تقرير لفرانسيسكو سيرانو- مجلة السياسة العالمية
لا زالت الجماهير الجزائرية مستمرة في التوافد إلى الشارع مؤكدين على المطالب التي لأجلها قامت الثورة الجزائرية، ورغم حرارة الجو المرتفعة، فإن أعداد المتظاهرين في تزايد ملحوظ، يخرجون إلى الشوارع متلحفين بعلم الجزائر، متكاتفين، رجال ونساء وأطفال يحملهم المتظاهرون أحياناً على أكتافهم، ووجوههم الصغيرة مطلية باللون الأخضر والأبيض والأحمر، في إشارة للعلم الجزائري.
لم يحمل المتظاهرون تعبيراً عن احتجاجاتهم سوى لافتات باللغتين العربية والفرنسية، مطالبين فيها بعبارات واضحة إقامة دولة مدنية بدلا من الدولة العسكرية، والإفراج عن كافة السجناء السياسيين.
المشهد لم يخل من التواجد الأمني، حيث انتشر القوات الأمنية في كافة شوارع الجزائر في مئات من سيارات الشرطة الزرقاء، بالإضافة إلى أفراد الأمن بزي مدني الذين اندسوا داخل الحشود المعارضة، في الوقت ذاته كانت الطائرات العسكرية تحلق فوق سماء المدينة لمتابعة المشهد.
على الرغم من الحظر الرسمي الذي فُرض على المظاهرات في الجزائر منذ 2001، يخرج الجزائريون في مظاهرات احتجاجية بصورة منتظمة منذ فبراير/شباط الماضي، مطالبين بتحويل البلاد إلى المسار الديموقراطي.
الاحتجاجات بدأت عند إعلان الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة نيته للترشح لولاية خامسة في فبراير/شباط 2019، وهو ما رفضه المجتمع الجزائري بالكلية، ومع الضغوط المتزايدة من الشارع الجزائري تراجع بوتفليقة عن قراره، وبحلول أبريل/نيسان 2019، استقال من منصبه كرئيس للجمهورية، إلا أن الاحتجاجات الشعبية لا زالت مستمرة، مطالبين بإصلاح النظام السياسي بأكمله.
يخرج الجزائريون بصورة منتظمة كل جمعة في حشود غفيرة ويتجمعون في الساحات الكبرى في العاصمة مؤكدين على المطالب التي قامت من أجلها الثورة، حيث يتجمعون في ساحة أول ماي، وساحة البريد المركزي، والتي لا زالت تحتفظ بملامحها الرئيسية منذ بناها الفرنسيون عام 1910 كمبنى مركزي للخدمات البريدية.
ومنذ شهر تقريباً، كانت التجمعات الشعبية ذات طابع خاص، حيث احتفل الجزائريون في الخامس من يوليو/تموز بالذكرى 57 لاستقلال الجزائر عن فرنسا، بعد انتهاء الاستعمار الوحشي الذي استمر 132 عاماً.
من المشاهد البارزة في المظاهرة الفارقة، يوم ذكرى الاستقلال، التفاف العديد من المتظاهرين حول المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، البالغة من العمر نحو 84 عاماً، وهي من الشخصيات ذات التاريخ الكبير في مقاومة الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، والتي أسفرت عن اعتقالها من قبل الفرنسيين في 1957، حيث تعرضت لتعذيب وحشي، وحكم عليها بالإعدام قبل تخفيف الحكم عنها وإطلاق سراحها في 1962.
تواجد بوحيرد في الساحة احتفالاً بذكرى الاستقلال مع المتظاهرين الذين يطالبون باستقلال من نوع آخر، وهو استقلال عن الديكتاتورية، اعتبره الجزائريون تواجد ذو صلة تاريخية بين الصراع الذي شاركت فيه بوحيرد ضد الفرنسيين وبين نضالهم الحالي ضد الأنظمة الاستبدادية بقيادة الجيش الجزائري المسيطر على مقاليد الأمور في البلاد منذ الاستقلال.
بوتفليقة – البالغ من العمر 82 عاماً- كان ضمن الحقبة الثورية التي ناضلت ضد الفرنسيين، وأصبح على رأس النظام الاستبدادي منذ 1999، لتبدأ ولايته التي لم تنتهي إلا قبل بضع أشهر، بعد غيابه تدريجياً عن الساحة، حيث لم يُر في أي مناسبة أو مكان عام منذ إصابته بجلطة دماغية في 2013، وكان يتم الاستعاضة عنه بعرض ملصق كبير لصورته في المناسبات الرسمية.
