تم تسليط الضوء عقود من التستر على التدخلات العسكرية البريطانية، بعد الكشف الأخير عن أن وزارة الدفاع البريطانية سعت إلى إخفاء جرائم الحرب البريطانية في العراق وأفغانستان.

وتسعى المملكة المتحدة مرة أخرى إلى حماية سمعتها في السياسة الخارجية وإخفاء انتهاكاتها، حتى لو تم تجاهل العدالة وتأثيرها على حياة المدنيين.

انضمت بريطانيا إلى الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد “طالبان” في أفغانستان في عام 2001 ، وحملتها للإطاحة بـ”صدام حسين” في العراق عام 2003، وتم شن كلا الحربين باسم مكافحة الإرهاب وجلب الحرية للمدنيين في البلدين، ومع ذلك، تشير المعلومات الجديدة إلى أن حقوق الإنسان تم انتهاكها بشكل خطير من قبل المكلفين بحمايتها.

 

إخفاء الانتهاكات

أجرى مراسلون لـ”بي بي سي” و”صنداي تايمز” مقابلات مع بعض الذين وجدوا أن الجنود البريطانيين كانوا مذنبين بارتكاب جرائم حرب في العراق وأفغانستان، وأن وزارة الدفاع قد تسترت عليها.

وتم الإفصاح حول هذه الجرائم بواسطة محققين سابقين تم تكليفهم بالتحقيق في جرائم حرب مزعومة ارتكبت أثناء احتلال العراق، وإبان غزو بريطانيا لأفغانستان، على الرغم من أن الحكومة البريطانية أغلقت هذه التحقيقات في عام 2017، لكن النتائج المسرية كشفت عن القتل المتعمد والانتهاكات بحق المدنيين.

في إحدى الحالات الموثقة، وصف شهود أفغان كيف أطلقت القوات البريطانية الخاصة النار على 3 مراهقين وشاب في العشرين من عمره في منزل عائلي في قرية لوي باغ.

وقال “سلطان محمد” الشقيق الأكبر لاثنين من الضحايا، والذي كان أول من وصل إلى المكان بعد مغادرة الجنود البريطانيين: “عندما دخلت الغرفة، رأيت العظام والأسنان في كل مكان. كان الضحايا الأربعة يرقدون هناك والدم في كل مكان”، وقالت والدته: “كانت الكؤوس مليئة بالدماء. لقد أطلقوا النار عليهم في الرأس”.

صُممت هذه الغارات لاستهداف “طالبان”، لكن بسبب سياسات بريطانيا الغامضة لمكافحة الإرهاب، كان المدنيون هم الضحايا في الغالب.

وعلى الرغم من التحقيق، قالت وزارة الدفاع إنها لن تحقق في التهم، ولن يتم إجراء أية ملاحقات قضائية ضد الجنود لحماية سمعة الجيش البريطاني.

وقال أحد القائمين على التحقيق إن ضحايا جرائم الحرب البريطانية “تم خذلانهم بشدة”.

ومع ذلك، تبرز العديد من التقارير السابقة انتهاكات بريطانيا ضد المدنيين في تدخلاتها الأجنبية، والواقع أن هذا الكشف الأخير بالكاد يخدش سطح أعمال القوات البريطانية الخبيثة ضد المدنيين.

 

تاريخ من الجرائم

يشير تقرير المحكمة الجنائية الدولية لعام 2017 إلى وجود سبب للاعتقاد بأن بريطانيا كانت مسؤولة عن جرائم حرب في العراق.

وقالت “فاتو بنسودة”، كبير ممثلي الادعاء بالمحكمة الجنائية الدولية: “توصل مكتب المدعي العام إلى أن هناك أساسًا معقولًا للاعتقاد بأن أفراد القوات المسلحة البريطانية ارتكبوا جرائم حرب ضمن اختصاص المحكمة ضد أشخاص رهن الاحتجاز لديهم”.

في النهاية، تبين أن وزارة الدفاع قد انتهكت اتفاقيات جنيف وقانون حقوق الإنسان لعام 1998 في احتجازها للمدنيين في السجون خلال غزو عام 2003، في قضية رُفعت لدى المحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام.

وخلص القاضي البريطاني “جورج ليغات” إلى أن القوات البريطانية أساءت معاملة المدنيين العراقيين، وشمل ذلك تغطية رؤوسهم والتناوب على الركض على ظهورهم، وفقًا لما قاله 4 معتقلين.

وقال “ليغات”: “لم يكن أي من الضحايا مشاركا في نشاط إرهابي أو يشكل أي تهديد لأمن العراق”.

على الرغم من أن وزراء المملكة المتحدة قد عرضوا هذه الأعمال على أنها حوادث منعزلة، لكن المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان أكدت أن مئات العراقيين المحتجزين إبان الحرب تحدثوا عن الانتهاكات على أيدي القوات البريطانية شملت الضرب العنيف، والحرمان من النوم والطعام والماء، والإهانات الجنسية والدينية، وفي بعض الحالات الاعتداء الجنسي.

