العدسة – جلال إدريس:

“تعتزّ كل دولة بهويتها وحضارتها وثقافتها” وتسعى أي دولة لنشر تلك الهوية والثقافة في الدول والمجتمعات المحيطة بها؛ لكون ذلك مكسبًا هامًا لها، ويشكل قوة ناعمة تضاف إلى قواها الأساسية.

لكن وعلى العكس تمامًا، تشهد كلّ من “السعودية والإمارات” حالة انسلاخ غير عادية، من الهوية والثقافة الإسلامية خلال السنوات الأخيرة، إلى حدّ سعي حكام الدولتين إلى تسويق أنفسهما كداعين للعلمانية والانفتاح، ومحاربين لكل ما هو إسلامي سواء كان معتدلًا وسطيًا، أو متطرفًا انغلاقيًا.

وتلك الظاهرة بدأت مع ثورات الربيع العربي، لكنها أخذت في التوسع خلال السنوات الأخيرة، حيث باتت الدولتان تضعان كل ما هو إسلامي في خانة واحدة، وهي “خانة الإرهاب” وألصقت بالعلماء والمفكرين الوسطيين والمشهود لهم بالاعتدال، تهم التطرف.

كما حاربت السعودية والإمارات المنظمات الإسلامية المعتدلة، وكذلك التيارات والأفكار المعتدلة، وعملت على خلق مؤسِّسات في ظاهرها نشر الثقافة والهوية الإسلامية، لكن في باطنها نشر العلمانية والانفتاح والبعد التام عن كل ما هو إسلامي.

فهل كل ما سبق ادّعاءات على البلدين المسلمين؟ أم هي حقيقة يؤكدها الواقع ويشاهدها الجميع؟ وإن كانت الإجابة بنعم فلماذا يلجأ حكام دولتين مسلمتين، لتشويه المنتمين للتيارات والأفكار الإسلامية المتنوعة، ولماذا يحاربون كل ما هو وسطي ومعتدل؟ وهل حقًا تطبق الدولتان مبادئ العلمانية التي تشمل “حرية الفكر والاعتقاد” أم أنه يتم اجتزاء العلمانية وتفسيرها بحسب هواهم؟

العدسة ومن خلال “الشواهد” التالية تجيب على تلك الأسئلة الهامة:

العتيبة والدعوة للعلمانية

عند الحديث عن علمانية “الإمارات والسعودية” لا يمكن أبدًا إغفال تصريحات السفير الإماراتى لدى واشنطن، والرجل المهم للإمارات “يوسف العتيبة” في هذا الشأن؛ حيث أعطى “العتيبة” خلال مقابلة تليفزيونية مع الإعلامى الشهير تشارلى روز تبريرا مخالفًا لتوقعات الكثيرين حول أصل الخلاف بين بلاده وحلفائها، السعودية والبحرين ومصر من جانب وبين قطر من جانب آخر.

وقال العتيبة بالنص إنّ «الأزمة الخليجية هى بالأساس أزمة رؤية متناقضة بيننا وبين قطر تجاه مستقبل الشرق الأوسط»، وأضاف العتيبة «نحن نريد شرقًا أوسطيًا أكثر علمانية وأكثر استقرارًا ورخاءً، عن طريق حكومات قوية».

إذًا فالخلاف الخليجي “القطري” فسَّره العتيبة أنّه قائم على رفض قطر “علمنة دولتها” في حين أقرّت السعودية والإمارات والبحرين ومصر ذلك.

لكن وعلى ما يبدو فإنّ العلمانية على الطريقة السعودية الإماراتية ستكون مختلفة تمامًا عن العلمانية التي تمارسها وتتبناها العديد من المجتمعات، والتي ترتكز على قاعدة الفصل بين الدين والدولة من ناحية وبين مساواة الدولة بين جميع المواطنين والمقيمين بغضّ النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم وأفكارهم.

ويرى مراقبون أنَّ كلًا من الدولتين لا يستهدفان بنشر العلمانية تلك المفاهيم إطلاقًا؛ حيث إن التشريعات والنظام القضائي والقوانين في كلٍّ من الدولتين لايزالان يقتبسان المعايير والأحكام من الشريعة الإسلامية، وإن كانت تطبق بصورة خاطئة.

وعلى هذا فإنّ “العلمانية” الأقرب للتطبيق في السعودية والإمارات هي علمانية جديدة من نوع خاص، علمانية لا تسمح بقيام أحزاب سياسية ولا جمعيات أهلية، علمانية لا تعرف الانتخابات الدورية الحرة والعادلة، علمانية يُستغلّ فيها رجال الدين للترويج لكل ما يريده حكام القصور إلا ما يتعلق بحقوق وحريات شعوبهم، علمانية تحارب علماء الدين والفكر الإسلامي إن صاروا على غير هوى الحاكم والسلطان.

