كما تعودنا فقد جاءت الخبر يوم السبت 25 اغسطس الجارى بصيغة واحدة فى جميع الصحف وعلى الفضائيات المصرية على أنه : ” وجه السيسي بزيادة إنتاج ألبان الأطفال المنتجة محلياً، بما يساهم في تفادي أي نقص في الأسواق، على أن يتم توفيرها بسعر التكلفة في الصيدليات التابعة للشركة القابضة للأدوية وكذلك الصيدليات الأخرى إضافة إلى حجم انتاج الألبان المدعومة الحالي” ، وجاءت هذه التوجيهات بعد اجتماع شمل السيسي، ووزيرة الصحة ، ومدير مجمع الجلاء الطبي للقوات المسلحة ،، .وكانت وزيرة الصحة المصرية قد صرحت فى مؤتمر الشباب يوم 19 يوليو الماضى(فيديو) بأن الجيش المصرى سوف يقوم بتوريد 22.5 مليون علبة مصنعة محليا من ألبان الاطفال سنويا مع بداية العام القادم بدلا من الاستيراد ، وفى حين تأنى هذه التصريحات مُبشرة بانفراجة بعد عدة اشهر ، فإن الاطفال الرضع مازالوا ييتضورون جوعا بسبب أزمة طاحنة ومستمرة فى ألبان الاطفال من حيث ارتفاع الاسعار والنقص والاختفاء لأصناف كثيرة.
بدايات الازمة الحادة المفاجئة فى ألبان الاطفال وظهور الجيش المنقذ :
فى صباح أول ايام شهر سبتمبر /ايلول عام 2016 ؛ استيقظت مصر على مزيج من صراخ وهتافات أمهات تحت الشمس الحارقة يحملن اطفالا يبكون جوعا وينتحبون فى مظاهرة حاشدة أمام الشركة المصرية لتجارة الادوية بكورنيش النيل بجوار مستشفى معهد ناصر بالقاهرة ، كان مشهدا صادما للشارع المصرى وسط صخب اعلامى كبير يعرض الكارثة وينشر خبر الازمة الطارئة ونقص الألبان الصناعية المخصصة لرضاعة الاطفال . وبدأت اسباب الازمة تتضح حيث سبق وأن صدر صباح نفس اليوم قرار مفاجىء من وزير الصحة بحظر تداول الالبان الصناعية للاطفال والمدعمة سوى فى المراكز الحكومية فقط وباستخدام بطاقة خاصة ، مع رفع سعر العلبة من 3 جنيهات الى 5 جنيهات اى بنسبة 60% دفعة واحدة ، واقرار مايسمى بالكارت الذكى فى الصرف ، وصاحب ذلك القرار اختفاء حاد لجميع الاصناف بالاسواق والصيدليات ، وكان التظاهر امام الشركة المصرية المستورد الوحيد والتى اصبحت بلاحول ولا قوة بعد قرار الوزير الذى وجه الاتهامات للشركة بأنها تتلاعب فى كميات الالبان لصالح شركات الحلويات . لتتوالى بعدها تصريحات وزير الصحة بأن الالبان المدعمة متوفرة بالمراكز الحكومية المعتمدة فقط وان الجهود يتم بذلها لمواجهة الازمة بالنسبة لباقى الانواع ، وانه قد تم التفاوض مع الجيش المصرى لحل الازمة فورا خلال ساعات …. وبعدها مباشرة اعلن الجيش عن توفيرباقى الاصناف ولكن بعد زيادة سعر العبوة الواحدة من 18 جنيه الى 26 جنيه اى بنسبة تتجاوز 40 % من السعر الأصلى ، وبعدها بشهر قام الجيش مرة أخرى برفع السعر مرة اخرى ليصبح 43 جنيه للعبوة الواحدة والتى تحمل شعار ” تحيا مصر ” .
وحيث أن عدد المواليد فى مصر يبلغ 2.7 مليون مولود سنويًا ، يحتاج حوالى 12% منهم إلى لبن صناعى “مثيل حليب الأم ” لأسباب كثيرة معروفة ومعتمدة عالميا ، ويستهلك كل طفل رضيع من 4 إلى 6 علب شهريًا أى الاستهلاك السنوى حوالى 25 إلى 30 مليون علبة، ويجب توفير مخزون استراتيجى لايقل عن يبلغ 3 ملايين علبة، ولا يحق لوزير الصحة أو رئيس الوزراء التحكم فى هذا المخزون إلا بقرار من رئيس الجمهورية، لأن هذه اشتراطات منظمة الصحة العالمية التى تقضى بعدم التصرف هذا المخزون إلا فى حالات محددة من معاناة الدولة من الأوبئة أو الأزمات الكبرى. ومن المعروف عالميا إن لبن الأطفال مثل الأنسولين يعتبران من أسلحة الدول الصناعية المنتجة لهما للضغط السياسي علي الدول الفقيرة .
