العدسة – بشير أبو معلا

تحت عنوان “الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط” نشرت صحيفة “أجورافو” الناطقة بالفرنسية، تقريرًا عن الإستراتيجية التي تتبعها روسيا في منطقة الشرق الأوسط، وكيف استطاعت الاستفادة من أخطاء المنافسين، في وقت يبدو فيه أن الصراعات بالمنطقة تتعثر، بصرف النظر عن اليمن، فلا توجد انتفاضة جديدة في فلسطين، كما أصبح “داعش” خارج السباق عمليًّا في العراق وسوريا.

داخل هذا البلد الأخير على التحديد، جميع قوى المعارضة تفقد زخمها بوضوح، وتعاني من كسور داخلية متزايدة لا يمكن التغلب عليها، لكن لا يزال من الصعب مواجهة ما يلي: إعادة الإعمار بعد الحرب، وإعادة إرساء نظام إقليمي معين، فالقوى الداخلية تريد السلطة الكاملة أو الجزئية، والقوى الأجنبية تريد حجز مكانها أيضًا.

وفي خضم التطورات المتسارعة والتي لا تحصى في الشرق الأوسط، يتطور الدور الروسي ليس فقط في سوريا، ولكن في جميع أنحاء المنطقة.

يوم 12 ديسمبر زار الرئيس فلاديمير بوتين مصر، مشيرا إلى ما يمكن أن يُطلق عليه دور روسي جديد في الشرق الأوسط، حيث يرغب “بوتين”، الذي يسعى إلى فترة رئاسة رئاسية رابعة، في إعادة تشكيل دور بلاده في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

وجاءت زيارة “بوتين” لمصر عقب زيارة خاطفة لسوريا أعلن خلالها بدء التحضير لسحب القوات الروسية، حيث قال أمام العسكريين بقاعدة حميميم في أول زيارة لرئيس روسي أو سوفييتي لسوريا، إن قواته “خلال أكثر من عامين قامت مع الجيش السوري بدحر أقوى الجماعات الإرهابية الدولية، ونظرا لذلك اتخذت قرارا بعودة جزء كبير من القوة العسكرية الروسية الموجودة في الجمهورية العربية السورية إلى روسيا”.

في سوريا، يتقاسم التحالف “التكتيكي” بين روسيا وإيران وتركيا المصالح والمكاسب بعد هزيمة “داعش”، فروسيا والولايات المتحدة لها أهداف مختلفة في سوريا، ولكن روسيا تأخذ التحالف إلى المستوى التالي: التسوية السياسية للأزمة في سوريا، وهي خطوة ضرورية في مرحلة إعادة الإعمار، ويبدو أن التنسيق مع مصر والمملكة العربية السعودية ضروري في هذه المرحلة.

وستكون الخطوة التالية في سوريا لروسيا هي إحياء النظام السوري على الساحة العربية والدولية، حيث اقتنعت القوى العظمى بالواقعية، ووافقت على تأجيل النقاش حول مصير النظام، وأنه يجب تنسيق النقاش مع الدول العربية، وخاصة السعودية، حيث إن مصر ليس لديها موقف مسبق من بقاء النظام، بل تريد ببساطة أن ترى سوريا متماسكة على المستوى الوطني وحرة وخالية من الإرهاب.
سوريا لم تكن المسألة الوحيدة التي كانت على جدول زيارة “بوتين” لمصر الأسبوع الماضي، حيث كان هناك عدة مواضيع أخرى جذابة، مثل المصالح الاقتصادية والإستراتيجية التي جذبت المصريين تجاه روسيا.

الزيارة الـ “السريعة والمركزة”، كما وصفها مسؤول مصري، شهدت إطلاق مشروع للطاقة النووية، وفي السباق لفترة ثانية يراهن الرئيس عبد الفتاح السيسي على المشروع، وعودة السياح الروس إلى مصر، فضلا عن الاتفاقيات الاقتصادية ذات السبعة مليارات دولار، التي سيتم توقيعها مع موسكو، وبينما يحرج الرئيس دونالد ترامب حلفاءه في الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر، فإن الروس يوسعون دورهم في المنطقة عبر مصر.

هناك رهان آخر لـ”بوتين” هو المملكة العربية السعودية، إذ يتلاقى الطرفان معا في الأزمة السورية، خلال الآونة الأخيرة تحدث السعوديون عن تحويل علاقات التنافس إلى شراكة، وتصدير الغاز الطبيعي المسال الروسي إلى المملكة، ومن شأن الواقع الإستراتيجي الجديد أن يمهد الطريق لأسواق الطاقة، كما أنه بعد إطلاق مشروع “Yamal LNG” للغاز الطبيعي المسال في روسيا، سيغير التعاون الثنائي والعلاقات وشبكة المصالح والتحالفات الإقليمية والدولية.

بل إن الصندوق السعودي للاستثمار العام وصندوق الاستثمار المباشر الروسي يتحدثان عن أكثر من 10 مليارات دولار من الاستثمارات المشتركة.

من الواضح أن “بوتين” يستغل تراجع النفوذ الأمريكي لضمان بهدف ألا تحل روسيا محل الولايات المتحدة، ولكن تشاركها في اللعبة العالمية للإستراتيجية الجيولوجية، الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في الشرق الأوسط، وبفضل المصالح المشتركة والروابط التجارية والاقتصادية، تستعيد روسيا تحديد دورها، وهو ما يوفر خيارات إستراتيجية أكثر للعرب.

الولايات المتحدة والصين اختارت أحد المعسكرين، لكن من خلال التحدث إلى الجميع في المنطقة، روسيا نأت بنفسها عن الدخول في لعبة الاستقطاب بالشرق الأوسط، فهل ستكون على استعداد لأن تصبح القوة الوسيطة التي تحتاجها المنطقة بشدة؟