التضييق على الإسلاميين داخليًا وخارجيًا

وبعيدًا عن مفهوم كلٍّ من الدولتين للعلمانية، والقواعد والمبادئ التي يسعيان لتطبيقها في بلادهما، فإنّ حكام الدولتين عملوا على التضييق على التيارات الإسلامية في بلادهم أو حتى في البلدان المجاورة لهم، فضيّقت الإمارات على الإسلاميين في الإمارات وقامت باعتقالهم والزجّ بهم في غياهب السجون وتشويه صورتهم.

كما أنفقت الإمارات والسعودية خلال الأعوام الماضية أموالًا طائلة لمحاربة تيارات الإسلام السياسي، وخصوصًا المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، سواء على أراضيها من خلال الاعتقال والتعذيب، أو من خلال دعم أنظمة قمعية للانقلاب عليهم والتنكيل بهم والزج بهم في غياهب السجون.

ففي مصر ساعدت الإمارات والسعودية النظام العسكري في مصر للانقلاب على حركة الإخوان المسلمين، والزجّ بقيادتها في السجون، وتصنيف الجماعة الأكثر انتشارًا في العالم، على أنها “تنظيم إرهابي متطرف”.

كما سعت الإمارات للتضييق على الإسلاميين في السعودية، من خلال نصائح قدَّمها محمد بن زايد إلى صديقة محمد بن سلمان، حتى انتهى المطاف إلى الزج بعلماء المسلمين بالسعودية في السجون واعتقال الكثير منهم، وإعلان “محمد بن سلمان” صراحة أنه يقود حربًا ضد الصحوة الإسلامية.

الأمر ذاته، حاولت كل من الإمارات والسعودية لعبه في كل من ليبيا وتونس والمغرب وبلاد أخرى؛ حيث إنهما تسعيان لتشويه كل من يتولى قيادة حركة أو تيار إسلامي سياسي، أو إصلاحي.

تشويه رموز الوسطية

وفي إطار الحرب على كل ما هو إسلامي ودعم العلمانية، عمدت السعودية والإمارات على تشويه كل الرموز الدينية الإسلامية في العالم، المعروف عنها الوسطية والاعتدال، فقط لأن تلك الرموز لا تسير في ركب الدولتين.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، واجه الشيخ يوسف القرضاوي- رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- حربًا شرسة من قبل الدولتين ووسائل إعلامهما؛ حيث اتهم الرجل بالتطرف تارة وبالإرهاب تارة، وبالتخلي عن مبادئ الدين الصحيح تارة أخرى.

ولا تكف وسائل الإعلام السعودية والإمارتية عن شيطنة الرجل المشهود له بالعلم والوسطية والاعتدال، والذي كرّمته “الإمارات والسعودية” نفسها قبل عدة أعوام، وكانت الدولتان تعتبره نموذجًا لعالم الدين المستنير، إلا أنَّ ذلك قبل أن تسلك الدولتان مسلكًا مختلفًا في محاربة الإسلام والسير في هوى العلمانية.

المفكر الإسلامي الشهير في أوربا “طارق رمضان” والمقيم في فرنسا، كان له نصيب هوالآخر من التشويه السعودي الإماراتي؛ حيث ظل إعلام الدولتين يهاجم الرجل ويشنع عليه بكل التهم الباطلة، حتى وجد الرجل نفسه متهمة في قضايا تحرش، يرجّح البعض أن للإمارات دخل فيها.

وكان الخوف من تزايد انتشار “أفكار رمضان” الوسطية، وحديثه عن الإسلام، جعله محطّ أنظار العلمانيين، ومتطرفي أوروبا من المسيحيين وغيرهم؛ حيث لا يوجد مفكر في فرنسا يمكنه أن يجمع في محاضرة له ما يبلغ من 100 ألف شخص مثل هذا الرجل الذي نتحدث عنه، وذلك من مختلف التيارات والديانات للاستماع له في الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا وهو لقاء يلقى اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا، فكلّ ذلك يجعل الدولة تقف ضده، وذلك لسبب الضغط من أجل تقليص نفوذه في الحضور.

الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل إنّ الإمارات سعت ووضعت بالفعل علماء المسلمين بمختلف العالم في قوائم إرهابية، وحددتها في بعض الدول كالسعودية والبحرين ومصر، ضمت “اتحاد علماء المسلمين” وهيئات أخرى، شهد لها القاصي والداني بالاعتدال، ووصفتها الإمارات بالتطرف، وألصقت بها تهمة دعم الإرهاب والعنف، إلا أن هذه الأفعال لم تجد أي صدى دولي.