لكن على الرغم من هذه الاتهامات، لم تكن هناك مساءلة حقيقية أو إجراءات لتوفير العدالة للضحايا.

وقد ذكر موقع “ميدل إيست آي” أن قواعد الاشتباك للجيش البريطاني في العراق وأفغانستان سمحت فعليًا بإطلاق النار على المدنيين، حيث قال جنديان سابقان يخدمان في جنوب العراق إنهما حصلا على إذن بإطلاق النار على أي شخص يحمل هاتفًا محمولًا أو يتصرف بأي شكل مريب، وبينما كان استهداف نشاط الميليشيات المتخفية هو المبرر لذلك، تم استخدام هذه الصلاحيات بشكل تعسفي للغاية.

وقال أحد أفراد البحرية الملكية السابقين إن أحد ضباطه اعترف لرجاله بأنه كان مسؤولاً عن إطلاق النار على صبي أفغاني يبلغ من العمر حوالي 8 سنوات، وفقًا لتقرير “ميدل إيست آي”.

ورغم كل هذه الحوادث، تواصل بريطانيا ادعاء انتهاجها لسياسة خارجية تقدمية منذ ألقى وزير الخارجية البريطاني السابق “روبن كوك” في عام 1997 خطابه الشهير حول السياسة الخارجية الأخلاقية ، ودعا إلى “احترام الدول الأخرى” و “حفظ السلام في العالم”.

وردد “كوك” سرديات لندن المستمرة حول سياستها الأخلاقية قائلًا: “يجب أن يكون لسياستنا الخارجية بعد أخلاقي ويجب أن تدعم مطالب الشعوب الأخرى للحقوق الديمقراطية التي نسعى إليها من أجل أنفسنا”.

بيد أن نتائج السياسة البريطانية كانت مختلفة كل الاختلاف عن هذه المزاعم، وخلفت آثارا مدمرة واضحة على المدنيين، بينما سعت إلى حجب ظهور أي أخبار عن ذلك.

على سبيل المثال، في يناير/كانون الثاني عام 1972، نشرت صحيفة “الأوبزرفر” مقالًا بعنوان “بريطانيا تخوض حربا سرية في الخليج”، بينما نشرت صحيفة “صنداي تايمز” في نفس اليوم مقالا بعنوان “هل حرب ظفار البريطانية سرية؟”، وكانت هذه العناوين تشير إلى دور بريطانيا في قمع ثورة ظفار في عمان، دعمًا للسلطان السابق المدعوم بريطانيًا “سعيد بن تيمور”، والد سلطان عمان الحالي “قابوس بن سعيد”.

لم تدعم بريطانيا السلطان العماني الذي عانى بلده من الفقر المدقع والأمية والأمراض المستوطنة فحسب، لكن سلاح الجو الملكي قام بإحراق القرى واستهدف المراكز الزراعية والإمدادات الغذائية في ظل تعتيم إعلامي شمل الصحفيين والمعلقين الإعلاميين من دخول البلاد.

ويشير المؤرخ “إيان كوبين” في كتابه “لصوص التاريخ” إلى أن إخفاء بريطانيا لتدخلها في قمع عُمان كان أمرًا حيويًا في الحفاظ على مصداقيتها المتضائلة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت.

في هذه الأثناء، واجهت بريطانيا منذ عام 1962 تمردًا في مستعمرة عدن التي كانت أكثر مواقعها الاستعمارية حيوية في الشرق الأوسط، ويوثق تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 1966 استخدام بريطانيا لأساليب التعذيب البشعة ضد المعارضين، مع استهداف الإمدادات الغذائية في مناطق المتمردين.

وكان إيذاء المدنيين في جنوب اليمن مقبولاً، طالما احتفظت بريطانيا بوجودها الاستعماري، في حين منعت حكومة الملكة أي تحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة.

 

ضرورة التصحيح

ومع عودة بريطانيا الشرق الأوسط بعد انضمامها إلى التدخلات التي تقودها الولايات المتحدة، حدثت المزيد من الانتهاكات، وفي ظل سعيها اليائس لتبرير تدخلاتها العسكرية، تعمدت لندن إخفاء أي صلات لها بانتهاكات حقوق الإنسان.

لكن هناك بصيص أمل في تحقيق العدالة يظهر مع بزوغ تحقيق آخر محتمل للمحكمة الجنائية الدولية في الانتهاكات البريطانية في العراق وأفغانستان.

ومع ذلك، ينبغي أن يكون واضحًا أنه ما لم تتحمل بريطانيا المسؤولية عن أفعالها في الماضي والحاضر، وتسعى بجدية لتحقيق العدالة للضحايا ومحاسبة مرتكبي الجرائم، فإن عليها أن تتوقف عن ادعاء تبنيها لسياسة خارجية تقدمية وإنسانية