رغم الحقيقة القائلة بأن مصر هي أول دولة عربية طبعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني على المستوى الرسمي، إلا أن الأمر يختلف على المستوى الشعبي إلى حد بعيد. حيث ظل الشعب المصري أحد أكثر الشعوب العربية ارتباطًا ودعمًا وتأييدًا للقضية الفلسطينية، ومعاداة للاحتلال الغاشم. حتى إن كلمة “العدو” إذا سمعها مصري، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه هو الاحتلال الإسرائيلي.
وقد اعتادت مصر – خاصة على المستوى الشعبي- على التفاعل مع الأحداث الجارية على الساحة الفلسطينية. ولفترة قريبة كانت ساحات الجامعات المصرية والنقابات المهنية والمدارس على مستوى الجمهورية تضج بالتظاهرات والاحتجاجات المنددة بالاحتلال وسلوكه العدواني، وداعمة لصمود الشعب الفلسطيني، وبالأخص في الفترات التي قام فيها الاحتلال بشن اعتداءاته على القدس أو غزة.
لكن المراقب للوضع يجد أن هذه التظاهرات المصرية الداعمة لفلسطين قد قَلّت بشكل كبير، فلم تعد تخرج مظاهرات ومسيرات كما السابق. وكانت آخر تظاهرة في هذا السياق هي التي أقامتها نقابة الصحفيين عام 2017 بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده في دولة الاحتلال إلى القدس الشريف. حينها انتهت هذه الوقفة التي أقيمت على درج النقابة باعتقال عدد من النشطاء والصحفيين، وطلاب بعض الجامعات الذين شاركوا في مظاهرات مماثلة في الوقت ذاته.
انقلاب السيسي.. انقلاب في المفاهيم
ربما من الضروري هنا معرفة أسباب هذا الخفوت الذي حدث فجأة في التظاهرات التي لم تنقطع طيلة عشرات السنوات. هل هي أسباب نابعة من قناعات تغيرت لدى شرائح واسعة من الشعب، أم هي أسباب خارجة عن إدارة الشعب المصري وتتعلق بالوضع في البلاد بشكل عام؟
يرى كثير من المراقبين أن نقطة التحول الرئيسية في هذا السياق هي الانقلاب على الرئيس الراحل، محمد مرسي، في عام 2013. حيث إن الانقلاب قد أعاد الدولة البوليسية بشكل أقبح وأشرس من ذي قبل. فرغم حقيقة أن عهد الرئيس المخلوع، محمد حسني مبارك، كان سيئًا إلى حد بعيد فيما يتعلق بالحقوق والحريات؛ إلا أن مقارنته بنظام السيسي الحالي في هذا الملف خاطئة، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ففي عهد مبارك، كانت السلطات تسمح ببعض التظاهرات هنا أو هناك، حتى وإن فضت قوات الأمن هذه التظاهرات واعتقلت بعض المشاركين فيها، فإنها كانت تفرج عنهم بعد أيام أو أسابيع معدودة. وعلى النقيض، يستخدم النظام الانقلابي في مصر حاليًا أقصى درجات العنف، ولا يسمح بالمظاهرات أيًا كان نوعها أو هدفها، كما أنه يمد في فترة حبس كل من يُعتقل أثناء أي تظاهرة.
ولا أدل على ذلك من أن بعض مَن اعتُقلوا عام 2017 من على سلم نقابة الصحفيين ظل في الحبس الاحتياطي ما يقارب العامين. كذلك اعتقلت قوات أمن الانقلاب الشاب المصري، عز منير، على مرأى ومسمع من العالم خلال مباراة كرة قدم في نوفمبر 2019، بعد أن رفع العلم الفلسطيني. ورغم المطالبات الشعبية بالإفراج عنه، والتأكيد على أن رفعه للعلم كان مبادرة منه تضامنًا مع إخوانه الفلسطينيين، وأنه ليس منتميًا لأي حزب سياسي أو جماعة؛ رغم هذا كله استمر حبس الشاب ما يقارب عامًا كاملًا.
بل إنه قد تم تصنيف المقاومة الفلسطينية في بعض الدول العربية كجماعات إرهابية، حتى إن الرئيس مرسي -رحمه الله- قد حوكم بتهمة التواصل مع حركة حماس إبان فترة رئاسته، الأمر الذي يدل على مدى التغير الكبير في نظره النظام الاستبدادي في مصر للقضية الفلسطينية وممثليها، واتخاذ نظام قائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، منحى مختلفًا عن الذي اتبعه مبارك.
ولم يتغير سلوك السلطة الانقلابية على مستوى قمع الحراك الشعبي فقط، بل تعدى الأمر ليشمل التشنيع بالقضية ذاتها وبالمقاومة الفلسطينية المرابطة على الثغور، خاصة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي يرى فيها معظم ممولي القنوات الإعلامية من إماراتيين وسعوديين أنها عدو تابع لجماعة الإخوان المسلمين، ويعملون على شيطنتها ليل نهار.
لذا فلربما تأثرت شريحة من الشعب بهذا الخطاب السلطوي المسموم. لكن يبدو أن هذه الشريحة ليست واسعة، وأنها في الغالب هي الشريحة المنتفعة من وجود سلطة الانقلاب، أو التي استطاع إعلام الانقلاب أن يطوعها بشكل تام. وهؤلاء قلة بالنظر إلى عموم الشعب المصري.
تفاعل قوي على منصات التواصل..
وما يؤكد هذا المنحى، ويشدد على أن المسألة تكمن في أن قمع النظام هو سبب عدم خروج مظاهرات مناصرة للقضية الفلسطينية في مصر، هو أن كثيرًا من النشطاء المصريين والعرب حاولوا تعويض غياب الشارع العربي عن دعم الفلسطينيين عبر التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي. حيث أطلق النشطاء عدة وسوم تدين ما يحدث في القدس المحتلة، وكان من أبرز هذه الوسوم هي “صمت العالم”، حيث أمد من خلاله المغردون عليه أنه في ظل صمت العالم عن جرائم الاحتلال سيرسلون هم أصوات الفلسطينيين إلى كل العالم.
كما تصدر وسم “انقذوا حي الشيخ جراح”، قائمة الأكثر تداولًا على معظم منصات التواصل العربية، ومنها المصرية، دعمًا لنضال الشعب الفلسطيني.
إذن، يمكن القول إن الانقلاب في مصر عام 2013 لم يكن انقلابًا على الرئيس مرسي فقط، بل كان انقلابًا على مبادئ متأصلة لدى الشعب المصري والشعوب العربية والإسلامية، فمن بعده أصبح تأييد الحق الفلسطيني جريمة يحاسب عليها فاعلها، وتغيرت المفاهيم فأصبحت المقاومة إرهاب. وهذا لا يدع مجالًا للشك بأن خفوت التظاهرات المصرية الداعمة لقضية فلسطين ليس نابعًا من تغير في قناعات الشعب المصري، بقدر ما هو نابع عن القمع الشديد للمظاهرات بكل أنواعها بوصفها سياسة ينتهجها النظام الانقلابي الحالي.
اقرأ أيضًا: وثائقي مجهول النسب لترويج سردية النظام المصري عن مقتل ريجيني
اضف تعليقا