التحريض على المسلمين في أوروبا

محاربة الإمارات للإسلام تجلّت بأوضح صورها عندما اعتبر ما يسمى وزير التسامح الإماراتي نهيان مبارك آل نهيان، أنّ إهمال الرقابة على المساجد في أوروبا تسبّب في الهجمات الإرهابية في القارة العجوز، محملًا المسلمين في أوروبا بشكل عام مسؤولية أي عمل إرهابي هناك.

تلك التصريحات اعتبرتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا  ”تحريضًا مبطنًا على المسلمين في أوروبا”، معتبرة أنّ تصريحات الوزير الإماراتي محاولة يائسة لتحويل المساجد في أوروبا إلى مراكز أمنية تخدم أجندات إماراتية، محذرة دول الاتحاد الأوروبي من الاستجابة لطلب الوزير لتدريب الأئمة في دولة الإمارات حتى لا تتحول المساجد في أوروبا إلى مراكز أمنية للتجسس تعمل لصالح دولة الإمارات، مؤكدة أنّ الإمارات وأجهزتها الأمنية مسؤولة عن جرائم في الشرق الأوسط أدّت إلى تفجير العنف والإرهاب.

تورط الإمارات في محاربة المسلمين اعترف به أيضًا مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق ديفيد باترويس الذي أشار إلى أنّ أبو ظبي تعتبر الأكثر قدرة على قتل “الإسلاميين المتشددين”، منوهًا إلى دور الإماراتيين في دعم قوات الناتو في أفغانستان وباكستان وحتى مالي، مؤكدًا أن الناتو يوكل بعض مهام التصفية لجنود إماراتيين في شهادة تضاف إلى سجل العلمانية والتسامح وفق رؤية أولاد زايد.

إنشاء منظمات لأهداف خبيثة

وسيرًا على خطتها لنشر العلمانية، أعلنت السعودية بزعامة ولي العهد “محمد بن سلمان” قبل نحو عامين عن إنشاء، ما يعرف بـ”هيئة الترفيه”، وهي هيئة رسمية يشرف عليها الديوان الملكي، أنشأها “بن سلمان” خصيصًا، لنشر العلمانية في المملكة بصورة متدرجة.

عملت الهيئة منذ نشأتها على إدخال كل ما هو مثير للجدل في المملكة؛ حيث افتتحت أول “سينما” في المملكة، وبعدها أعلن “بن سلمان” عن تعاقده لبناء 50 سينما أخرى في مختلف نواحي المملكة.

كما ضغطت الهيئة للسماح بقيادة المرأة للسيارة وقد كان بالفعل، أيضًا قامت الهيئة بتنظيم عدد من الحفلات الغنائية أحياها مطربون عرب، وكذلك نظّمت عدد من الحفلات المختلطة، لدار الأوبرا المصرية.

وعلى المستوى الديني أنشأت الإمارات مؤسسات دينية، ظاهرها هو نشر الفكر الديني، لكن في باطنها تقوم تلك المنشآت بمحاربة هذا الفكر عن طريق إصدار فتاوى غريبة تكرِّس من هيمنة الحاكم وتسمح له بقمع المعارضين باسم “الدين”.

“مجلس حكماء المسلمين” هي تلك الهيئة التي سعت الإمارات أن تكون المظله الدينية لها، وهي الهيئة التي تدعم مواقف الإمارات الخارجية وتؤيدها بالفتاوى أو بالبيانات المختلفة، وحرصت على أن يضم هذا المجلس مجموعة من علماء الدين بالعالم العربي، وعلى رأس المجلس شيخ الأزهر أحمد الطيب.

ويرى مراقبون أنَّ الإمارات سعت من خلال تأسيس هذا المجلس إلى تقويض اتحاد علماء المسلمين الذي دعم الربيع العربي الذي يخالف مصالحها، الأمر الذي جعل أبوظبي تستعين بالشيخ عبدالله بن بيه (النائب السابق للشيخ يوسف للقرضاوي) والطيب مؤسس الاتحاد، في محاولة لخلق كيان بديل للاتحاد ومنافس له تتحكم به الإمارات”.

ونظرًا لأنّ هذا المجلس لا يتعدى أثره العالم العربي، فقد قررت الإمارات التوسع في النفوذ الديني لها في أوربا وأمريكيا والدول الغربية، فقررت البحث عن أشخاص ومنظمات دينية بدول الغرب لتدعمها وتغدق عليها بالمال في مقابل أن تكسب تأييدها، وهو ما تنوي فعله خلال مؤتمر الأقليات المسلمة المنتظر عقده في أبو ظبي الشهر القادم.

وعلى ما يبدو أن “الدكتور محمد البشاري” أمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي،  هو البوابة التي ستعبر من خلالها الإمارات لكسب مواقف داعمه لهم بين مسلمي أوروبا وأمريكا؛ حيث قررت الإغداق على الرجل بالعطايا والمال مقابل تطويع “منظمة المؤتمر الإسلامي الأوروبي” لصالح المواقف الإماراتية.