العدسة – معتز أشرف

في مطالعة دورية جديدة لخبراء مركز كارينجي للدراسات الاستراتيجية حول القضايا التي تتعلق بسياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومسائل الأمن، برزت أزمة الأسلحة الكيماوية التي استخدمها الديكتاتور السوري بشار الأسد ضد المدنيين، والضربة الثلاثية من أمريكا وبريطانيا وفرنسا ضد مواقعه المستخدمة في العدوان على الشعب السوري، والتي رأى الخبراء أنها تطرح تساؤلًا مهمًا ألا وهو “هل بات استخدام الأسلحة الكيميائية نمطًا جديدًا في العلاقات الدولية؟” كانت إجابته الصادمة أن الخطر قائم رغم الضربة الثلاثية.

لا أعتقد!

من جانبه يجيب أليستر هاي، أستاذ متقاعد في علم السموم البيئية في جامعة ليدز في تقرير المطالعة الذي وصل ” العدسة” على التساؤل بقوله: “لا أعتقد  فـ”سوريا” تمثّل حالة شاذّة؛ قبلها كانت الهجمات العراقية على الأكراد في العام 1988 آخر مرّة استُخدمت فيها أسلحة كيميائية على نطاق واسع، ما أسفر عن مقتل حوالى 8 آلاف شخص وإصابة آخرين كُثُر..

وفي أغسطس 2013، أي بعد مرور 25 عامًا على تلك الحادثة، استُخدم غاز الأعصاب، السارين، في سوريا وأزهق أرواح أكثر من 1,400 شخص في الغوطة؛ واستُخدم مجدّدًا في أبريل 2017، فأسفر عن سقوط العديد من الضحايا في خان شيخون، كذلك يبدو أن عناصر كيميائية مجهولة أدّت إلى مصرع العديد من الأشخاص في 7 أبريل 2018 في دوما، إلى جانب هذه الهجمات نُفِّذ عدد أكبر بكثير من هجمات غاز الكلور طيلة فترة الحرب”.

وأضاف أنه علاوةً على ذلك، شُنّت هجمات أخرى باستخدام غازات الأعصاب، لكن كانت معزولة وأصغر نطاقًا؛ فقد استُخدم غاز السارين مثلًا لقتل 20 شخصًا، وإصابة المئات في اليابان بين عامَي 1994 و1995، واستُخدم غاز الأعصاب من نوع “في أكس” (VX) في عملية اغتيال كيم جونغ نام، الأخ غير الشقيق لزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون في كوالالومبور في العام 2017، واستُخدم أيضًا غاز نوفيتشوك في محاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سكريبال وابنته في المملكة المتحدة في مارس 2018…

ولقد تمّ تدمير معظم الترسانة الكيميائية السورية، ونُفِّذ ذلك وفق معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية التي دخلت حيّز التنفيذ في العام 1997، لكن من الواضح الآن أنها لم تُدمَّر بالكامل؛ إذ أُزيل 96 % من المخزون العالمي المُعلَن من الأسلحة الكيميائية، ونالت هذه الخطوة دعم 192 دولة والعديد من الشركات والصناعات الكيميائية، لذا تبدو الآفاق إيجابية على المدى البعيد، حتى لو أنَّ الأحداث الراهنة تشي بعكس ذلك”.

سياسة مستمرة

أما ناتاشا لاندر محلّلة أولى للسياسات العامة في مؤسسة راند المعروفة، فأكدت أنَّه لا يبدو أنّ الهجوم الكيميائي الأخير على دوما حالة شاذّة خارجة عن المألوف؛ فعلى الرغم من الجهود الدولية المتّسقة على مدى العقود المنصرمة لحظر الأسلحة الكيميائية، إلا أنَّ كلًّا من سوريا وتنظيم الدولة الإسلامية وكوريا الشمالية، وحتى روسيا، استخدمت هذه الأسلحة في السنوات الأخيرة، كذلك يشكّل غياب الإجراءات الملموسة لمحاسبة مُرتكبي الهجمات الكيميائية منعطفًا خطيرًا، يتم بموجبه التعامل مع الأسلحة الكيميائية على أنها أسلحة حرب تحظى بقبول ضمني، مشيرةً إلى أنه ردًّا على هذه الهجمات، عمدت الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الأوروبيين والاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على مواطنين سوريين وروس، كما طرد بعضها دبلوماسيين روس من دولهم، وصحيحٌ أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعقد اجتماعات ردًّا على استخدام الأسلحة الكيميائية، إلا أنَّ الاجتماعات وحدها لا تفضي إلى نتائج.

