العدسة – معتز أشرف

لازالت الانتخابات البلدية في تونس، التي تُجرى في 6 مايو المقبل، تشغل بال المراقبين والمحللين، للبحث في التجربة الديمقراطية لثورة “بوعزيزي” التي تتحسس خطواتها الديمقراطية الوليدة في ضوء مؤامرات واسعة من أعداء الربيع العربي خاصة المؤامرات الإماراتية، وهو ما ذهب إليه تقرير تحليلي لمركز “كارينجي” للدراسات الذي وصف الانتخابات البلدية بأنها مخاطرة قد تهدد النظام التونسي أو فرصة لتطوير المد الديمقراطي للثورة، مشيرا إلى أن أي إقبال جيد في الانتخابات البلدية سيساهم في تعزيز مكانة النهضة قياساً إلى نداء تونس فيما تهدد نسبة الإقبال المنخفضة أو نسبة التصويت الاحتجاجي الكبيرة مستقبل حكومة الشاهد.

ديمقراطية وليدة!

في تقرير مركز “كارينجي” الذي وصل (العدسة)، وأعده جايك والاس، الخبير في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة “كارنيجي” للسلام الدولي، والذي تتركز أبحاثه على الشؤون الإسرائيلية-الفلسطينية، وتونس، ومكافحة الإرهاب، فإن الانتخابات البلدية فرصة ومخاطرة في آن واحد لديمقراطية تونس الوليدة: فإذا ما تكلّل هذا الاستحقاق بالنجاح، سيعزّز عملية انتقال تونس نحو الديمقراطية، ويوسّع نطاق الحكم الديمقراطي ليشمل المستوى المحلّي، لكن في حال كان الإقبال على الانتخابات خفيفًا أو كانت نسبة التصويت الاحتجاجي كبيرة، فسيُضعف ذلك شرعية النظام الحاكم، وفي كل الأحوال، ستمهّد نتائج هذه الانتخابات الطريق للانتخابات الرئاسية والتشريعية المهمة المُزمع إجراؤها في العام 2019.

وأشار التقرير إلى أن إدلاء التونسيين بأصواتهم في الانتخابات البلدية جاء بعد جولات عديدة وعسيرة، لتكون هذه ثالث انتخابات وطنية، وأول انتخابات بلدية تشهدها تونس – بعد أن أُرجِئت مرّات عدّة، منذ العام 2016 لأسباب سياسية وعملية – منذ اندلاع شرارة الانتفاضة في العام 2011، حيث أُجريت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في العام 2011، والانتخابات الرئاسية وانتخابات مجلس نواب الشعب الحالي في العام 2014.

لعبة اللامركزية!

ولفت التقرير الانتباه إلى أن هناك أكثر من 2000 قائمة انتخابية على مقاعد المجالس البلدية، وتمثّل مجموعة واسعة من الأحزاب السياسية والمرشّحين المستقلّين بفضل ما وضعه دستور العام 2014 من أسس اللامركزية على مسويَي السلطة وتوزيع الموارد، بما يصبّ في صالح السلطات المحلية، معتبرًا أن الانتخابات البلدية خطوة مهمة في هذا المسار، فيما أوضح أنه تاريخيًّا كانت السلطة السياسية في تونس شديدة المركزية، إذ أبقت البلاد على النموذج نفسه بعد استقلالها عن فرنسا في العام 1956، وتكرّست هذه المركزية على نحو أكبر في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي السلطوي، وأسهمت في حدوث تفاوت كبير في الموارد الاقتصادية بين الجهات (أو المناطق) الساحلية الأكثر تطورًا وبين الجهات الداخلية المهمّشة، ولمعالجة هذه المشاكل، لم ينصّ الدستور الجديد في حقبة ما بعد الانتفاضة فقط على الفصل بين فروع الحكومة التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل أيضًا على نقل بعض الصلاحيات والموارد إلى الجهات، فقد تناول الباب السابع السلطة المحلية ونصّ على أنه “ينبغي على السلطات المحلية أن تدير المصالح المحلية”، كما منح الدستور الجماعات المحلية “حرية التصرف في مواردها”، ونصّ على إحداث المجلس الأعلى للجماعات المحلية ليشكّل هيكلاً تمثيليًّا لمجالس الجماعات المحلية على الصعيد الوطني، ولينظر تحديدًا في “المسائل المتعلقة بالتنمية والتوازن بين الجهات”، ويأمل مناصرو اللامركزية أن يضغط المسؤولون المحليّون المُنتخَبون ديمقراطيًّا من أجل الحصول على موارد من شأنها التخفيف من وطأة المشاكل الاقتصادية التي تعانيها الجهات الداخلية.