النظام الذي استمر لسنوات طوال هزت عرشه مظاهرات سلمية مستمرة منذ 6 أشهر، ففي أوائل أبريل/نيسان الماضي، دعا رئيس أركان الجيش الشعبي الجزائري اللواء أحمد قايد صالح، إلى عزل بوتفليقة بموجب المادة 102 من الدستور الجزائري، والتي تنص على أنه يمكن إقالة رئيس الدولة من منصبه إذا كانت ظروفه الصحية لا تلائم طبيعة عمله كرئيس، وعليه تم إنهاء حكم بوتفليقة الذي دام 20 عاماً، وبعد تقديم استقالة بوتفليقة، قام البرلمان الجزائري بتعيين عبد القادر بن صالح -رئيس مجلس الأمة وأحد رجال بوتفليقة- رئيساً مؤقتاً للبلاد.
بموجب القانون الجزائري، يحق لبن صالح تولي منصب الرئيس المؤقت لمدة 90 يومًا كحد أقصى لحين انتخاب رئيساً جديداً، وبالفعل في 04 يوليو/تموز الماضي كان من المقرر إجراء انتخابات رئاسية، إلا أنه في أوائل يونيو/حزيران المجلس الدستوري الجزائري قام بتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى بسبب عدم وجود مرشحين مناسبين، ليستمر بن صالح في منصبه كرئيس مؤقت رغم انتهاء فترة الرئاسة المؤقتة في 09 يوليو/تموز بحسب ما ينص عليه الدستور الجزائري، إلا ان اللواء أحمد قايد صالح دعم استمراره كرئيس مؤقت للدولة، في الوقت الذي يتحكم فيه قايد صالح في مقاليد الأمور، مستخدماً لغة غامضة تحمل تهديدات غير مباشرة باسم الوطنية.
شوارع الجزائر العاصمة، والعديد من المدن، تشهد تجمع آلاف من المتظاهرين أسبوعياً، مطالبين كلا الرجلين -قايد صالح وعبد القادر بن صالح، بالتنحي وتسليم السلطة لمدنيين، مع ترديد عبارات “اتركونا وشأننا”، “الجزائر ليست ثكنات عسكرية”.
الطبيعة الغامضة للسلطات
ثلاث ساعات ونصف تفصل الجزائر العاصمة عن ولاية بجاية الساحلية، حيث ينحدر معظم سكان قبائل البربر في البلاد. عند عبور نهر صومام، على طريق مقابر الشهداء في بلدة سيدي عيش، التي تضم رفات المقاتلين الذين سقطوا من حرب الاستقلال الجزائرية، ومثل بقية المقابر الجزائرية، يوجد عند مدخلها تمثال جندي جزائري يحمل مدفع رشاش.
حرب الاستقلال التي قامت في الفترة من 1954 وإلى 1962، وقُتل فيها أكثر من مليون جزائري، كانت حجر الأساس لإقامة دولة جزائرية ذات سيادة.
ذكرى الاستقلال يتم إحيائها كل عام، يحتفل بها الشعب الجزائري في كافة أرجاء البلاد، التي تحمل شوارعها أسماء أبطال تلك الحرب، وعلى الرغم من أن الانتصار في هذه الحرب كان لتحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، إلا أنه استخدم بصورة عكسية من قبل النظام العسكري الذي برر هيمنته على المجتمع الجزائري منذ أن حكم البلاد منذ ذلك التاريخ.
بانتهاء حرب الاستقلال لم تنته الحروب في الجزائر، بل بدأت حرب أخرى قادها النظام ضد الأحزاب الإسلامية في التسعينيات، بعد قيام الجيش بإلغاء الانتخابات عام 1992، والتي كاد أن يفوز بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر. إلغاء الانتخابات أعقبته حقبة سُميت بـ “العِقد الأسود”، حيث استهدفت السلطات أي شخص مشتبه في أنه يساعد الإسلامين، وفي المقابل استهدفت الجبهة أي شخص يشتبه أنه يساعد النظام. ظل المدنيون عالقون في الوسط، بين هذا الصراع المسلح الذي نتج عنه حرب أهلية راح ضحيتها 200 ألف قتيلاً، مع فقدان أثر أكثر من 8000 شخصاً، وعلى عكس الشهداء الذين دُفنوا في “سيدي عيش”، فإن الكثير من ضحايا صراع “العِقد الأسود” لازال مصيرهم مجهول، ودُفن بعضهم في مقابر جماعية اكتشفت في أواخر التسعينيات.
