العدسة: محمد العربي
بشكل مفاجئ أعلن وزير البترول المصري طارق الملا أن بلاده سوف تكتفي ذاتيا من إنتاج الغاز الطبيعي ، وأن الشحنة التي استوردتها الوزارة قبل أسبوع من إصدار القرار، كانت الأخيرة لتدخل مصر مرحلة الاكتفاء الذاتي ثم التصدير.
وقد برر الوزير الخطوة بأنها نتيجة الاكتشافات الحديثة للغاز التي شهدتها مصر خلال الأشهر الماضية، بما أوصل الإنتاج اليومي للغاز في مصر إلى 6.6 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي حاجتها، وربما تقوم بالتصدير.
ورغم حالة التهليل التي صاحبت قرار الوزير بأن مصر أخيرا استطاعت أن تكتفي ذاتيا في منتج حيوي مثل الغاز، إلا أن القراءة الهادئة لهذا الإعلان تثير تساؤلات لم تقدم لها الحكومة حتي الأن إجابات سواء مقنعة أو غير مقنعة، وكأن التساؤلات ليس لها محل من اهتمام الحكومة.
وتمثل قضية استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل أبرز هذه التساؤلات، فهل سينطبق قرار وقف استيراد الغاز علي الاتفاقية التي بدأت مراحل تنفيذها قبل ايام بإعلان ثلاثة شركات مصرية وإسرائيلية وأمريكية الاستحواذ علي 39% من شركة غاز المتوسط التي ستقوم بتوريد الغاز الإسرائيلي لمصر.
وكيف لمصر أن تحقق الاكتفاء الذاتي وهي لا تملك سوي نسبة لا تتجاوز 50% من نهائي الانتاج لحقول الغاز التي يمتلك النسبة الأخري فيها شركات التنقيب الأجنبية.
أما التساؤل الأهم فكان متعلقا بتوقيت الإعلان وكيفيته، وهل له ارتباط بزيارة رئيس الإنقلاب للولايات المتحدة والتي ألتقي فيها برئيس الوزراء الإسرائيلي علي هامش اعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
حقائق هامة
تشير تصريحات سابقة لرئيس الإنقلاب عبد الفتاح السيسي ولوزير البترول طارق الملا أكدوا فيها أن مصر سوف تعلن الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي بداية عام 2019، بعد أن يدخل حقل ظهر الذي تعول عليه الحكومة كثيرا في إحداث طفرة إنتاجية، الخدمة الفعلية منتصف ديسمبر 2018، وهو الفترة التي كانت تعتبرها الحكومة كافية لقياس إنتاج الحقل الذي يعد الأهم بين الحقول الأخري.
ويري المحللون أن الإعلان المفاجئ لوزير البترول عن الاكتفاء الذاتي من الغاز بدءا من أول أكتوبر الجاري، يؤكد أن هناك ما يخفي إعلانه عن الحقيقة التي تقف وراء التعجيل بالقرار، وطبقا للمحللين فإن القرار مرتبط في جزء منه بما أعلنته شركة “دولفينوس” المصرية قبل أيام بأنها سوف تستورد أول كمية من صفقة الغاز التي وقعتها مع الحكومة الإسرائيلية بداية 2019، وأنها اتخذت الإجراءات التي تدعم ذلك.
ويشير الخبراء أن هذه الإجراءات تمثلت بالفعل في استحواذ شركات ديليك للحفر الإسرائيلية ونوبل إنرجي الأمريكية وغاز الشرق المصرية، على 39% من أسهم شركة شرق المتوسط، التي تمتلك خط أنابيب الغاز بين مصر وإسرائيل تمهيدا لعمليات تصدير الغاز لمصر، وهو الإعلان الذي جاء قبل 24 ساعة من إعلان القرار المصري بالاكتفاء الذاتي، كما أنه جاء بعد 48 ساعة من لقاء السيسي بنتنياهو في واشنطن، وبالتالي فإن الإعلان عن الاكتفاء الذاتي من الغاز ربما لتهدئة الأجواء قبل التنفيذ الفعلي لعملية الاستيراد.
وإنطلاقا من ذلك وكما يري الخبراء فإن مصر عقدت اتفاق استيراد الغاز من إسرائيل، لأنها ستحتاج اليه في المستقبل ، سواء لأغراض سد احتياجات الاستهلاك المحلي أو لأغراض التصدير فيما بعد، ولذلك فإن شركة دولفينوس لم تعقد اتفاق استيراد الغاز من إسرائيل الا بعد ان ضمنت تصريف الكميات المستوردة سنويا في السوق المصري، خاصة وأن المؤشرات تؤكد أن نمو الانتاج المحلي يقل عن معدل نمو الاستهلاك، وان الطلب على الغاز سيزيد عن العرض بعد 3 سنوات من الآن.
تساؤلات مشروعة
وفي قراءة متخصصة للإعلان المصري قدم المستشار السابق بالبنك الدولي والخبير الاقتصادي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية إبراهيم نوار، رؤية شاملة عن الموضوع بمختلف جوانبه، حيث أكد في تحليل موسع أنه من حق الحكومة أن تفرح بالقرار لأنها سوف تستريح من عناء 1.5 مليار دولار سنويا قيمة استيراد الغاز، كما أن مصر أصبحت تنتج 6.6 مليار قدم مكعب يوميا من الغاز وهو ما يعادل الحاجات الاستهلاكية لأغراض توليد الكهرباء، وتشغيل المصانع التي تعمل بالغاز، وتوفير احتياجات الاستهلاك المنزلي. وطالما أن مصر تنتج تماما بقدر ما تستهلك، فقد حققت الاكتفاء الذاتي.
