في ظل محاولاته المستمرة لتجميل صورته الاقتصادية وتسويق مشاريع ضخمة دون أسس حقيقية، أعلن النظام السعودي عن استثمارات هائلة في مجال الذكاء الاصطناعي بقيمة 14.9 مليار دولار، تشمل شراكات مع شركات عالمية كبرى مثل “غوغل كلاود”، “لينوفو”، “غروك”، و”علي بابا كلاود”.
تدّعي الحكومة السعودية أن هذه الاستثمارات ستجعل المملكة مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي، إلا أن تحليل السياق الاقتصادي والسياسي يكشف أن هذه المشاريع قد تكون مجرد دعاية جديدة تهدف إلى صرف الأنظار عن فشل رؤية 2030، بدلاً من تحقيق تحول اقتصادي حقيقي.
استثمارات ضخمة.. ولكن من المستفيد؟
رغم الحملة الإعلامية الضخمة التي يروّج لها النظام السعودي، يبقى السؤال الأهم: من المستفيد الحقيقي من هذه الاستثمارات؟ بالنظر إلى تفاصيل الاتفاقيات، يتضح أن أغلب الاستثمارات تصب في مصلحة الشركات الأجنبية، التي تحصل على إعفاءات ضريبية، وحوافز مالية ضخمة، وفرص استثمار غير مقيدة، بينما يتم تهميش الكفاءات المحلية.
على سبيل المثال، رغم إعلان “علي بابا كلاود” عن تعاونها مع أكاديمية “طويق” وشركة الاتصالات السعودية (STC) لتدريب الكفاءات المحلية، إلا أن أغلب عمليات التطوير التقني ستتم عبر الخبرات الأجنبية المستوردة، مما يعني أن هذه المشاريع لن تساهم في خلق كوادر سعودية مؤهلة بقدر ما تعزز اعتماد المملكة على التكنولوجيا الخارجية.
إضافة إلى ذلك، تفتقر المملكة إلى استراتيجية واضحة لكيفية تحقيق عوائد حقيقية من هذه الاستثمارات. فبدلًا من التركيز على بناء منظومة تقنية محلية قادرة على الابتكار، يبدو أن هذه المشاريع تهدف إلى تقديم وعود زائفة للمستثمرين الدوليين، من دون أن يكون لها تأثير ملموس على الاقتصاد السعودي. ويبقى السؤال: هل يتم الاستثمار في التقنية من أجل بناء اقتصاد مستقل ومستدام، أم أن الهدف الأساسي هو الترويج السياسي؟
غياب البنية التحتية التقنية: حلم “وادي السيليكون” السعودي مجرد سراب
أحد الادعاءات الأساسية التي يروج لها النظام السعودي هو أن هذه الاستثمارات ستساعد في تحويل المملكة إلى “وادي سيليكون جديد” في الشرق الأوسط. لكن الواقع يكشف عن هوة كبيرة بين الطموح والإمكانات الفعلية.
الاعتماد على استيراد التكنولوجيا بدلًا من تطويرها محليًا:
بينما تسعى الدول المتقدمة إلى تطوير أبحاثها في الذكاء الاصطناعي، لا تزال السعودية تعتمد على استيراد التكنولوجيا دون أي ضمانات لنقل المعرفة الحقيقية. ما يعني أن المملكة تدفع مليارات الدولارات مقابل توظيف شركات أجنبية، دون أن يكون لديها تحكم حقيقي في التكنولوجيا التي يتم تطويرها.
نقص حاد في الكفاءات المحلية:
تشير التقارير إلى أن السعودية تعاني من نقص كبير في عدد المهندسين والمبرمجين المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعل هذه الاستثمارات غير قابلة للاستدامة على المدى الطويل، حيث سيظل القطاع التقني مرهونًا بالعمالة الأجنبية، ما يطرح تساؤلًا حول جدوى هذه المشاريع بالنسبة للمواطن السعودي.
تكرار سيناريو “نيوم” و”ذا لاين”:
لا تعد هذه المرة الأولى التي يطلق فيها النظام السعودي مشاريع كبرى تبدو واعدة على الورق، لكنها تفشل في التنفيذ. مشاريع مثل “نيوم” و”ذا لاين” تم الترويج لها على أنها ستكون نقلة نوعية في المنطقة، لكنها لاتزال غارقة في الديون والمشكلات البيروقراطية والتأخيرات الضخمة، ما يثير الشكوك حول مصير مشاريع الذكاء الاصطناعي المعلنة.
الذكاء الاصطناعي.. أداة لتعزيز القمع بدلًا من التنمية؟
في حين أن بعض الدول تستثمر في الذكاء الاصطناعي لتعزيز الابتكار والبحث العلمي، يبدو أن النظام السعودي يسعى إلى استخدام هذه التقنيات لتعزيز قبضته الأمنية والسيطرة على المجتمع.
مراقبة المواطنين عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي:
تعتمد الأنظمة القمعية على الذكاء الاصطناعي لتعزيز آليات المراقبة والتجسس على المواطنين، وهو ما تؤكده سياسات السعودية في فرض رقابة صارمة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. هناك تقارير تشير إلى أن تقنيات التعرف على الوجه، وتحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي قد تُستخدم لتعزيز أنظمة المراقبة بدلاً من تعزيز الحريات أو تطوير البنية التحتية الرقمية.
شراء الشرعية الدولية عبر التكنولوجيا:
من الواضح أن ابن سلمان يسعى لاستخدام هذه الاستثمارات كورقة لتلميع صورته عالميًا، بعد سنوات من الانتقادات الحادة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، واغتيال الصحفي جمال خاشقجي، وقمع المعارضة السياسية. من خلال ضخ مليارات الدولارات في شركات عالمية، يحاول النظام إعادة بناء علاقاته مع القوى الغربية، لكن يبقى التساؤل: هل يمكن للتكنولوجيا أن تغطي على الانتهاكات الحقوقية والسياسات القمعية؟
استثمار أم استنزاف اقتصادي؟
في النهاية، الاستثمارات الضخمة التي يعلن عنها النظام السعودي في الذكاء الاصطناعي تبدو أقرب إلى دعاية إعلامية منها إلى مشروع اقتصادي حقيقي.
المستفيد الحقيقي: الشركات الأجنبية التي تحصل على عقود ضخمة، وإعفاءات ضريبية، ودعم مالي دون التزامات طويلة الأمد.
الخاسر الأكبر: المواطن السعودي، الذي لا يزال محرومًا من فرص العمل الحقيقية في القطاع التقني، ويُطلب منه تصديق وعود لم تتحقق منذ الإعلان عن رؤية 2030.
في المحصلة، ما يحدث اليوم ليس “نهضة تكنولوجية”، بل مجرد سراب جديد يُضاف إلى قائمة مشاريع النظام السعودي الوهمية، التي تنتهي بفشل مُكلف، بينما يستمر قمع الحريات ونهب الموارد بلا حسيب أو رقيب.
اضف تعليقا