الجيش وخطوات الاستحواذ على سوق ألبان الاطفال فى مصر :
- فى بداية عام 2016 قامت الشركة المصرية لتجارة الادوية بنشر اعلان استغاثة فى الصحف المصرية شمل انها ومنذ 20 عاما تقوم باستيراد الالبان بالتعاون مع وزارة الصحة دون حدوث مشاكل ، وتتضر من بشأن شطبها من مناقصة استيراد ألبان الاطفال حيث توجد النية لاسناد الاستيراد الى جهة سيادية ! .
- فى بيان صادر عن وزارة الصحة بتاريخ 23 ابريل 2016 تم الاعلان عن اجتماع تم بين وزير الصحة و ممثلي وزارة الإنتاج الحربي و أنه تم الاتفاق على بروتوكول يستمر لمدة ٣ سنوات لتوريد وتجهيز مصانع ألبان الأطفال، وتقدر الاحتياجات السنوية لمصر بحوالى ٤٠ مليون علبة لبن بودرة،،،
- ومع بداية نشر بيانات موازنة الصحة لعام 16/2017 المعلنة فى الجريدة الرسمية، تبين عدم وجود أي رقم محدد لدعم البان الأطفال، بخلاف المعتاد فى الاعوام السابقة ، وبعدها صرح وزير الصحة بأنه سوف يوفر نسبة من الدعم من خلال اعادة الهيكلة لبعض بنود الموازنة .
- خلال شهريوليو 2016 وفى اجتماع بفندق الماسة للقوات المسلحة بالقاهرة حضره وزير الدفاع المصرى وقتها مع عدد كبير من اعضاء البرلمان تم الاعلان عن دخول الجيش مجال استيراد البان الاطفال .
- فى بداية شهر سبتمبر 2016 ظهر الجيش بقوة ليملأ الساحة باعتباره المنقذ للحكومة من الفشل ، ويتم فورا توفير ألبان الاطفال ولكن بزيادة كبيرة نسبيا فى الاسعار .
- والان وفى شهر اغسطس 2018 يتم الاعلان رسميا عن دخول الجيش مجال تصنيع البان الاطفال ليكون هو المستحوذ الوحيد على توريد جميع احيتاحات وزارة الصحة مع بداية عام 2019 .،
تاريخ صناعة ألبان الاطفال فى مصر :
بداية فإن ألبان الأطفال يتم تصنيعها في الأصل من ألبان الأبقار المُعالجة، بمعنى تبديل نسب البروتين في حليب البقر ليكون مشابهًا للبروتين الموجود في «لبن الأم»، إضافة لنزع الدسم منه، وهي عملية معقدة، وتحتاج لتقنيات وتجهيزات عالية، فضلًا عن وجود أجهزة مراقبة على أعلى مستوى. وغالبًا ما تكون صلاحية ألبان الأطفال نحو 18 شهرًا فقط من تاريخ الإنتاج، أما بعد فتح العلب واستخدامها، تكون فترة الصلاحية شهرًا واحدًا فقط .
وتوجد عدة محطات هامة لتصنيع البان الاطفال فى مصر من المهم الاشارة اليها :
- ” لاكتو مصر “ : تم طرح البان الاطفال صناعة مصرية باسم ” بيبى زان 1″ بالاسواق عام 2002 ، وهو من انتاج مصانع شركة ” لاكتو مصر” بالعاشر من رمضان ، والتى تأسست عام 2000 برعاية ودعم من وزارة الصحة ، وسط زخم ومبشرات اعلامية كثيرة وقتها بلغت ذروتها بأن تم اطلاق اسم ” بيبى زان ” على المُنتج الجديد تيمنا باسم السيدة “سوزان” زوجة مبارك رئيس مصر وقتها .
- نشرت صحيفة الاهرام بتاريخ 20 يناير 2006 انه بناء على تقرير لجنة مختصة فقد صدر قرار من وزير الصجة بوقف إنتاج وتداول لبن” بيبي زان1 ” للأطفال الرضع بعد ثبوت استخدام مواد فاسدة في إنتاجه .
