العدسة: محمد العربي

حرب مختلفة شهدتها قضية الصحفي السعودي المغدور به جمال خاشقجي على يد السلطات السعودية، هذه الحرب التي شهدت شراسة غير معهودة، كانت سببا في أن تصل القضية للمحطة التي وصلت عليها حتى الساعة، والتي تمثلت في اعتراف السعودية بالجريمة، ثم إعلانها أنه لا أحد فوق المحاسبة.

نوعية الحرب هذه المرة لم تكن في الغرف المغلقة، أو من خلال القنوات السرية، وإنما كانت حربا علي صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية وشاشات المحطات الفضائية والإذاعية، هي إذن الحرب الاعلامية التي كانت صاحبة المكسب الأول في الجريمة التي كان بطلها أحد أبناء صاحبة الجلالة.

ويشير تعاطي الإعلام العربي لوجود أزمة حقيقية يعيشها في ظل سيطرة الأنظمة والحكومات عليه، وبعد أيام من دفاعه المستميت عن براءة ذمة المملكة، تلقي ضربة موجعة باعتراف المملكة تفسها بأن خاشقجي قتل علي يد رجالها وداخل قنصليتها.

كما كشف التناول الإعلامي السعودي والعربي والدولي للقضية إلي أي مدي تؤثر التوجهات الفكرية والإيدلوجية في مناصرة قضية إنسانية، فضلا عما لعبه رأس المال والتوجه السياسي من تأثير واضح فضح مؤسسات إعلامية ظلت لسنوات طويلة تحظي باحترام وتقدير العالم.

جني الثمار

ويشير المتابعون لتطور القضية أن الأنظمة التي كانت طرفا في القضية جنت ثمار ما قدمته من مساحات للإعلام والصحافة، فقي الوقت الذي كانت الصحف والفضائيات التركية هي الأبرز في التغطية، كانت الأخري السعودية هي الأفشل في الدفاع أو مواجهة المنصات الإعلامية المضادة.

وطبقا للمراقبين فإن غالبية الإعلام التركي بمختلف توجهاته ساند حكومة بلاده، وتعامل مع الموضوع باعتباره قضية أمن قومي تمس هيبة الدولة التركية، وبالتالي ندر أن تجد من يصطاد في الماء العكر ويتهم الرئيس التركي وحكومته بالتقصير أو الإهمال أو الضعف.

وفي المقابل كان تعامل النظام التركي مع إعلام بلاده دليلا علي قدرته في استغلال كل الإمكانيات التي تدعم موقفه، وهو ما برره المراقبون بطريقة التسريبات التي قام بها النظام التركي في القضية، والتي دفعت كل وسائل الإعلام المحلية لأن يكون لها نصيب من الشهرة والتغطية، وبالتالي كانت معظم الصحف ووسائل الإعلام التركي مصادر يعتمد عليها الإعلام الدولي في تغطية الحادثة وتداعياتها المتواصلة.

ويري المختصون في الحملات الإعلامية أن التسريبات التي قامت بها الحكومة التركية للإعلام المحلي كانت سببا في أن تظل القضية حية، خاصة وان توقيتات نشر هذه التسريبات كان سببا في تصحيح كثير من المواقف الدولية والعربية المعنية بالقضية، وخاصة مع الرئيس الأمريكي وكذلك العاهل السعودي.

المال لا يكفي

في مقابل ذلك قيم إعلاميون وسياسيون تعاطي الإعلام السعودي مع القضية بأنه كان هزيلا، خاصة وأنه تلقي العديد من الضربات كان أشدها قسوة هو الإعلان الرسمي السعودي بتورط مسئولين في الحكومة في مقتل خاشقجي، رغم أنه وقبل دقائق من هذا الإعلام الرسمي، كان الإعلام السعودي سواء المحلي أو الخارجي الذي تموله المملكة ببيروت ولندن والقاهرة ودبي، يصر علي تكذيب الإعلام التركي ويشن هجوما عليه وعلي الإعلام القطري وخاصة قناة الجزيرة، ووصل بهم الحال للتأكيد علي أن المخابرات القطرية بالتعاون مع الإخوان قاموا بخطف خاشقجي إلي الدوحة بعد أن تاب الراحل عن مواقفه الرافضة لسياسات المملكة.

ويشير المتابعون إلي أن التمويل السعودي لوسائل الإعلام التابعة لها، لم يفدها في هذه القضية التي أثبتت فشل رأس المال في تغير قناعات الشعوب، مستدلين بما كتبه الروائي الفلسطيني العالمي ربعي المدهون عبر صفحته علي الفيس بوك عن سبب استقالته من جريدة الشرق الأوسط، مؤكدا في رسالته مساء الأثنين: ” اليوم قدّمت استقالتي من العمل في جريدة “الشرق الأوسط”، في لندن، بعد 18 عاما، قضيت معظمها مسؤولا للملف الفلسطيني”، مضيفا: “أغادر مكتبي، أو هكذا أفترض، بعد شهر، التزاما بشروط عقد العمل، إلى فضاء آخر، منهيا 40 عاما من العمل الصحافي والبحثي والتلفزيوني، وفي حقيبتي نصفي الآخر الذي سيواصل معي المسيرة، ويضيء “وحدة” ما تبقى من العمر: القراءة والكتابة، لعلي انتج عملا أدبيا آخر، رواية أخرى…من يدري، .. معي أيضا، بعض زملاء المهنة، “طلابي” الذين “علمتهم”، وصاروا “أساتذة” أفخر بهم وأتعلم منهم. كانوا أبناء لي وبنات، أخوة وأخوات، صديقات وأصدقاء. لم أشعر يوما معهم بأنني تجاوزت السبعين. يأخذونني إلى أعمارهم، وآخذهم إلى تجاربي، .. كنت أتمنى أن اختتم حياتي المهنية بحفل بهيج بين زملائي وأصدقائي. خططت لأن يكون ذلك بعد ثمانية أشهر تقريبا، حين ينتهي عقد العمل”.

