهر
تمثل مشكلة الإسكان عائقًا كبيرًا في كثير من بلدان العالم التي قد تعاني من كثافة سكانية عالية أو من سوء توزيع السكان الذين قد يقبلون على أماكن محددة تتوافر فيها الخدمات عن غيرها من مدن أقل في توفيرها، وقد تتدخل الدول أحيانًا في صناعة حلول لمثل هذه المشكلة، خاصةً وإن كانت تتعلق بسوء توزيع للسكان فقد تنشئ محافظات جديدة أو توفر خدمات جديدة في المحافظات المحرومة أو تساهم في إنشاء وحدات سكنية على أطراف المدينة المكتظة بالسكان بأسعار مناسبة لظروف مواطنيها الاقتصادية، إلا أنَّ ذلك لا يمثل دائمًا حلًا مثاليًا، حيث إن هناك دولًا لا تتوافر فيها المساحات لإنشاء وحدات سكنية جديدة..
وهنا يبدأ المواطنون في ابتكار حلول فردية لحل أزماتهم الشخصية لإيجاد وحدة سكنية فهناك دول اضطرّ سكانها لاتخاذ مساحات صغيرة “أستوديو” لمواجهة الكثافة السكانية، وهناك دول أخرى ابتكر السكان فيها أشكالًا لبنايات جديدة تقضي أغراضهم بعيدًا عن هذا الارتفاع الهائل في أسعار العقارات، ومن هذه الدول التي لجأت للابتكار في إنشاء وحدات سكنية خاصة جدًا هي هونج كونج.
فهذا البلد الذي وصل عدد سكانه إلى 7,4 مليون نسمة في مساحة لا تزيد عن 106 كيلومتر مربع، كان لابد وأن يجد سكانها حلولا جذرية لهذه الكثافة السكانية، والتي تسببت في ارتفاع أسعار العقارات إلى حدود بعيدة عن مقدرة أغلب مواطنيها إلى جانب السرعة في تلك الارتفاعات العقارية التي من العسير جدًا مواكبتها.
وهذا ما دفع أحد المهندسين المعماريين المحليين للتفكير في حلول قد تبدو غريبة ولكنها عملية، إذ إنه تمكن من تحويل أنابيب المياه الخرسانية العملاقة إلى شقق صغيرة، وقام بوضعها متراصة فوق البعض على مساحات الأراضي الخالية حتى إن من يراها عن بعد قد يعتقد أنها موقع بنّاء، ورغم غرابة هذه الفكرة، لكنها طرح جديد لحل إشكالية السكن في هونج كونج.
الحل في منازل النانو
وربما لم يكن هذا هو الحل الوحيد الذي لجأ إليه سكان هذا البلد المكتظ بالسكان، ولكن البدائل الأخرى لم تخرج عن كونها شققًا أصغر في المساحة بأسعار معقولة وأحيانًا أخرى كانت الحلول تبدو غريبة، فقد طرح بعض المعماريين أشكالًا غريبة عن السياق المتاح هناك لشقق صغيرة أطلق عليها اسم “منازل النانو”.
ولمحاولة تقريب إلى أي حد وصلت الأزمة، قد توضح أمثلة لأسعار المنازل والشقق بالتناسب مع المساحة حجم المشكلة هناك، فقد تم بيع أحد هذه المنازل الصغيرة، والتى يطلق عليها “منازل النانو”؛ حيث حددت مساحته بـ 121 قدمًا مربعًا- وهي مساحة تقل عن تلك التي يمكن لسيارة الوقوف فيها- بمبلغ 242,805 دولار أمريكي، وبالتأكيد لن يختلط الأمر على أي شخص لإدراك أن هذا السعر رقم مبالغ فيه جدًّا لتلك المساحة التي يطلقون عليها اسم منزل.
وربما ما يقوله المعماري جيمس لو، الذي يعمل في هونج كونج، قد يصف كيف وصل الأمر إلى هذا الحد هناك، وكيف اكتسبت هونج كونج تلك السمعة السيئة في إنشاء هذه الأماكن الصغيرة التي يطلق عليها شقق سكنية، فهناك تقام المباني لعددٍ من الشقق المقسمة بدورها إلى أجزاء، ليس هذا فحسب، بل نفس الوضع يطبق على المباني التجارية أيضًا، حيث تقسم إلى مساحات صغيرة داخلية.
ويصف لو الحياة في مثل هذه الشقق التي لا يدخلها الشمس مطلقًا، كما أنها لا تحظى بأية درجة من درجات التهوية المناسبة، وهي عبارة عن مساحات صغيرة جدًا لا تزيد عن 50 قدمًا مربعًا.
وأضاف: “إن المستفيد الأول والوحيد من هذه الأزمة هم ملاك الأراضي الذين يقسمون الأراضي إلى وحدات صغيرة جدًا بمبالغ مرتفعة جدًا؛ حيث ليس بإمكان عامة الشعب الحصول على شقة عادية”.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد بدأ مواطنون كثر اللجوء لأي مكان يمكن الإقامة فيه، حتى وإن كان مجرد أقفاص مثلما يحدث في كثير من الأحيان.
