العدسة: محمد العربي

فجر البلاغ الذي تقدمت به الصحفية مي الشامي ضد رئيس التحرير التنفيذي لجريدة اليوم السابع المصرية دندراوي الهواري واتهمته فيه بالتحرش اللفظي والجسدي بها، ملف التحرش الجنسي بمصر والذي بات واحدا من أبرز الملفات الأخلاقية التي نتجت عن إنقلاب 3 يوليو 2013.

ويمثل التحرش الجنسي ظاهرة انتشرت بشكل غير طبيعي في الشارع المصري، حيث لم يعد قاصرا على المناسبات الاحتفالية والأعياد الدينية، أو الأماكن الشعبية والعامة، وإنما أصبح موجودا كذلك في النوادي الرياضية والمؤسسات الحكومية والأوساط الراقية.

وتطرح هذه الظاهرة الأخلاقية العديد من التساؤلات حول أسباب انتشارها بهذا الشكل الخطير، وهل هي عقاب سماوي ضد من دعوا لفض اعتصام رابعة بالقوة وشمتوا في المشاركين به، أم أنها نتيجة طبيعية للحالة المتردية التي تشهدها مصر على المستوى الاجتماعي في ظل توجهات النظام العسكري بتحويل مصر لدولة علمانية متحررة من كل القيود الشرعية، وهل يمثل غياب الدعاة الحقيقيين بالسجون والمعتقلات سببا في انتشار التحرش؟!.

البداية من الفلول

عرفت شوارع القاهرة ظاهرة التحرش الجنسي على يد فلول نظام مبارك الذين دخول ميدان التحرير للمرة الأولي بدعوة من جبهة الإنقاذ خلال احتفالات العام الثاني لثورة 25 يناير 2013، وهو الاحتفال الذي حشدت فيه جبهة الإنقاذ كل طاقتها لتظهر أمام الرئيس محمد مرسي والداعمين له، بأنها جبهة شعبية وليست مجرد مجموعة من أصحاب الياقات البيضاء، ومن هنا كانت بداية ظهور التحرش الذي ابتدعه الطرف الثالث في الأحداث التي عرفتها مصر طوال فترة حكم الرئيس مرسي، وهو الطرف الذي كان يقوم باستئجار البلطجية وأطفال الشوارع ليندسوا بين المتظاهرين الرافضين لحكم مرسي، ليقوموا بكل ما هو غير أخلاقي لتشويه ثورة يناير وثورارها.

وفي تصريح له من اعلى منصة ميدان التحرير اتهم القيادي البارز في جبهة الإنقاذ محمد أبو الغار رئيس الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي جماعة الإخوان المسلمين صراحة بأنهم السبب في وجود التحرش الجنسي، وانهم دفعوا بأنصارهم لميدان التحرير للقيام ذلك، وهو ما رد عليه حزب الحرية والعدالة بمقال لأحمد سبيع المتحدث باسم الحزب نشرته جريدة الشروق المصرية، أكد فيه أن جبهة الإنقاذ هو التي أكلت بثدييها، عندما سمحت لفلول الوطني ورجال الطرف الثالث بالتواجد في الميدان لتدنيسه وتشويهه، وهو ما ستجني حصاده بعد ذلك عندما يكون الفلول هم أصحاب الكلمة الأولي في الميدان الذي أزاح نظام مبارك قبل ذلك.

وقد شهدت المظاهرات التي نظمتها المخابرات الحربية ضد الرئيس مرسي في الفترة من 30/6/2013 ومرورا بمظاهرات التفويض والتأييد، توسعا كبيرا في ظاهرة التحرش، وأصبح البلطجية وأطفال الشوارع يمارسونه تحت سمع وبصر ومباركة رجال الجيش والشرطة الذين اصطفوا لحماية المظاهرات وإكثار عددها، إلا أنه وأمام انتشار الفيديوهات التي كشفت المستور في ميادين دعم السيسي، لجأت المخابرات الحربية لحركة مضادة وهي اتهام أنصار الرئيس مرسي بميدان رابعة العدوية بممارسة نجاح الجهاد، في محاولة لرمي الكرة في ملعب الإسلاميين بعد أن انفضح دعاة المدنية والعلمانيين، وكان دندراوي الهواري المتهم بالتحرش الآن أحد أهم الذين روجوا لهذه الفكرة في جريدته التي تسطير عليها المخابرات.

فيديو الثلاث فتيات

وظلت الظاهرة تعود ثم تختفي في المناسبات العامة، وخاصة في احتفالات عيدي الفطر والأضحي، حتي بثت مواقع التواصل الإجتماعي في 24 أغسطس الماضي مقطع فيديو يظهر 3 فتيات يصرخن بينما كن يتعرضن للتحرش ليلاً من قبل مجموعة من الشباب، وفي تقرير لها أكدت وكالة “فرانس برس” الفرنسية أن الفيديو أظهر مجموعة من الشباب بعضهم كان يركب دراجات نارية يطاردون الفتيات الثلاث في الشارع، بحسب القناة التي وصفت الفيديو بأنه أحدث فيديو في مصر لتحرش الشارع يثير موجة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي.

وطبقا للوكالة الفرنسية فإنه بعد ساعات قليلة من نشر الفيديو على الفيسبوك اختفى الفيديو الأصلي من صفحة الشخص الذي نشره للمرة الأولى، وبعد أيام قليلة كتب هذا الشخص تدوينة قال فيها إن صفحته تعرضت للقرصنة، وتشير الوكالة أن مجموعات من المواطنين شكلوا لجانًا لحماية النساء من الحشود المعادية خلال الاحتجاجات أو احتفالات العيد.