ويضيف نوار أن هناك تضارب بين إعلان الإكتفاء الذاتي، وبين إعلان استيراد الغاز من اسرائيل بقيمة 1.5 مليار دولار سنويا على مدى 10 سنوات. وهذه القيمة لا تتضمن تكاليف ورسوم نقل الغاز من مصدره لمحطات الإستقبال في مصر، ورغم أن الحكومة قالت إن القطاع الخاص المصري هو الذي سوف يستورد ، وهو المسؤول عن سداد قيمة الواردات، إلا أن الحكومة تعلم أن عقود الغاز المضمونة لمدة زمنية طويلة لا يتم أبدا إبرامها إلا بعد أن يضمن الطرف المشتري سوقا لتصريف الغاز، وهو ما يعني أن البنوك الممولة لشركتي ديلك ونوبل انرجي، توقفت عن تمويلهما حتى عقدا اخيرا اتفاق التصدير مع دولفينوس المصرية.
أهداف سياسية
بينما رأي محللون آخرون أن سبب إعلان الإكتفاء يرجع في الأساس لأهداف سياسية، حيث يريد السيسي إشعار المواطن أنه يحقق معدلات نجاح فائقة، وأن خطته لتحويل مصر لمركز إقليمي للطاقة، أصبح حقيقة، وهي أمور تفيد السيسي في مشروع تعديل الدستور لإطالة مدة وفترات الرئاسة التي من المفترض وطبقا للدستور الحالي تنتهي في 2022.
ويثير هذا الفريق من المحليين تساؤلا أصبح أساسيا في أفواه المصريين وهو أسباب هذه الطفرة غير المسبوقة في الاكتشافات البترولية والاخري المتعلقة بالغاز، وأين كانت كل هذه الاكتشافات خلال حكم مبارك، وهل هي حقيقية أن انها ستكون في النهاية مثل جهاز الكفتة الذي كان من المفترض أن يعالج امراض الكبد طبقا لتصورات السيسي قبل فضح الموضوع.
ورغم أن وزير البترول تحدث كثيرا عن الاكتفاء الذاتي إلا أنه لم يقدم مدلولات ذلك، ولماذا هذه الطفرة وإن كان الرجل صريحا في الإعلان بأن حقل ظهر ليس وحده سبب الطفرة، وأن باقي الحقوق التي تم اكتشافها حققت مع ظهر هذا الاكتفاء.
وبالعودة لما كتبه الخبير الاقتصادي الدولي إبراهيم نوار فإن الشركات الدولية العملاقة في قطاع النفط والغاز من أهم مكونات اقتصاد القطاع الخاص الأجنبي العامل بمصر، بنسبة تتراوح بين 5% الى 7% من إجمالي الناتج المحلي وتمثل من 60 إلى 75 % من اجمالي الاستثمار الاجنبي المباشر بمصر، وبالتالي فإنه عند الحديث عن الإقتصاد المصري، فان الحديث لا يقتصر على اقتصاد المصريين، بل انه يتضمن ايضا استثمارات وتجارة واعمال غير المصريين.
ويوضح الخبير الدولي أن مصر حققت اكتفاء ذاتيا (مؤقتا) كدولة منشأ تشارك في ثرواتها الطبيعية الشركات الدولية. ولكنها لم تحقق اكتفاءا ذاتيا كاقتصاد قومي (باستبعاد نصيب الشركات الأجنبية)، وهو ما يفسره خصم نصيب الشركات الأجنبية من الإنتاج الكلي الذي يبلغ حاليا 6.6 مليار قدم مكعب يوميا، عن نصيب الحكومة المصرية ممثلة في الشركة القابضة للغاز، حيث يبلغ نصيب الشركات الأجنبية من انتاج الحقول 40% بالإضافة لما يتراوح بين 27% الى 30% من الإنتاج. اما نصيب مصر بعد استقطاع حصة الشركات الأجنبية فهو يبلغ حوالي 30% – 33%. وبعد تغطية تكاليف الانتاج تماما فان نصيب مصر في معظم الاتفاقيات يرتفع الى حوالي 50%، وقد يزيد عن تلك النسبة في الحقول البرية ذات الانتاج الغزير والتكلفة المنخفضة.
ويوضح نوار أن القِسمة إذن بنسبة 50% إلي50%، وهو ما يعني ان كمية الانتاج حاليا وهي 6.6 مليار قدم مكعب يوميا، تتوزع ملكيتها بين الشركات بمقدار 3.3 مليار قدم مكعب، والحكومة المصرية 3.3 مليار قدم مكعب، وهو ما يعني ان الانتاج القومي من الغاز، وليس الانتاج المحلي، يعادل نصف كمية الاستهلاك المطلوبة. اما النصف الاخر فسوف تشتريه الحكومة من الشركات الاجنبية ولن تحصل عليه مجانا، وإن كانت مصر هي بلد المنشأ، إلا أن هذا المنشأ مملوك لها ولشركات أجنبية حصلت من الحكومة المصرية علي مميزات كبيرة مثل شراء نصيبها بالعملة الأجنبية، وبالطريق المباشر، وهو ما تعتمد عليه الحكومة بأن ما ستقوم بشراءه من هذه الشركات لن يدخل في حساب ميزان المدفوعات، وبالتالي لن يدخل في فاتورة الإستيراد، بينما هو في الواقع إستيراد ولكن من الداخل.
اضف تعليقا