ويضيف المدهون الحاصل علي جائزة البوكر العربية في الرواية: “لكن ما حدث بعد ظهر 2 أكتوبر الحالي، وضع حدا لكل شيء. كل شيء. قلب حياتي التي كانت ترتب خطواتها لتقاعد هادئ “آمن”. كان مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي صادما. كان مفزعا، مرعبا، موجعا، مفجعا، مؤلما، بشعا وغير مسبوق. يستحق كل من خطط لقتل جمال أو شارك في قتله، عقوبة بحجم الجريمة وطبيعة دوره فيها”، واختتم رسالته قائلا: “سلاما جمال”.

سقطة رويترز

ويشير المراقبون إلي أن القضية كشفت كذلك الغطاء عن التمويل السعودي لوسائل إعلام دولية عتيقة، كان تحتل قبل هذه القضية مصداقية ذات ثقل لدي الرأي العام، مؤكدين أن ما نشرته “رويترز” منذ بدأت الأزمة يثير الشكوك حول مصداقيتها، وخاصة عندما استبقت خطاب الرئيس التركي أردوغان صباح الثلاثاء بتقرير نسبته لمصادر سعودية يشير لمسئولية مسعود القحطاني الكاملة عن الجريمة بكل تفاصيلها، وأنه كان المسئول كذلك عن احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وهو الذي أجبره علي الاستقالة.

ويري ناشطون وإعلاميون أن استقبال القنصل السعودي محمد العتيبي لمراسل رويترز باسطنبول بعد الحادث مباشرة وسماحه له بتصوير القنصلية كان في إطار خطة تشارك فيها الوكالة العتيقة في توجيه وتضليل الرأي العام بلفت الأنظار عن ضلوع محمد بن سلمان في الجريمة رغم كل الدلائل التي تشير لتورطه فيها.

ويري نشطاء وإعلاميون أن ما قامت به رويترز محاولة واضحة لتضليل الرأي العام العالمي وإظهار ولي العهد السعودي بأنه كان مغلوبا علي أمره وهو أمر يشين الوكالة العريقة.

الإعلام الغربي

ويبدوا للخبراء أن الإعلام الغربي بالإضافة للتركي والجزيرة القطرية كانوا الأكثر جرأة ومهنية في التعاطي مع القضية، وكان لهم تأثير كبير في تغيير مجريات الأراء والمواقف، وخاصة صحيفة الـ “واشنطن بوست”، التي لعبت دورا كبيرا بالإضافة لـ ” النيويورك تايمز ” في تعديل مواقف الرئيس الأمريكي ترامب، مستخدمين ثقلهم الإعلامي في توضيح مواقف نواب بارزين بالكونجرس خالفت مواقف ترامب الداعمة لولي العهد السعودي، ما دفع بترامب لتغيير بوصلة تصريحاته من عدم تحميل الأمير القاتل المسئولية، إلي تمنيه ألا يكون متورطا في الجريمة، بعد أن كشف أنه تعرض لحملة خداع غير مقبولة من الجانب السعودي.

كما استكتبت الواشنطن بوست عدد من الكتاب الذين كانت لهم تجارب اعتقال واضطهاد لمخالفتهم التوجهات السياسية لأنظمة الحكم ببلادهم، وهو ما اعتبره المراقبون، وسيلة ضغط وتجييش إعلامي مارسته الصحيفة التي عمل خاشقجي ضمن طاقم كتابها لسنوات.

وروت الصحيفة الأكثر شهرة في الولايات المتحدة قصة انضمام الصحفي السعودي المقتول لكتابها من خلال مقال كتبته المحرّرة بالجريدة كارين عطيّة، وقالت فيه أن خاشقجي قتل لأنه كان معارضا لسياسة بلاده.

ولم تكتف الجريدة بذلك بل فضحت وسائل الإعلام الأمريكية الأخري التابعة لليمين الجمهوري التي حاولت تشويه صورة خاشقجي، وطبقا لما وصفته الواشنطن بوست فإن هناك ما يمكن اعتباره خطابا مشتركا بين هذه الصحف لتشويه سمعة خاشقجي، في إطار دعم سياسة ترامب في “التعامل العقلاني” مع الاتهامات الموجّهة إلى السعودية، ووصف الصحفي المقتول بأنه كان داعما للأرهاب بسبب علاقته بابن لادن وجماعة الإخوان المسلمين علي حد تعبير

“فوكس نيوز” وقناة CR TV الإلكترونية المحافظة، ومجلة “فرونت بايدج” اليمينة.