ربما يكون ملف ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، من أكثر الملفات الشائكة حول العالم في الفترة الحالية. حيث تتداخل هناك أطراف عدة، منها ما هو محازٍ للبحر المتوسط ومنها ما هو غير محازٍ له لكن تربطه بالمنطقة مصالح اقتصادية وجيوسياسية. وبالطبع، فإن الخلاف الأكبر في شرق المتوسط هو بين تركيا واليونان، إلا أن باقي الدول المشاطئة للبحر ليست بمعزل عن الخلافات، ومنها مصر، وقبرص، وليبيا، والسلطة الفلسطينية، والكيان الصهيوني، وسوريا، ولبنان.

ونحاول في السطور القادمة التركيز على مشكلة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا، حيث عادت المسألة إلى الواجهة – في الداخل اللبناني على وجه الخصوص- بعد أن وقعت وزارة النفط والثروة المعدنية في نظام مجرم الحرب السوري بشار الأسد، مع شركة “كابيتال” الروسية عقدًا يعطي الشركة الروسية حق التنقيب عن النفط في البلوك السوري رقم 1 المحاذي للحدود اللبنانية.

عطاء مَن لا يملك لمن لا يستحق..

وحسب الاتفاق، فإن النظام السوري قد منح الشركة الروسية دون غيرها الحق الحصري في التنقيب عن البترول في هذه المنطقة. وبرغم أن هذا التعاقد يمثل مشكلة، حيث إنه يعطي الحق لروسيا في نهب خيرات الشعب السوري في البحر، بعد أن نهبت خيراته في البر، بالتعاون مع نظام الأسد.

إلا أن المشكلة الأكبر بالنسبة للبنان هي أن الحدود البحريّة التي حدّدها النظام السوري، وبالأخص أن “بلوك رقم 1” مُتداخلة مع “بلوك رقم 1″ و”بلوك رقم 2” التابعين للدولة اللبنانية. بمعنى أن نظام الأسد أعطى الشركة الروسية الحق للتنقيب عن النفط في ما يُقارب من 750 كلم مربعًا داخل الحدود اللبنانيّة.

ولأن الأمر يسبب مشكلة كبيرة للدولة اللبنانية، ويحرمها من جزء مهم من حقوقها في البحر المتوسط – حسب الرؤية اللبنانية – في وقت تعاني فيه لبنان من أزمة اقتصادية طاحنة ومتصاعدة، اتصل الرئيس اللبناني ميشال عون، ببشار الأسد لبحث هذا الأمر، ومسألة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بشكل عام، وفق شربل وهبة، وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية.

وحسب وزير الخارجية اللبناني فإن عون أكد خلال الاتصال أن “لبنان لن يقبل الانتقاص من سيادته بالمياه وأن بلاده تتمسك بترسيم الحدود، وتدعو الجانب السوري للتفاوض”. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث أشار “وهبة” إلى أن اللجوء للتحكيم الدولي يعد خيارًا واردًا قد تتبعه لبنان، حيث قال “آخر الدواء هو اللجوء إلى المحاكم الدولية، لكننا لسنا اليوم في وارد الهجوم على سوريا”.

الخلفية التاريخية للخلاف..

وفي الحقيقة، فإن الخلاف حول مناطق الصلاحية البحرية بين لبنان وسوريا ليس وليد اليوم، بل تعود أصوله إلى عام 2011، عندما قام لبنان بترسيم حدوده البحرية من جانب واحد، بعد أن أصدرت الحكومة اللبنانية مرسوما برقم 6433، والذي رسّم من جانب واحد حدود لبنان البحرية الشمالية والجنوبية والغربية. وكنوع من تثبيت حقها في هذه المناطق، أرسلت لبنان هذا الترسيم إلى الأمم المتحدة لإيداعه هناك، كما أخطرت الخارجية اللبنانية نظيرتها السورية بالأمر.

كما أن الاتفاق الأخير بين النظام السوري وشركة “كابيتال” الروسية ليس جديدًا، بل تم توقيعه منذ عام تقريبًا، وفق مديرة معهد حوكمة الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط، وخبيرة سياسات النفط، لوري هايتيان. إلا أن من الواضح أن قرار برلمان بشار الأسد مؤخرًا بالموافقة على العقد، أكسبت العقد قوة القانون، وبالتالي قد تبدأ الشركة الروسية حاليًا في التنقيب عن النفط في المناطق المتنازع عليها مع لبنان.

ويبدو أن مكالمة الرئيس عون لبشار الأسد لم تكن حدثًا عابرًا، فقبل أيام بحثت وزيرة الدفاع اللبنانية زينة عكر، مع كل من وزير الخارجية شربل وهبة، والقاضي جان قزي، ملف الحدود البحرية للبنان بشكل عام، سواء الحدود الشمالية مع سوريا، أم الحدود الجنوبية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقد أصدرت الدفاع اللبنانية بيانًا بعد هذا الاجتماع ذكرت فيه أن الأطراف المجتمعة قد اتفقت على متابعة التطورات في هذا الشأن.

حزب الله يعرقل التحركات اللبنانية..

في المقابل، يرى محللون أن الدولة اللبنانية قد تقاعست عن حماية حقوقها البحرية؛ ويرجع سبب هذا التقاعس في رأيهم إلى تأثير حزب الله على الساحة اللبنانية. ومن المعروف، أن حزب الله اللبناني أحد أهم الداعمين لنظام بشار الأسد في سوريا، وقد أرسل آلافًا من جنوده للقتال بجانب الأسد بهدف استمراره في السلطة.

وعلى هذا، يرى هؤلاء المراقبون أن حزب الله قد غلَّب أيدلوجيته الضيقة على انتمائه للبنان، وقام بعرقلة الجهود اللبنانية الرامية إلى حماية حدوده البحرية، طيلة الفترة الماضية.

الحل القانوني..

وقد تحدث مهتمون بالأمر حول الحلول القانونية التي قد يأخذها لبنان في هذا المسار، حيث قال أستاذ القانون الدولي أنطوان سعد إنه “بالنسبة إلى الاعتداء السوري على المياه اللبنانية، واستنادًا إلى اتفاقية مونتيغو باي (اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار)، إمّا أن يلجأ لبنان إلى محكمة قانون البحار، وإمّا الذهاب إلى لجنة تحكيمية بحيث تختار سوريا محكّمين، ولبنان أيضًا محكّمين”.

وأضاف: “وعندها يختارون طرفًا خامسًا ليشكلوا هيئة تحكيمية، وغالبًا ما تتخذ الهيئة مركز إقامة في الخارج مقرًا لعملها، بعيدًا عن الجغرافيا اللبنانية أو السورية”.

كذلك صرح أستاذ القانون الدولي أن لبنان بإمكانه اللجوء إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، لأن الاعتداء – في نظره – ليس فقط بسبب سوريا، وإنما أيضًا بسبب الشركة التي تمارس التنقيب، لكونها تدرك جيدًا أنه لا يمكن أن تقترب من مساحة متنازع عليها”.

ورغم ذلك، إلا أنه من المبكر حاليًا الجزم بأن لبنان سوف يلجأ قريبًا إلى التحكيم الدولي، بأي من مظلاته السابق ذكرها.