فلم يعد أمام الكثيرين الذين لا يمتلكون ما يمكنهم من الإقامة بتلك الوحدات الصغيرة إلا استئجار ما لا يتخطى 16 قدمًا مربعًا، يقوم بإحاطته ببعض المواد التي تجعلها بالفعل قفصًا بشريًا.
ويصف “لو” هذا البيت المكون في أغلب الأحيان من ثلاثة أسِرّة ذات الطابقين، يفصل بينهم شبكة تحيط بكل جزئية، من باب الحفاظ على الخصوصية، وهي تشبه بدرجة كبيرة حياة السجون، وهو نمط رهيب من أنماط المعيشة القاسية.
ولا يجد المواطنون هناك حلا بديلا سوى دفع المبالغ الطائلة في الإيجارات لهذه الشقق الضيقة جدًا؛ إذ إن تكلفة الشقة التي تتراوح مساحتها ما بين 50 و100 قدم مربع، يصل إيجارها الشهري إلى 300 و600 جنيه إسترليني (418 إلى 837 دولارًا أمريكيًا)، أما تلك الوحدات الأصغر “الأقفاص” فلا تقل كثيرًا، إذ يصل إيجارها إلى 300 جنيه إسترليني شهريًا.
منازل الأوبود
ومثلما يقال إنَّ الحاجة هي أم الاختراع، فإنّ هذا الوضع هو ما دفع “لو” للتفكير بشكل مبتكر للاستفادة بأية مساحة متاحة “النادرة الوجود”، فكانت إحدى هذه الأفكار- والتي ربما سار على نهجه فيها كثير من المعماريين هناك – هي بناء منازل يطلق عليها اسم “أوبود”، وهي عبارة عن منازل صغيرة تستغل فيها أنابيب المياه الخرسانية العملاقة التي قد يتم وضعها فوق بعضها، وتثبت في مساحات صغيرة غير مستغله وربما تبنى منها أبراج سكنية كبيرة.
وقد استغل “لو” تلك الأنابيب التي تستخدم لتصريف مياه الأمطار تحت الأرض، وقال: إنَّ أثمانها رخيصة جدًا، بل زهيدة عند شرائها من المقاولين، فهم لديهم فائضا كبيرًا في أعدادها، وقد يكون مجانيًّا، ونظرًا لإمكانية استغلالها فهم يبيعونها بأي سعر يمكن أن يكتسب منها بدلا من أن تهدر.
ويقول: “إن استغلال هذه الأنابيب يعود بفوائد مضاعفة من رأس المال، خاصة مع زيادة استغلالها بتجهيزها من خلال تخصيص حمام ومطبخ صغير، وممكن أيضًا إضافة أريكة تحول إلى سرير عند الحاجة، وبهذا يتوفر منزل أفضل كثيرًا من تلك الأقفاص، وقد تم تصميمه لكي يسمح بإمكانية تعديله مستقبلًا من قبل السكان فهو من طراز عصري خاص.
ويعترف “لو” بأنّ ما ابتكره من منازل لا يمكن اعتباره حلًا للأزمة على الأمد البعيد، إلا أنَّ ذلك لم يكن هدفه مطلقًا، فهذا الأوبود هو حل مؤقت ولا يمكن لعمارة فردية أن تحل مشكلة يتداخل فيها الكثير من الأسباب التي يصعب أن تتفكك بحل بسيط مثل هذا المعمار الخاص.
وأضاف أنَّ هناك مشكلة متعلقة بعدم التعامل الجيد لاستغلال المساحات في هونج كونج، وهو ما كان سببًا إضافيًا لابتكار الأوبود، ويرى أن أسباب ندرة الأراضي هناك تعود إلى ارتفاع أسعار العقارات، فعلى الرغم من تلك الكثافة السكانية العالية، فإنَّ القول بأن هناك ندرة في تواجد الأراضي، أمر يخالف الحقيقة كليًّا.
ويقترح لو استعادة بعض المساحات من الأراضي الموجودة في البحر، إلا أنَّ نظرة بسيطة إلى تلك المدينة توضِّح أن هناك الكثير من الأراضي غير المستغلة، مثل تلك الموجودة تحت الجسور مثلًا، أو فوق المباني، وما بين المباني كذلك والتي قد تترك فارغة لفترات طويلة.
كما يطرح على المخططين الحضريين الإقدام على اتخاذ خطوات أجرأ في تطوير المدينة، من خلال استغلال مشاريع أخرى مثل “الأوبود” لتزيين واستغلال الشقوق وما تبقى من شوارع المدينة.
وقد تتضخم المشكلة بصورة أكبر عند الأخذ في الاعتبار الارتفاع المستمر في الأسعار، الذي لا يقابله ارتفاع في الأجور وحين يتم تحقيق هذا التوازن، قد يتم توفير حلول مناسبة، وإلا ستظل الحلول محصورة بين الأقفاص والأوبود.
اضف تعليقا