الأزهر يحتج

ولخطورة الظاهرة وانتشارها بشكل مخيف أصدر الأزهر الشريف بيان قبل أيام أكد فيه أنه يتابع ما تداولته وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي من حوادث تحرش، وصل الأمر في بعضها إلى حد اعتداء المتحرش على من يتصدى له أو يحاول حماية المرأة المتحرش بها، فيما سعى البعض لجعل ملابس الفتاة أو سلوكها مبررًا يُسوغ للمتحرش جريمته النكراء، أو يجعل الفتاة شريكة له في الإثم.

وشدد الأزهر على أن التحرش – إشارة أو لفظًا أو فعلًا- هو تصرف محرم وسلوك منحرف، يأثم فاعله شرعًا، وتجرمه كل القوانين والشرائع، وأن تجريم التحرش والمتحرِش يجب أن يكون مطلقًا ومجردًا من أي شرط أو سياق، فتبرير التحرش بسلوك أو ملابس الفتاة يعبر عن فهم مغلوط؛ لما في التحرش من اعتداء على خصوصية المرأة وحريتها وكرامتها، فضلًا عما تؤدي إليه انتشار هذه الظاهرة المنكرة من فقدان الإحساس بالأمن، والاعتداء على الأعراض والحرمات.

ودعا بيان الأزهر لتفعيل القوانين التي تجرم التحرش وتعاقبه على فعله، ودعا المؤسسات المعنية لرفع الوعي المجتمعي بأشكال التحرش وخطورته، والتنفير من آثاره المدمرة على الأخلاق والحياء، خاصة التحرش بالأطفال، وتكثيف البرامج الإعلامية لتعريف المواطنين بما يجب عليهم من تصرُّفٍ حال وقوع حادثة تحرش، وبما يردع المتحرش ويوفر الحماية للمرأة أو الفتاة المتحرش بها، كما يطالب وسائل الإعلام بتجنب بث أي مواد تروج للتحرش أو تظهر المتحرش بأي شكل يشجع الآخرين على تقليده.

القاهرة الأكثر خطرا

وطبقا لتصنيف أجرته مؤسسة تومسون رويترز عام 2017 فإن مدينة القاهرة تعد الرابعة على مستوي العالم بعد مدن نيودلهي وكراتشي وكينشاسا، من حيث الكثافة السكانية، وأشار التصنيف الذي شمل 19 مدينة كبيرة يزيد عدد السكان بها عن 10 ملايين نسمة، أن ظاهرة التحرش الجنسي زادت في القاهرة بشكل مخيف، نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية، ونقلت المؤسسة عن الناشطة بمجال حقوق المرأة “شهيرة أمين” قولها “كل شيء في المدينة صعب على النساء، حيث نرى النساء تكافحن في جميع الجوانب، حتى فسحة بسيطة في الشارع قد تعرضهن لخطر التحرش، سواء كان لفظيا أو حتى جسديا”.

ويشير تصنيف تومسون رويترز أن القاهرة جاءت في المركز الثالث بين أخطر المدن الكبرى للنساء من حيث العنف الجنسي أي بالنسبة إلى قدرتهن على العيش دون التعرض لخطر الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي أو التحرش، حيث تساوت مدينة ساو باولو بالبرازيل ونيو دلهي بالهند في المركز الأول.

وتشير الدراسة أنه لا توجد في مصر سوى إحصائيات قليلة بشأن التحرش، حيث أظهرت دراسة أجراها المركز المصري لحقوق النساء في 2008 أن 83 % من النساء أكدن التعرض للتحرش، العديد منهن بصفة يومية، واعترف 62 % من الرجال أنهم يتحرشون بالنساء.

بينما أظهرت دراسة أجرتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة مع مكتب الأمم المتحدة عام 2017 حول المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، أن 99% من النساء المصريات تعرضن لصورة ما من صور التحرش الجنسى.

غياب أصحاب القيم

ويري العديد من المتخصصين في علم النفس أن توجهات الدولة المصرية بعد 2013 نحو المزيد من الضغط الأمني السياسي، أثر سلبا على الأمن المجتمعي، كما انه أدي لتغييب عدد كبير من الموجهيين الإجتماعيين والدينيين الذين كان لهم تأثير كبير في دعم القيم والأخلاق.

وطبقا للمتخصصين فإن التنكيل بجماعة الإخوان المسلمين لم يكن له تأثيرات سلبية فقط على مجال السياسة، وإنما الأخطر أن تأثيراته السلبية على منظومة القيم المجتمعية كان أكبر، حيث نتج عن التنكيل بالإخوان قتل وسجن وتشريد آلاف الدعاة والعلماء وأصحاب التأثير المجتمعي في المدارس والجامعات والنوادي والنقابات، وهو ما أدي لوجود فراغ كبير لم تستطع المؤسسات الدينية الرسمية أو التي تم السماح لها بالحركة في الشارع، أن تشغله، مما كان من تأثيراته غياب القدوة والموجهين نحو الالتزام والأخلاق.

ويضاف لذلك أيضا أن الحملة التي يشنها رئيس الإنقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي ضد الأزهر ودعوته لتجديد الخطاب الديني وتشويه ومحاربة المظاهر الإسلامية، بالإضافة لانتشار الفساد والتوسع في الدراما التليفزيونية التي تدعو للعنف والإسفاف والتعري وتحارب القيم، وكذلك تردي الأوضاع الاقتصادية، كل هذا أدي لانفلات “عيار” الشعب المصري بشكل متزايد يمثل خطرا كبيرا إذا لم تتم مواجهته بوسائل متعددة أخلاقية وقانونية ومجتمعية وإعلامية.