يعود الفضل في إنهاء هذه الحرب إلى حد كبير، الذي قاد مفاوضات مع قادة الجماعات الإسلامية لنزع السلاح عام 1999، ومن خلال ميثاق السلام والمصالحة الوطنية المعلن عنه عام 2005، كفل بوتفليقة توقف ملاحقة المسؤولين عن جرائم “العِقد الأسود”، من كلا الفريقين، القوات الأمنية وقادة الجماعات الإسلامية، حيث ضمنوا الإفلات من العقاب، وهي خطوة مكنت بوتفليقة الإفلات بصورة جزئية من تحمل مسؤولية العديد من الانتهاكات التي ارتكبها نظامه في هذه الحرب، وطوال فترة حكمه، حاول النظام أن يمحي ذكريات تلك الحرب من ذاكرة الشعب، لكن الجزائيين لم ينسوا.
ذكريات “العِقد الأسود”، والتي ظلت متأصلة في العقل الجمعي لجيل بأكمله، جعلت الجزائريين يترددون في النزول إلى الشارع لمعارضة النظام، حتى في الموجة الأولى لثورات الربيع العربي التي اجتاحت دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط عام 2011 لتغيير النظم السياسية.
العديد من الاحتجاجات اجتاحت الجزائر في السنوات الماضية، إلا أن النظام كان يتمكن من السيطرة عليها من خلال زيادة الرواتب وتحسين الانفاق الاجتماعي، كما كانت تقوم باعتقال المتظاهرين وتضييق الخناق على النشطاء ووسائل الإعلام المستقلة الناشطين وكبت أي حراك معارض.
ومع ذلك، توفر عاملان مهمان في الجزائر في السنين الأخيرة، مهدا لقيام الثورة الجزائرية الحالية، الأول أن العديد من الدعاة لهذه الثورة والمشاركين فيها من فئة طلاب الجامعات والشباب الصغير السن، ممن لم يعاصروا فترة “العِقد الأسود”، وهو ما قادهم إلى النزول للشوارع بتفاؤل وتيقظ على حد سواء، كما ساعدهم ذلك في إقناع جيل آبائهم بأن هذه المرة، يمكن أن تسير الأمور بشكل مختل يخدم أهدافهم.
العامل الثاني، هو انهيار أسعار النفط العالمية عام 2014، والذي ترك النظام الجزائري غير قادر على إخفاء السخط الشعبي من خلال الإنفاق الاجتماعي الفخم الذي تغذيه عائدات النفط والغاز.
مطلع شهر يوليو/تموز المنصرم، التقيت الأكاديمي “مراد أوتشيتشي”- أستاذ الاقتصاد بجامعة بجاية، في أحد المقاهي المطلة على ميناء بجاية، والذي أخبرني أنه كان في خوف مما كشفته الثورة الشعبية الحالية عن الجزائريين، حيث قال “لقد انتظروا ورأوا ما حدث في تونس وليبيا وسوريا وأدركوا ما يحتاجون إليه”، متابعاً “لقد اتبعوا قاعدة: ابق هادئاً في الشارع، واستمِر في مضايقة القادة العسكريين والسياسيين”.
وأضاف أوتشيتشي أن الاحتجاجات التي اعترت البلاد بعثت برسالة إلى النظام، خاصة وأنها منذ بدايتها لم يتصدر مشهدها أي من السياسيين والمسؤولين الحكوميين، وقال “يبدو أن الناس سجنوا النظام الحاكم، ذلك النظام الذي ظل يسجن الشعب منذ عام 1962″، “هذا هو ما يثير الإعجاب حول ما يحدث”.
تخضع الجزائر لنفس المجموعة الغامضة من أفراد الجيش وعناصر أمن الدولة والسياسيين المتصدرين المشهد منذ استقلالها، معللين ذلك بنضالهم ضد الاستعمار الفرنسي.
