نجح النظام المصري في تمرير التغييرات التي اقترحتها الحكومة على دستور مصر لعام 2014، والتي هدف البرلمان عبرها لضمان حكما مدى الحياة للرئيس الحالي، “عبد الفتاح السيسي”، حيث تم الإعلان عن تمرير التعديلات بموافقة 89% من المصوتين مقابل رفض 11%. لكن وراء هذه الأرقام المضيئة تكمن قصة أكثر قتامة من الاستبداد الزاحف والاستياء العام المتزايد، وتظل هناك أسئلة كثيرة حول التأثير النهائي للتعديلات على السياسة ومستقبل البلاد. فما قد يبدو في البداية عرضا مقنعا لقوة لسلطة الحكومة، يحمل في جنباته علامات الضعف، مع انعكاسات مهمة على مستقبل حليف رئيسي للولايات المتحدة.

 

ما هي التعديلات وماذا غيرت؟

تهدف التعديلات المذكورة إلى إجراء تغييرات واسعة النطاق في هيكل السلطة التنفيذية والعسكرية، وتم طرحها للتصويت في استفتاء وطني في الفترة من 19 إلى 22 أبريل/نيسان، حيث تم إعلان موعد التصويت بعد نقاش قصير، وخلال 24 ساعة من إقرار البرلمان المصري حزمة التعديلات في 16 أبريل/نيسان.

ووفقا لما ذكره معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، فقد تم تصميم التعديلات للقيام بـ 3 أشياء:

أولا: إطالة مدة ولاية الرئيس من 4 أعوام إلى 6 أعوام، بما في ذلك مدة فترة ولاية “السيسي” الحالية بأثر رجعي. بالإضافة إلى ذلك، تسمح التعديلات لـ “السيسي” بالترشح مرة أخرى عام 2024، مما يمكنه من البقاء في منصبه حتى عام 2030.

ثانيا: تعزيز دور القوات المسلحة المصرية إلى حد كبير في الحياة السياسية للبلاد، مع تكليفها بـ “حماية الدستور والديمقراطية، والحفاظ على أسس الدولة وطبيعتها المدنية، ومكاسب الشعب، وحقوق وحريات الأفراد”. كما يوسع هذا التعديل من السلطة الواسعة بالفعل الممنوحة للمحاكم العسكرية في محاكمة المدنيين المتهمين بالهجمات ضد الجيش.

ثالثا: زيادة الرقابة الرئاسية على القضاء، والسماح للرئيس بتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا، المختصة حصريا بتحديد دستورية جميع القوانين واللوائح، ورؤساء مختلف الهيئات القضائية، والنائب العام. ويسمح بند مهم آخر للرئيس برئاسة المجلس الأعلى للهيئات والكيانات القضائية، الذي يدير الشؤون الإدارية للنظام القضائي.

ومعا، تقضي التعديلات فعليا على استقلال القضاء، وتركز سلطة غير مسبوقة في يد الرئيس الحالي وخلفائه. كما أنها تضع القوات المسلحة رسميا كأقوى قوة سياسية في البلاد، فوق القانون وبدون محاسبة. ولقد أدت التغييرات الدستورية إلى تجاوز مصر بشكل حاسم للاستبداد المقنن في عهد “حسني مبارك”، فضلا عن الديمقراطية غير الليبرالية في عهد الرئيس السابق “محمد مرسي”، مما يدفع البلاد نحو نموذج شمولي بلا مواربة.