وأشار التقرير في هذا الإطار إلى أن عملية تطبيق اللامركزية في تونس لم تُحسم إلى حدٍّ ما، بانتظار أن تقرّ الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب مشروع القانون الذي يحدّد صلاحيات الجماعات المحلية، لكنه أكد أن نداء تونس، وهو ثاني أكبر حزب في البرلمان، أكثر تحفّظًا حيال نقل صلاحيات فعلية إلى الجهات، نظرًا لانتشار قاعدته الشعبية في الجهات الساحلية وفي أوساط النخب التقليدية، أما حزب النهضة الإسلامي الذي يشكّل الكتلة البرلمانية الأولى في البرلمان، فيستمدّ دعمه إلى حدٍّ كبير من المناطق الداخلية، وأعرب عن تأييده لعملية إرساء اللامركزية لتشكّل ثقلًا موازنًا في مواجهة أركان السلطة التقليدية في تونس.

تداعيات البعد الاقتصادي!

الأزمة الاقتصادية التونسية، كانت بحسب التقرير التحليلي، أبرز معطيات التغذية في المشهد الانتخابي، حيث يلوح في الأفق، قُبيل توجّه التونسيين إلى صناديق الاقتراع، جدلٌ حول السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها حكومة رئيس الوزراء يوسف الشاهد، حيث أدّت عوامل مثل النمو الاقتصادي البطيء، وتراجع قيمة الدينار التونسي، فضلاً عن خفض التصنيف الائتماني للبلاد مؤخراً، إلى تقويض الدعم الشعبي للحكومة، وفي حين استطاعت هذه الأخيرة احتواء موجة الغضب الشعبي التي أسفرت عن اندلاع تظاهرات في أواخر العام 2017 ومطلع 2018، تواصلت الدعوات المطالبة بإجراء تغييرات في الحكومة، كما أنه في الآونة الأخيرة، طالب نورالدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، وهو الاتحاد العمالي الرئيسي في البلاد، بإدخال تغييرات على تشكيلة حكومة الشاهد، وهو ما يلقي بظلاله علي المشهد، خاصة في ظل انحصار المقاعد في المجالس المحلية بين حزبي “النهضة” و”نداء تونس” بوجه خاص، واللذان يأملان في ستخدام الانتخابات البلدية لتعزيز قوّتهما السياسية قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية، حيث يسعى حزب النهضة من جهته إلى تعزيز نفوذه الشعبي وترسيخ مكانته في النظام السياسي التونسي، وقد يساهم الإقبال الجيد في الانتخابات البلدية في تعزيز مكانة “النهضة” قياسًا إلى “نداء تونس”.

وأوضح أنه مع ذلك، ونظرًا إلى الامتعاض الشعبي حيال الوضع الاقتصادي، من الممكن أن يلجأ التونسيون إلى التعبير عن استيائهم من الوضع القائم، فقد لا يلقون اللوم على الحكومة فحسب، بل أيضًا على أكبر حزبين سياسيين في البلاد، اللذين عملا معًا بشكل وثيق على معظم القضايا خلال السنوات الثلاث الماضية، كما يمكن أن ينعكس سخطهم هذا من هيكلية الحكم، سواء في نسبة إقبال منخفضة أو في تصويت احتجاجي كبير لمرشّحين مستقلين أو لأحزاب سياسية أصغر، وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى استطلاع أجراه مؤخرًا المعهد الجمهوري الدولي، جاء فيه أن العديد من الناخبين لم يقرّروا بعد إن كانوا سيدلون بأصواتهم، وأن نسبة الإقبال قد تكون متدنية موضحًا أن نسبة الإقبال المنخفضة أو نسبة التصويت الاحتجاجي الكبيرة قد تلقي بظلالها على مستقبل حكومة الشاهد.

اختبار جديد

وخلص التقرير إلى أن هذه الانتخابات مواقف التونسيين حيال مفهوم اللامركزية، ولاسيما أن مصير اللامركزية يتوقّف إلى حدّ كبير على نسبة الإقبال التي ستُسجَّل، مشيرًا إلى أنه في حال تكلّلت هذه الانتخابات بالنجاح، قد تشكّل منعطفًا يتيح للبلاد أخيرًا التعامل بشكلٍ جدّي مع انعدام التوازن التاريخي بين الساحل والداخل، فالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المزمنة في الداخل التونسي هي الخطر الأكبر على آفاق التقدّم المتواصل لعملية الانتقال الديمقراطي في البلاد، وهو ما يؤكده بحسب التقرير استطلاع صادر عن المعهد الجمهوري الدولي، أن الغالبية الساحقة من التونسيين تصف الوضع الاقتصادي الراهن بأنه “سيئ للغاية” (68 %) أو “سيئ إلى حدٍّ ما” (21 %).

ويرى التقرير أنه في حين أن الانتخابات البلدية وحدها لن تحلّ هذه المشاكل، إلا أنها قد تطلق عملية تعزيز الجهات والمناطق، وتخفّف الشعور بالإقصاء الذي يعانيه العديد من التونسيين في الداخل مؤكدًا أنه ابتداءً من الشهر المقبل، سيقرّر الشعب التونسي في صناديق الاقتراع ما إذا ستشكّل هذه الانتخابات بداية مرحلة جديدة للبلاد أو أنها ستكون مجرّد استمرار للماضي.