هذا الهيكل الغامض معروف لدى الجزائريين باسم القوى الكبرى، وعلى مدار عقود من الاقتتال الداخلي والتفاوض والانقلابات والانقلابات المضادة، حكموا البلاد وسيطروا على مواردها الهائلة من النفط والغاز، وفي المقابل لم يتعرضوا لمسائلات عن انتهاكاتهم إلا نادراً.
القوة الرئيسية في الجزائر تكمن في الرئاسة، التي تسيطر على الحكومة والبرلمان من خلال نظام مركزي، ومع ذلك، بقيت القوة الحقيقية في يد الجيش، الذي اختار كل رئيس حكم البلاد منذ عام 1962، رغم القشرة الشرعية التي غلف بها عملية الرئاسة من خلال الانتخابات التي يتم تنظيمها، ووفقاً لأوشيتشي فإن “الجيش يفوض الرئاسة في السلطة، ومع ذلك، فهو يتحكم في قرارات الرئاسة فيما يتعلق بالمجال السياسي، مع السماح لها بإدارة الاقتصاد والشؤون اليومية للبلاد”.
بطريقة ما، تغيرت ديناميكية هذه القوى في عهد بوتفليقة، وكان بوتفليقة قد شغل منصب وزير الخارجية في الفترة من 1963 إلى 1979، حتى تم تنحيته عن دائرة السلطة بسبب نزاعات الرئاسة، بعد وفاة الرئيس هواري بومدين عام 1978.
بعد عقدين من الزمان طلب منه النظام بشكل أساسي أن يعود، وقد قبل، أن يصبح رئيسًا من خلال انتخابات تخضع لسيطرة مُحكمة عام 1999.
منذ البداية، أراد بوتفليقة أن تكون سلطته الرئاسية أكثر ترابطاً، فعمل على توطيد سلطة الرئاسة وتقليل نفوذ الجيش والمخابرات، كما أجبر بعض الجنرالات، الذين قضوا فترة طويلة في الخدمة، على التقاعد، وعين شقيقه سعيد بوتفليقة مستشاراً خاصاً له.
عام 2015، أقال بوتفليقة الجنرال محمد مدين، المعروف أيضاً باسم “توفيق” ، والذي كان يترأس لفترة طويلة إدارة المخابرات الجزائرية، وكان له دور كبير في انتصارات بوتفليقة في عملية الانتخابات.
في العام التالي، قام بوتفليقة وعدد من رجاله الموثوقين بتفكيك كافة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية التابعة لها، وأنشأوا جهازاً استخباراتياً جديداً يتبع الرئيس مباشرة، وعلى نحو مواز، ساعد زمرة جديدة من رجال الأعمال بتجميع ثروات كبيرة من خلال عقود تجارية ترعاها الدولة، وسمح لهم بالمشاركة في نظام الحكم، وهي خطوات ساهمت في ازدهار الفساد وتفشيه بصورة ملحوظة، وقد علق أوتشيتشي على ذلك قائلاً “لقد خلق هؤلاء المليارديرات، الذين أصبحوا دائرته الانتخابية.”
تغلغل شعور اللامبالاة السياسية في السنوات الأخيرة لحكم بوتفليقة، فالأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني، إما التي سيطرت عليها الحكومة أو قامت بقمعها، تم تجويفها، وفي الواقع فإن أن الانتفاضات التي اعترت كافة أنحاء الشرق الأوسط عام 2011 لم تجبر النظام على تقديم أي تنازلات سياسية كبرى، بل ربما أعطته شعورا زائفا بالأمان.
من ناحية أخرى، لم تكن الأمور في الداخل كما هي ظاهرة، بل كانت التوترات مشتعلة، حيث اندلعت احتجاجات صغيرة في جميع أنحاء البلاد، لم يكن هدفها تغيرات سياسية جذرية، إنما تركزت في الغالب على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، مثل الحركات الاحتجاجية التي قامت في منطقة ورقلة المنتجة للنفط، حيث تبلغ البطالة فيها حوالي 50٪، قال عنها أوتشيتشي “لقد رأينا هذه الاحتجاجات في كل مكان، حيث أغلق الناس الطرق لعدة أيام”، “لقد ترك النظام هذا يحدث لأنه لم يؤثر عليه”، موضحاً “أنت تغلق طريقًا [لبضعة أيام وتعاقب المواطنين الآخرين، هذا لا يضر النظام[“.