 

ما وراء الأرقام

وفي حين تشير نتائج الاستفتاء إلى تأييد ساحق من الجمهور للتعديلات، إلا أن الأرقام نفسها توفر سببا مهمًا للشك في هذه النتيجة. وسجلت الاستفتاءات السابقة على التعديلات الدستورية، التي أجريت في 2007 و2011 و2012، نسبة مئوية من الأصوات لصالح “لا” تتراوح بين 23 و36%، مما يجعل نطاق الـ 11% في الاستفتاء الأخير شذوذا لافتا للنظر يفتقر إلى المصداقية. وبالمثل، تعد نسبة المشاركة المزعومة البالغة 44% أعلى بكثير من أي استفتاءات سابقة، ومن المحتمل أن تكون مبالغا فيها لإضفاء مزيد من الشرعية على النتائج المشكوك فيها. وهناك القليل من الأدلة المصورة أو المرئية على وجود حشود حول صناديق الاقتراع، كما أن المقابلات مع الصحفيين والناخبين فشلت في دعم الروايات الرسمية لأماكن الاقتراع المزدحمة. وفي حادثة لا يمكن نسيانها، تم التقاط فيديو لضابط أمن بملابس مدنية وهو يحاول إجبار رجل على دخول مركز الاقتراع.

وفي الواقع، كانت الرشوة والتخويف، وهما من التكتيكات المفضلة للحكومة، حاضرة بشكل كبير في النتائج النهائية المبلغ عنها. وقد أفادت منظمات حقوق الإنسان والمراقبون المستقلون الآخرون عن أشخاص مجهولي الهوية كانوا يوزعون صناديق الطعام مقابل التصويت، وقيل إن المشرعين استأجروا وسائل نقل لنقل الناس إلى مراكز الاقتراع. ويُزعم أن الشركات المؤيدة للحكومة حثت موظفيها على الإدلاء بأصواتهم في التعديلات الدستورية، على الأرجح تحت تهديد بالإجراءات التأديبية أو حتى فقدان وظائفهم. وشهدت المنافذ الإعلامية التي تسيطر عليها الحكومة حشدا متواصلا لدعم مجموعة التعديلات.

ولم يمنع هذا المعارضة من التعبير عن نفسها، حيث تجمعت مجموعة من 10 أحزاب يسارية وعلمانية معا للتنديد بالتعديلات، ووصفتها بأنها “اعتداء على الديمقراطية”. وشنت مجموعة تطلق على نفسها “الحرية من أجل مصر” حملة تحدت من خلالها النظام عبر رفع لافتات تدعو للتصويت بـ “لا” في الأماكن العامة، ونشرت صورا لأعمالها الرافضة للتعديلات عبر الإنترنت. وفي واشنطن، التقى الممثلان المصريان البارزان، “عمرو واكد” و”خالد أبو النجا”، بممثلي الكونغرس الأمريكي، ودعوا علانية للتصدي للتعديلات ووقف الطغيان في مصر. ولقد ناشدا العالم التضامن الدولي مع المصريين.

وفي الفترة التي سبقت الاستفتاء، وثقت العديد من منظمات حقوق الإنسان حالات عديدة من الترهيب الرسمي لرافضي التعديلات، بما في ذلك الاعتقالات والاحتجاز والاختفاء القسري. وقالت “هيومن رايتس ووتش” إن الحكومة ألقت القبض على 160 معارضا على الأقل في فبراير/شباط ومارس/آذار وحدهما، وحظرت 34 ألف موقع ويب، بما في ذلك حملة “باطل” عبر الإنترنت، التي جمعت نصف مليون توقيع لرفض التعديلات رغم حظر الحكومة المتكرر لموقعها. كما أمر النظام وسائل الإعلام الرسمية بعدم تغطية الاحتجاجات مع توجيه حملة دعائية مؤيدة للتعديل تهدف إلى تشكيل حركة شعبية داعمة. وتم حظر “أبو النجا” و”واكد” من نقابة الممثلين المصريين، بعد ظهورهما في واشنطن، وقد حكمت محكمة عسكرية على الأخير بالسجن لمدة 8 أعوام غيابيا بسبب آرائه السياسية.