- مفاجأة اكتشاف المصنع السرى : في مفاجأة مدوية اكتشف وزير الصحة المصري أثناء جولة له بالمصانع في منطقة العاشر من رمضان وجود مصنع بشراكة مصرية ينتج البان الأطفال الرضع،. وكانت المفاجأة التي فجرها الاعلامي عمرو أديب في حلقة يوم الثلاثاء 28 مارس 2017 من برنامجه “كل يوم” المُذاع على فضائية “On E”،(فيديو) ان المصنع الذي اكتشفه وزير الصحة والسكان انشأ بشراكة مصرية هولندية منذ عام 2000 وتمتلك مصر منه حاليا حوالي 3% ،باسم الشركة العربية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية (أكديما)،، وينتج 35 مليون علبة لبن أطفال في العام، كان يطرح نسبة منها للسوق المصري إلا أنه توقف عن طرح انتاجه في السوق المصري نهائيا في عام 2004. من جانبه صرح دكتور خالد مجاهد المتحدث باسم وزارة الصحة ان المصنع ينتج ألبان عالية الجودة ومطابقة للمواصفات ، وكشف مجاهد أن الوزارة قد تعاقدت للحصول على دفعة ألبان الأطفال القادمة من هذا المصنع بعد انتهاء المناقصة الحالية خلال ثلاثة أشهر.
- ومن المثير للدهشة انه فى اليوم التالى مباشرة ؛ أعلن د. جمال الليثي عضو غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات، في برنامج «صالة التحرير»، المذاع عبر «صدى البلد»، مساء الأربعاء 29 مارس 2017 ،(فيديو) أن تصريحات وزارة الصحة، حول المصنع غير دقيقة، موضحًا أن المصنع لديه البنية التحتية، وكان لديه الخطة لإنتاج لبن الأطفال بكميات كبيرة، مشيرًا إلى وجود مصنع ” لاكتو مصر ” كمبنى فقط ، وتوقفه عن العمل،
- بتاريخ 2 يوليو 2017 صدر حكم المحكمة الإدارية العليا بتأييد قرار وزير الصحة والسكان بحظر تداول واستخدام لبن الأطفال والرضع (بيبى زان ــ 1) المنتج بمعرفة شركة لاكتو مصر لإنتاج الألبان وأغذية الأطفال، وبتأييد قراره بإيقاف خط إنتاجه.
وهذا السيناريو يفرض عدة وقفات للتأمل والدراسة منها : هل كانت استغاثة الشركة المصرية تتضمن اشارة مبكرة الى تدخل الجيش ! ، وماهو السر وراء القرار المفاجىء لوزير الصحة الذى فجر الازمة فجأة صباح يوم 1/9/2016 ولماذا قام باستدعاء الجيش ؟ وكيف تدخل الجيش وضخ كميات كبيرة من الألبان الصناعية المستوردة وأنقذ الاطفال بسرعة ؟ وهل كانت هذه هى الخطة التى اشار ايها وزير الدفاع تلميحا قبلها بحوالى شهرمع اعضاء البرلمان ؟ ، وماهى أسرارذلك المصنع السرى لانتاج البان الاطفال ؟ وكيف غاب عن وزارة الصحة وهى شريك فى اسهم تأسيسه ؟ ، وماهودور شركة “أكديما” والتى كان يترأسها وزيرا سابقا للصحة ؟ ، وهل هناك من مغزى أو دلالة وراء توقيت اصدار قرار المحكمة الادارية العليا فى شهر يوليو 2017 بعد اكثر من عشر سنوات من رفع القضية بمعرفة شركة “لاكتومصر ” ؟
واذا كان الغموض مازال قائما حول دور الجيش فى تصنيع البان الاطفال محليا ، وهل قام الجيش فعلا بإنشاء مصنع متكامل لانتاج البان الاطفال ؟ أم انه قد استحوذ على مصنع شركة لاكتومصر ؟ ؛ إلا أن الصورة الواضحة هى انه بعد كل أزمة تحدث في مصر بمختلف القطاعات يظهر الجيش ؛ بقطاعاته المختلفة والتى اصبحت ممسكة بمفاصل الاقتصاد المصري ومتغلغلة في كل مكونات الدولة ؛ كمخلص من الأزمة ومساهم في حلها، في حين يبقى التساؤل سيد الموقف فيما إذا كانت الأزمة بالأساس مفتعلة أم لا؟!
دكتور مصطفى جاويش / 28 أغسطس 2018.
للوقوف على موضوع أزمة ألبان الاطفال انصح بقراءة هذا المقال.
لقد استفدت أيما استفادة