اقتصاد غير مستقر
كثيراً ما يصف الجزائريون أنفسهم بأنهم فقراء يعيشون في بلد غني، حيث يُقدر الاقتصاد غير الرسمي بحوالي ثلثي جميع الأنشطة الاقتصادية. وعلى الرغم من أن معدل البطالة رسمياً يبلغ 12 %، فإن 30٪ منهم تتراوح أعمارهم بين 16 و 24 عامًا.
وبعيدًا عن كون هذه الفئة اقتصادًا منتجًا، تعتمد الجزائر بشكل كبير على مبيعات النفط والغاز، والتي تمثل 60 % من الميزانية وعائدات الصادرات، ولأن صناعة الطاقة مملوكة للدولة، فإن النظام هو المتحكم الوحيد في توزيع العائدات التي يسيطر عليها، حيث يوزعها بشكل غير متساو.
منذ عام 2014، شهدت الجزائر انهياراً ملحوظاً في صناعة النفط، وهو ما أثر سلباً على اقتصادها، حيث كان لدى الجزائر 179 مليار دولار في احتياطات النقد الأجنبي في هذا العام، وبحلول مارس/آذار 2019 ، تضاءل إلى أقل من 80 مليار دولار، فبدلاً من توجيه الثروة النفطية لتنويع وتطوير قطاعات أخرى من الاقتصاد، اعتمدت الحكومة على ما لديها من احتياطي نقدي، حيث استخدمت بعض من تلك الأموال في أعمال تتعلق بالبنية التحتية، وفي مشاريع غير منتجة، كبناء مسجد في الجزائر العاصمة بمليارات الدولارات، تم الانتهاء من أعمال بنائه مؤخراً.
هذا فضلاً عن المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الشعب، حيث يواجه جزء كبير من السكان مشكلة في جعل الرواتب تفي احتياجاتهم لنهاية الشهر.
إن السماح لبوتفليقة بالترشح لولاية خامسة كان ليوسع المسافة بين الطبقة الحاكمة الجزائرية وبقية الشعب، كما إن نية بوتفليقة للترشح أبرزت عدم وجود شخصيات أخرى صالحة لتولي المنصب، أو بالأحرى عدم وجود إجماع من القوى الحاكمة والنخب وحلفاء النظام على شخص ما يمكن الاستعاضة به عن بوتفليقة.
بعد المناورة التي تم بها إزاحة بوتفليقة عن السلطة في أبريل/نيسان، حاول قايد صالح أن يأخذ صف الشعب الجزائري وينشأ تقارب بين الجيش وبين مطالب الشارع، وهي محاولة مثيرة للسخرية، حيث يعلم الجميع التاريخ الذي يربط قايد صالح بالنظام السابق.
في تلك المحاولة، شن النظام فجأة حملة ضد الفساد، وزج بالعديد من الوزراء وحلفاء بوتفليقة المقربين وحتى أخيه ومستشاره، سعيد بوتفليقة، في السجن.
وفي منتصف يونيو/حزيران، قُبض على رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى بناءً على أوامر من المحكمة العليا الجزائرية بتهمة الفساد.
يُذكر أنه وأثناء حديثه إلى البرلمان في بداية الاحتجاجات، سخر أويحيي من المتظاهرين الذين قدموا الورود إلى ضباط الشرطة في شوارع الجزائر، قائلاً: “في سوريا، بدأت أيضًا بالورود”.
عملية الاعتقالات تلك قوبلت بترحيب من الشعب الجزائري، ومع ذلك فهو اعتبر أن تلك الحملة ما هي إلا محاولة من النظام لإنقاذ ما تبقى منه عن طريق التضحية ببعضه.
في ولاية بجاية، مثل معظم الولايات الأخرى، خرجت الاحتجاجات الطلابية كل يوم ثلاثاء، وفي أحد الأيام، في أوائل شهر يوليو/تموز خرجت مسيرة طلابية من جامعة بجاية وسارت حوالي 3 كم حتى وصلت إلى قصر العدل في المدينة، كنت ضمن المشاركين فيها، ولكن هذه المرة لم تكن الأعداد غفيرة حيث بلغ عدد المتظاهرين نحو 200 شخصاً فقط، بسبب انشغال الطلاب بالامتحانات.
المجموعة كانت تردد “الشرطة تنتشر في كل مكان، والعدالة تختفي من كل مكان”.