لم هذه التعديلات؟ ولماذا الآن؟

ويشير الاستعجال الذي تحركت به الحكومة وطبيعة التعديلات تفسها إلى أن نظام “السيسي” يبدو عصبية أكثر من كونه واثقا فيما يتعلق بما يخبئه له المستقبل. وأظهرت الانتخابات الرئاسية لعام 2018، التي أعادت “السيسي” إلى السلطة لفترة ولاية أخرى مدتها 4 أعوام، علامات وفيرة على عدم شعبيته. وقد تم التأكيد على ذلك من خلال القمع الوقائي الذي قامت به الحكومة ضد المعارضة، والوقاحة التي أعاقت بها جميع المعارضين الانتخابيين ذوي الوزن النسبي، قبل الاستقرار على مرشح من اختيار النظام يعطي الانتخابات قشرة ديمقراطية. وبالنسبة إلى الجنرالات في مصر، يبدو أن درس الربيع العربي كان أن السماح حتى بحرية سياسية محدودة قد يدعو إلى الفوضى المزعزعة للاستقرار وفقدان السلطة. وتعتبر التعديلات الدستورية الجديدة جزءا من مسيرة تمتد لأعوام لإغلاق المجال السياسي وسحق المعارضة قبل أن تخرج عن السيطرة. ومرة أخرى، عملت عملية التعديل على إبراز الضعف السياسي الأساسي للنظام.

وربما ساعدت التطورات السياسية المثيرة للقلق في أماكن أخرى من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على تسريع جهود “السيسي” لتعزيز السلطة. وجاءت استقالة “عبد العزيز بوتفليقة” في الجزائر، وإسقاط الرئيس السوداني “عمر البشير” بعد مظاهرات حاشدة ضد حكمه، لتثير بلا شك قلق الجنرالات في القاهرة، ولا يمكن أن يفوتهم أن الاحتجاجات في الجزائر والخرطوم هي استمرار للتظاهرات التي يقوجها المدنيون ضد الديكتاتوريات الشاملة والحكم العسكري، كما حدث في مصر قبل 8 أعوام. وربما كان هذا أحد العوامل المحفزة وراء التعديل الذي رفع دور الجيش في السياسة، وهي طريقة لحماية الجيش من الاحتجاجات وإضفاء الشرعية على سلطته الفوقية.

وبالإضافة إلى تلقيح النظام ضد أي تحد قانوني أو سياسي محتمل، قد تساعد التعديلات أيضا في تهيئة الظروف لمصر للعب دور أكثر حزما على الساحة الإقليمية. ويبدو أن البيت الأبيض يعتمد على القاهرة للمساعدة في تقديم الدعم العربي لخطة السلام في الشرق الأوسط التي طال انتظارها. وأصبحت مصر أكثر عدوانية في ليبيا عبر دعم الجنرال “خليفة حفتر”، الذي أعلن الحرب على حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس. وربما ساعد “السيسي” في إقناع الرئيس “ترامب” بالتراجع المفاجئ عن دعم إدارته السابقة للحكومة الوطنية لصالح دعم “حفتر”. وربما تستعد مصر أيضا لاستعراض عضلاتها فيما يتعلق بحقوق النيل مع تهديد مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير بالحد من حصة مصر من مياه النيل. وفي جميع هذه الحالات، وخاصة إذا تورطت مصر في نزاع عسكري مع جيرانها من الغرب أو الجنوب، ستحتاج القاهرة إلى أن تكون مستقرة في الداخل من أجل التركيز على التحديات الخارجية دون تشتيت الانتباه بالمعارضة السياسية الداخلية.

