العدسة – منصور عطية
“من يمت بغيظه فليمت” كلمات وجهها وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور للإعلام المصري الذي شن هجومًا حادًا على الخرطوم تزامنًا مع الزيارة التي اختتمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى هناك وما تم توقيعه من اتفاقات.
المعركة التي اشتعلت بين الطرفين، تكشف مدى القلق الذي تشعر به مصر من التقارب التركي السوداني، خاصة مع تخصيص الخرطوم لجزيرة “سواكن” في البحر الأحمر لتركيا في اتفاق يشوبه الغموض.
على الجانب الآخر فإن الأمر يبدو مزعجًا أيضًا لدول الخليج خاصة السعودية التي يفصل بين “سواكن” وأقرب موانئها على البحر مسافة قصيرة، فيما فتح هذا التقارب الباب على مصراعيه أمام الحديث عن صراع النفوذ في البحر الأحمر.
رسائل متبادلة ومصر الهدف
ولعل هذا التراشق الإعلامي الذي وُصف بالهستيريا ليس منبعه الغضب المصري من الزيارة في حد ذاتها، لكن ما تمخضت عنه من اتفاقات تجارية وعسكرية ضخمة، أماطت اللثام عن تقارب غير مسبوق بين البلدين ينعكس أيضًا على توتر قائم بين مصر والبلدين كل على حدة.
فلا تزال أزمتا مثلث حلايب وشلاتين الحدودي المتنازع عليه وسد النهضة الإثيوبي يلقيان بظلال كثيفة على العلاقات بين مصر والسودان، بينما يبقى التوتر الحالي بين القاهرة وأنقرة والمستمر منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013 غني عن التوصيف.
هذا التقارب تبدو مصر هي المستهدف الأول منه، بالنظر إلى تشابك الملفات المشتركة والأزمات بين الدول الثلاث، بخلاف الأزمات سالفة الذكر.
فقبل أيام فقط عززت مصر من تعاونها العسكري والأمني مع اليونان وقبرص، صاحبتا العداء التاريخي على الحدود وحقول الغاز مع تركيا في شرق البحر المتوسط.
وفي نوفمبر الماضي، أعلنت مصر نجاح وساطتها في توحيد الحركة الشعبية لتحرير السودان، في إطار جهود وقف الحرب بدولة جنوب السودان، الأمر الذي يقابل باتهامات سودانية لمصر بدعم الحركات المسلحة السودانية المتمردة في الجنوب.
وهكذا كانت الرسالة المزدوجة من تركيا والسودان كل على حدة ضد مصر، مفادها أننا نستطيع أن نلعب في حديقتك الخلفية كما تلعبين في حدائقنا الخلفية أيضًا.
اللافت في هذا السياق أيضًا أن وزير الخارجية السوداني حسم أمر التعاون العسكري المستقبلي مع تركيا كثمرة من ثمار زيارة أردوغان، ما يفتح الباب أمام تواجد عسكري تركي محتمل في جزيرة “سواكن” التي لا تبعد كثيرًا عن مثلث حلايب وشلاتين.
السعودية ليست بعيدة
السعودية التي تملك مساحة شاطئية واسعة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر تبدو معنية برسالة هي الأخرى يوجهها كل من السودان وتركيا أيضًا، فجزيرة سواكن الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر لا يفصل بينها وبين ميناء جدة السعودي أقل من 300 كم.
الرسالة التركية الموجهة للسعودية هنا تتلخص في سعي أنقرة الحثيث لتعزيز نفوذها في البحر الأحمر على مقربة من مدخله الجنوبي ومضيق باب المندب وخليج عدن، وما تشهده تلك المنطقة من صراع دولي وإقليمي على النفوذ نظرًا لما تتمتع به من أهمية استراتيجية حيث يتحكم المضيق في نحو 10% من التبادل التجاري حول العالم، ويعتبر نافذة دول الخليج لتصدير نفطها إلى أوروبا وآسيا.
هذه الرسالة تزامنت مع زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى الرياض ولقائه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، فيما بدا وكأنها مداولات سياسية بين الجانبين أشبه بلعبة شد الحبل.
ولا يمكن الفصل في هذا الموضع بين ما يعكسه التقارب التركي السوداني من زيادة في التوتر بين المملكة وكلا الدولتين على وقع موقفهما من الأزمة الخليجية، وهو البعد الأكثر أهمية فيما يبدو بالنسبة للسعودية.
الموقف التركي من الأزمة كان هو الأبرز بين قوى المنطقة، حيث لم يتوقف عند حدود الدعم السياسي والاقتصادي لقطر، بل تعداه إلى تعاون عسكري تجلى في إنشاء قاعدة جوية تركية في الدوحة، رأتها السعودية تهديدًا مباشرًا لها.
أما السودان فخذل حليفته المملكة بعدم اتخاذ موقف سلبي من قطر، بل والاستمرار في التعاون والتنسيق معها على أعلى المستويات، رغم أن الخرطوم تشارك بقوة هي الأكبر من خارج الخليج في التحالف العربي الذي تقوده السعودية باليمن.
السودان ساحة للصراع
ويبدو أمرًا بديهيا أن السودان سينضم هو الآخر إلى الساحات الخلفية التي تلعب فيها قوى دولية وإقليمية متعددة في إطار صراعها على النفوذ بتلك المنطقة الواعدة.
التواجد التركي المرتقب في جزيرة سواكن ليس الأول من نوعه الذي يعزز من لعب السودان دورًا هامًا في هذا الصراع، حيث اتفقت قطر مع السودان على إنشاء أكبر ميناء للحاويات في البحر الأحمر في مدينة “بورتسودان” بعد تنافس شرس مع “شركة دبي للموانئ” على الفوز بالصفقة.
تعبر مضيق باب المندب سنويًا 21 ألف قطعة بحرية تمرر من خلاله نحو 30% من نفط العالم أي نحو 3.3 مليون برميل، كما تعبر منه سنويًا 12 مليون حاوية بضائع تشكل نحو 10% من حجم التجارة العالمية.
الأهمية الاستراتيجية لتلك البقعة جذبت قوى عالمية مثل أمريكا وفرنسا والصين لتوسيع نفوذها والتواجد العسكري والسياسي والاقتصادي في الجزر المطلة على البحر الأحمر، خاصة تلك الواقعة شرق أفريقيا وتحديدًا في جيبوتي والصومال وإريتريا.
على الجانب الآخر توسع قوى إقليمية مثل السعودية والإمارات وإيران وقطر من نفوذها في المنطقة بقواعد عسكرية وسيطرة على الموانئ خاصة مع اندلاع الحرب في اليمن وما يضمه من موانئ استراتيجية على باب المندب وخليج عدن وبحر العرب مثل الحديدة والمكلا والمخا وعدن.
اضف تعليقا