كان لديهم هدف واضح: المطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين الذين احتجزتهم قوات الأمن منذ بدء الاحتجاجات، أحدهم هو لخضر بورقعة، وهو من قدامى المناضلين في حرب الاستقلال الذي تم اعتقاله في 29 يونيو/حزيران بعد انتقاده قايد صالح، وقد رأى العديد من الجزائريين اعتقاله بمثابة تحذير – بأنه لا يوجد منافس للحكومة، بغض النظر عن وضعه أو مكانته.
كيف يتعامل النظام؟
النتيجة الأكثر إثارة للدهشة للانتفاضة الشعبية الجزائرية حتى الآن هي أنها تركت -على ما يبدو- النظام في حالة شلل.
على مدار سنوات، كانت القوات الأمنية تكبت أي حراك معارض، وعندما خرج الكثير من الشباب الجزائري إلى الشوارع في أكتوبر/تشرين الأول 1988 للاحتجاج على ازدياد البطالة وارتفاع الأسعار، تعامل الجيش مع هذه التظاهرات بالقوة المميتة، ما أسفر عن مقتل 500 شخص على الأقل.
بعد أكتوبر/تشرين الأول الأسود، كما سُمي فيما بعد، أُجبرت الحكومة على إجراء انتخابات متعددة الأحزاب، والتي كادت أن تفوز بها جبهة الإنقاذ الإسلامية عام 1992 قبل أن تلغيها الحكومة، لتبدأ حقبة العقد الأسود.
وفي أعقاب مقتل طالب داخل محطة الدرك في منطقة القبايل عام 2001، اندلعت احتجاجات استمرت لأشهر في جميع أنحاء الجزائر، وقوبلت كذلك بقمع الدولة الذي أودى بحياة 126 شخصاً.
وفي عام 2011، تمكنت أعداد هائلة من رجال الشرطة من السيطرة على الحشود الصغيرة التي خرجت للتظاهر، تيمناً بثورات الربيع العربي آنذاك.
أما الآن، وفي مواجهة جماهير المتظاهرين السلميين على مستوى البلاد، والذين يخرجون بصورة أسبوعية، فإن النظام الجزائري يجد نفسه عاجزاً عن استخدام ذات الأساليب القمعية والوحشية التي لطالما تعامل بها مع الموجات الاحتجاجية السابقة.
رغم أن قايد صالح يعبر عن دعم الجيش لمطالب الشارع، أو هكذا يدّعي، فإن النظام لا يزال يتعامل بنهج قمعي لا يختلف كثيراً عن نهج النظام السابق حتى وان كانت أقل وطأة، حيث تغلق قوات الأمن الطرق المؤدية إلى الجزائر العاصمة كل يوم جمعة وتوقف القطارات المتجهة للعاصمة.
في الجزائر العاصمة في أواخر يونيو/حزيران، شاهدت العديد من الأشخاص يتم اقتيادهم على أيدي قوات الأمن بسبب قيامهم تصوير المظاهرات على هواتفهم، كما قامت الشرطة بالاعتداء على المتظاهرين، بإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، ما أسفر عن إصابات في العين.
كما أظهرت مقاطع الفيديو التي تم نشرها على الإنترنت بعض ضباط الشرطة وهم يرتدون معدات مكافحة الشغب وهم يضربون المتظاهرين العزل بالهراوات خلال مظاهرات 5 يوليو/تموز.
الخطة التي يلعب عليها الجيش الآن، بقيادة قايد صالح هو التعويل على وجود “أياد خارجية” تحاول العبث بالداخل الجزائري لزعزعة استقراره، كي يجعل الشعب يلتف حوله، كما يعول على استقطاب سكان بعض المناطق والقرى على حساب آخرين، وهي فحوى خطابات قايد صالح.
في أيام الثلاثاء، يخرج الطلاب لإبداء معارضتهم لخطابات قايد صالح، ليتبعها الخروج الأكبر من كافة فصائل الشعب كل جمعة.