ومن خلال بسط سلطته ومد فترة ولايته، قد يكون “السيسي” متأكدا من أنه لن يواجه معارضة من طرف مهم، وهو البيت الأبيض في ظل رئاسة “ترامب”. وفي الواقع، يبدو أن إدارة “ترامب” قد قطعت شوطا في إقرارها لعملية التعديل، ودعت “السيسي” إلى مقابلة مع الرئيس في المكتب البيضاوي في 9 أبريل/نيسان، وذلك قبل وقت قصير من بدأ التصويت في مصر. وقد انتهز “ترامب” الفرصة لتمجيد “السيسي” “لقيامه بعمل رائع”، في الوقت الذي تظاهر فيه بالجهل بعملية التعديل الدستوري، في إشارة واضحة لـ “السيسي” والجمهور المصري إلى أن الولايات المتحدة تدعم هذا الجهد. ويبدو أن “ترامب” يقدر فائدة الاستبداد المصري فيما يتعلق بإنجاز الأعمال، وبالتالي فإن حزمة التعديلات ربما تكون قد عززت بالفعل صورة “السيسي” في البيت الأبيض.

 

هل ينجح “السيسي” للنهاية؟

وعلى الرغم من النجاح الذي حققه النظام على ما يبدو في تحجيم المعارضة، في الوقت الذي يوجه فيه مصر بلا هوادة نحو نموذج حكم أكثر قمعا، لا تضمن الاستراتيجية بأي حال من الأحوال مستقبلا هادئا للحكم العسكري على ضفاف النيل. وتظهر تجربة نظام “حسني مبارك” أن النظام السياسي الذي يتجاهل تطلعات شعبه عرضة للانقلاب المفاجئ. ومن خلال تبني سياسات قمعية أكثر بكثير مما فعله “مبارك”، ليس فقط من خلال تزوير الدستور لصالحه، بل بتجريم التعبير السياسي السلمي، وسحق المجتمع المدني، وتوسيع نطاق السجن السياسي، وكذلك استخدام التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء، يحاول نظام “السيسي” ضمان الاستقرار على المدى القصير لكنه يبقى في خطر حدوث كارثة على المدى الطويل.

وتدفع التعديلات الدستورية مصر نحو ديكتاتورية حقيقية تتركز في شخص “عبد الفتاح السيسي”، وهو ترتيب يبدو أنه يظهر قوة، لكنه في نهاية المطاف مصدر للضعف وسبب للفشل الكارثي. وقد تبدو مشاريع الديكتاتوريات الشخصية التي تركز السلطة في يد فرد واحد مستدامة، لكنها في الواقع تكون أكثر عرضة للانهيار الفوضوي من الأنواع الأخرى من الأنظمة. ومن خلال إغلاق جميع الوسائل السلمية للجمهور لتغيير الحكومة المصرية أو للتعبير عن الشكوى، تؤدي هذه التعديلات إلى خلق حالة من الضغط الحقيقي الخانق الذي قد يؤدي إلى انفجار الاضطرابات في النهاية.

وبالنظر إلى تواطؤ البيت الأبيض مع هذه التطورات السياسية في مصر، وعدم اهتمامه العام بسجل حقوق الإنسان للنظام، يبقى الأمر متروكا الآن للكونغرس لتركيز الاهتمام على الوضع المتدهور للحريات المدنية والسياسية في البلاد. ويجب أن يواصل الكونغرس التدقيق في طلبات الإدارة الأمريكية بشأن المساعدات العسكرية من مصر، مع ضمان شروط حقوق الإنسان وحجب المساعدات عند الضرورة. وأكثر من ذلك ربما على المشرعين أن يتناقضوا حول جدوى إنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على حليف يعرض مصالح واشنطن للانهيار. ويوفر الإعلان المصري بأن القاهرة لن تشارك في تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي الذي ترعاه الإدارة الكثير من الإجابات.

وقبل كل شيء، يجب أن يكون الكونغرس الآن الصوت الرسمي في واشنطن للسكان المصريين المضطهدين. ومن الأهمية بمكان أكثر من أي وقت مضى التواصل مع الرجال والنساء الشجعان الذين لديهم الشجاعة لمواجهة الطبقة الحاكمة الدكتاتورية في مصر، وإخبارهم بأنهم ليسوا وحدهم.

 

المصدر: الخليج الجديد