وأضافت ناتاشا لاندر أنه تمّ اللجوء إلى الخيارات العسكرية ضد سوريا للردّ على الهجمات الكيميائية– وكان آخرها في 14 أبريل 2018، لكن إطلاق عملية عسكرية مستدامة قد لا يكون مستساغًا سياسيًا، لذا ينبغي على الحلفاء الذين يتشاطرون نمط التفكير نفسه دعم الإدانة الشعبية لهذه الهجمات ومواصلة فرض العقوبات، وأيضًا التفكير في نشر المزيد من المعلومات لدحض السرديات الروسية القائلة إن استخدام روسيا وسوريا للأسلحة الكيميائية لا يعدو كونه مزاعم كاذبة.

رمزية كافية!

أليكس سايمون، مدير برنامج سوريا لدى مؤسسة سينابس، التي تساعد المحلّلين المحليّين على معالجة التغيُّرات الاجتماعية والاقتصادية التي تحدث في مجتمعاتهم، يجيب علي التساؤل بعبارة أكثر حزمًا قائلًا: “كلا، على العكس، فالضربات الجوية الأمريكية والبريطانية والفرنسية الأخيرة في سوريا أظهرت أنَّ الحظر المفروض على استخدام الأسلحة الكيميائية لايزال يحمل وزنًا رمزيًا كافيًا لإحداث ردود فعل لدى الجهات التي تخلّت حتى عن التظاهر بالاهتمام بالسوريين..

ومع ذلك لابدّ من ملاحظة إلى أي مدى فقد هذا الحظر الدعم التوافقي الذي حظي به منذ تسعينيات القرن الماضي؛ فاليوم أصبحت قوة رئيسة مثل روسيا تمتنع عن إدانة الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية، وتختار بدلًا من ذلك تبني مزيجٍ غير مترابط من الإنكار ونظريات التآمر المزيّفة والاتهامات الواهية ضد الجماعات المتمردة”.

ويوضح أنَّ هذا التراجع بالاهتمام يعود إلى انحراف أوسع نطاقًا في مرحلة ما بعد العام 2001 عن المفاهيم التي ساهمت في رسم معالم أواخر القرن العشرين، حينما بدأت المجتمعات الغربية تنغلق على نفسها وتقع أسيرة الظاهرة المَرَضية الخاصة بـ”الحرب على الإرهاب” التي تضرب بالتدريج مفهوم النظام الدولي القائم على القوانين، فلم تكن معايير مثل حقّ اللجوء والحظر المفروض على استخدام الأسلحة الكيميائية والتعذيب يومًا بمنأى عن الانتهاك، لكنها كانت على الأقل تحظى بإجماع غربي واسع، ولكن اليوم ليس هناك سوى جدل متواضع حول ما إذا كانت الدول الأوروبية ستعيد اللاجئين الذين يواجهون خطر الموت أو الاستعباد في إفريقيا، فيما تتحمّل واشنطن مسؤولية كبيرة فيما يتعلق بهذا التآكل، فقد ساهم جورج دبليو بوش في تفاقمه، ولم يحرّك باراك أوباما ساكنًا لوضع حدّ له، ووعد دونالد ترامب بتسريعه.

متنفس مؤقت

بيري كاماك، الباحث في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، والعضو السابق في طاقم تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية في إدارة جون كيري (2013-2015)، فيما يخص مسائل الشرق الأوسط، من جانبه يرى أنّ بعد الضربات غير المنتظمة التي شنّتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ضد منشأت للأسلحة الكيميائية في سوريا، يبدو أن عدد الدول التي تستخدم الأسلحة الكيميائية ضد مواطنيها يتراجع على الأرجح، أقلّه في الوقت الراهن، من واحد إلى صفر.

وأضاف أنَّ هذا التطوّر يُعتبر متنفسًا ضئيلًا بالنسبة إلى 600 ألف شخص من شعب الروهينجا الذين طردهم المجلس العسكري الحاكم من منازلهم في ولاية راخين في ميانمار، أو إلى مليون شخص في اليمن يعانون من الكوليرا في أعقاب الحرب الأهلية والحملة العسكرية بقيادة السعودية، وكذا الأمر بالنسبة إلى مواطني المناطق التي تشهد اضطرابات في سوريا، الذين ستواصل حكومتهم قتلهم بأعداد أكبر بكثير مُستخدمةً البراميل المتفجّرة الممتلئة بالبنزين وقطع الخردة المعدنية، مؤكدًا أنّه في هذا السياق، تُعتبر إعادة تأكيد الحظر على استخدام الأسلحة الكيميائية خطوة إيجابية وتحظى بترحيب واسع، لكنها بالكاد تُعدّ سببًا للاحتفال والحبور في عالم أصابه الجنون.