غالبًا ما تحاول خطابات قايد صالح زرع الخلاف بين فصائل المعارضة، نظام “فرق تسد”، في 19 يونيو/حزيران على سبيل المثال، حذر قايد صالح من بلدة بشار القريبة من الحدود مع المغرب، حيث حذر المتظاهرين من “الأقليات”، كما وصفهم، التي يُفترض أنهم تسللوا إلى مسيراتهم “بأعلام تحمل شعارات أخرى غير شعارنا الوطني”، وهي رسالة واضحة تهدد أي شخص يلوح بأي شيء سوى العلم الوطني الجزائري وتعرضه للاعتقال، خاصة حمل العلم الأزرق والأخضر والأصفر الذي يرمز إلى السكان الأمازيغ أو البربر.
إن إذكاء العداوات الإقليمية بين السكان البربر وذوي الأصول العربية كان دائماً جزءًا من تكتيكات النظام للتفريق حركات المعارضة.
لكن بعد يومين من تهديد قايد صالح في خطابه المُشار إليه، بدا الجزائريون أكثر اتحادًا من أي وقت مضى، وخرجوا في مظاهرات سوياً رافعين الشعارات الوطنية المختلفة، ومع ذلك، قُبض على عشرات الأشخاص لرفعهم أعلام أمازيغية في مظاهراتهم.
تأثير الصمود
ربما نجحت أساليب التفرقة بين المعارضين للنظام قبل 20 عاماً، وهو ذات النهج الذي اتبعه الاستعمار الفرنسي في التعامل مع الجزائريين، لكن المظاهرات الحالية جمعت الأعراق والفئات الثقافية المختلفة في الجزائر
لا يزال النظام الجزائري عالقاً في هذه العقلية، إنه يخاطب السكان بالطريقة التي يمكنه بها استقطاب فئة على حساب أخرى، ويتعامل مع البلاد باعتبارها مستعمرة.
لكن في حين ظل النظام السياسي راكداً، يعيد تدوير نفسه من خلال الرؤساء والجنرالات الكبار في السن، فقد مر المجتمع الجزائري بتغييرات كبيرة، انعكست على ردة فعله تجاه أسلوب الذي يتعامل به النظام معهم.
العنصر النسوي لطالما كان له دوراً كبيراً في الاحتجاجات الجزائرية والنضال ضد الاستعمار والاستبداد على مر التاريخ.
في الاحتجاجات الأخيرة، في الجزائر العاصمة، شاركت النساء من جميع الأعمار بأعداد هائلة، كن يتظاهرن جنباً إلى جنب مع الرجال، كما كن يصطحبن أطفالهن معهن، ولعل تواجد النساء والأطفال في المظاهرات الأسبوعية هو السبب الذي منع النظام حتى الآن من التعامل بعنف والتدخل بالقوة المميتة لفض تلك التظاهرات، كما يعتقد البعض.
خلال حرب الاستقلال التي قادها الشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي، لعبت النساء دوراً هاماً، ولكن بمجرد طرد الفرنسيين، تم إعادة توجيههم في الغالب إلى الأدوار المنزلية في ظل الثقافة البطريركية الجزائرية.
واليوم، على الرغم من أن النساء يشكلن أكثر من 60% من جميع طلاب الجامعة، إلا أنهم يمثلون 17% من القوى العاملة، وبحسب تصريحات فاطمة أوصديق، أستاذ علم الاجتماع في جامعة مصر “لقد غير التعليم النساء، سواء كن يعملن أم لا، لأنه سمح لهن بمغادرة المنزل ]الخاص[ والدخول إلى الأماكن العامة”، مضيفة “لا يمكننا التحدث عن جزائر حرة وديمقراطية دون التحدث عن دور المرأة”.
العديد من النساء الجزائريات اللائي يشكلن جزءًا من هذه الانتفاضة لا تتركز مطالبهن على الحريات السياسية وحسب، بل يطالبن بمكانة بارزة في المجتمع.
ما هو المصير وفق المعطيات الحالية؟
ظروف تفكيك النظام الحاكم في الجزائر هي الأفضل من أي وقت مضى، حيث يفتقر النظام إلى الموارد المالية التي استخدمها في السابق لتخفيف حدة الاستياء الشعبي، كما أن أجهزة الأمن الداخلي، التي اختارها بوتفليقة في السنوات الأخيرة لحكمه، ليست فعالة كما كانت في السابق، والأهم من ذلك كله، أن مطالب التغيير هذه المرة سلمية ومرنة ويلتف حولها فئات الشعب المختلفة، في مفاجأة للجزائريين أنفسهم.
وعلى الرغم من الالتفاف الكبير على تلك الاحتجاجات على مستوى البلاد، فإن الاحتجاجات الأسبوعية، التي دخلت الآن شهرها الساد ، أصبحت بمثابة اضطرابات متكررة، وهو أمر يمكن للنظام التنبؤ به، ففي المقاهي والشوارع ، يناقش الجزائريون ما يجب القيام به بعد ذلك.
من ناحية أخرى، أوضح قايد صالح بصورة أو بأخرى من خلال خطاباته المختلفة، أن قادة الجيش ليسوا مستعدين للتخلي عن السلطة، وفي المقابل يجد الجيش نفسه تحت ضغوطات من أجل إجراء انتخابات رئاسية سريعة، مدعيا أنه لا يمكن تفعيل الإصلاحات إلا بعد تولي رئيس جديد السلطة، وهي رواية يعرفها الجزائريون جيداً، ويدركون تماماً إن انتخاب رئيس جديد في انتخابات يشرف عليها نظام اعتاد على تزوير الانتخابات لن يؤدي إلا إلى إحياء الشاشة المدنية للحكم التي مكنت الجيش من الحكم في الخفاء لفترة طويلة.
في حواري مع الناشط جمال زناتي، قال لي “على مدار السنوات الماضية، كان الحكام العسكريين في الجزائر يفضلون النظام الرئاسي، لأنه النظام الذي سمح لهم بالسيطرة على البلاد من خلال شخص واحد”، مضيفاً “هذا هو السبب وراء دفع القوة إلى الانتخابات، وبالتالي الحفاظ على النظام”.
المتظاهرون الجزائريون دعوا مرارًا وتكرارًا إلى فترة انتقالية وإنشاء جمعية تأسيسية يمكنها إعادة كتابة الدستور الجزائري قبل الانتخابات الرئاسية الجديدة، وهو ما تجاهله النظام الحالي وحاول بدلاً من ذلك إجراء مناقشات للتوسط في حوار بين الحكومة المؤقتة والحركات المعارضة.
النشطاء والمعارضين رفضوا هذه النقاشات وهذه العروض، قائلين إنه لا يمكن إجراء مفاوضات حقيقية قبل إطلاق سراح السجناء السياسيين وتوقف القمع.
في 30 يوليو/تموز، قال قايد صالح إن الحكومة لن تقبل أي شروط مسبقة لإجراء المحادثات بين الطرفين، حيث أعلن في خطاب متلفز أن هناك حاجة ماسة لإجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن قائلاً “لم يعد هناك وقت نضيعه”، وفي 02 أغسطس/آب، أي في الأسبوع الرابع والعشرين على التوالي، ورداً على قايد صالح دعوا إلى عصيان مدني.
استغرق الأمر بضعة أشهر فقط كي يتمكن الجزائريون من إسقاط حاكم دامت فترة حكمه 20 عاماً، ومع ذلك فإن طرد الجيش من السلطة هو مهمة صعبة للغاية، خاصة وأن الجنرالات ليس لديهم حافزاً كبيراً للتنحي وترك السلطة، لأن الجزائر الديمقراطية “الجديدة” ذات المؤسسات الوظيفية ستحاول بالتأكيد تحميلهم المسؤولية عن جرائمهم، وهو ما يعرفه هؤلاء الجنرالات جيداً، فمقاومتهم للتغيير هي معركة من أجل البقاء.
استمرار الجمود السياسي قد يزيد من فرص العنف، لكن في الوقت الحالي، يبدو من غير المحتمل أن يكون النظام قادرًا على استخدام الجيش لقمع المتظاهرين كما كان في الماضي.
وأشار مراد أوتشيتشي إلى أن كبار اللاعبين يختلفون عن بقية الرتب، وأضاف “الجيش الجزائري هو جيش شعبي، يتكون من أناس عاديين، حتى أن الكثير من ضباط الجيش لا يستطيعون استئجار شقة”، وتابع “إذا أراد الجنرالات استخدام الجيش ضد الشعب، فسوف يرفضون”.
وأضاف “إذا كان لا يزال هناك ضباط وطنيون في الجيش، دورهم هو إجبار قايد صالح على التنحي والسماح للبلاد بالدخول في فترة انتقالية”، “يجب أن يتحمل هؤلاء الأشخاص مسؤولية تاريخية، لأن المشكلة تكمن في مؤسستهم”.
اضف تعليقا