في أوائل الشهر الماضي، أوقفت القوات الصهيونية المتمركزة على طريق سريع رئيسي إلى القدس عدة حافلات كبيرة تقل فلسطينيين من داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وأجبروا على حمل جوازات سفر دولة الاحتلال. وكان الركاب متوجهين للصلاة في المسجد الأقصى بالبلدة القديمة في القدس، في ليلة السابع والعشرين من رمضان، وهي أحد أقدس الليالي في رمضان بالنسبة للمسلمين.

حاولت سلطات الاحتلال منع الحافلات، ولكن على الرغم من صيامهم وتوقفهم على طريق سريع على بعد حوالي 16 كيلومترًا من البلدة القديمة، بدأ الركاب طريقهم إلى القدس سيرًا على الأقدام. انتشر الخبر بسرعة، وركب فلسطينيون من القدس سياراتهم لمرافقتهم إلى المدينة.

بعد عدة ساعات من سد الطريق الرئيسي، وكذلك اندلاع الاحتجاجات الفلسطينية، رضخت القوات الإسرائيلية وسمحت للحافلات بالمرور، مما أدى إلى لحظة انتصار واحتفال في الشوارع. لقد كان شيئًا أشبه بعصيان مدند عفوي تلقائي تمامًا، وكذلك لحظة تاريخية مهمة في التنظيم الجماعي الفلسطيني.

 

بعد الحملة الإسرائيلية العنيفة على الاحتجاجات التي وقعت داخل المسجد الأقصى في تلك الليلة -على نطاق لم تشهده منذ سنوات- حرص الاحتلال على سحق أي محاولات لإظهار المزيد من الوحدة الفلسطينية في القدس المحتلة.

اهتزت دولة الاحتلال، ليس فقط من حجم الاحتجاجات الجارية في حي الشيخ جراح بالقدس، ضد التهجير القسري للعديد من العائلات الفلسطينية من منازلها، ولكن أيضًا من الاستجابة الشعبية في مدن الـ 48، حيث نظم السكان داخل الأراضي المحتلة احتجاجاتهم الخاصة.

على الرغم من البيئة القمعية التي يُجبر الفلسطينيون على العيش فيها، فإن الغضب المتصاعد على المستوى الوطني جعل إسرائيل تتدافع لتقييد الحشود الفلسطينية من خلال إغلاق الحافلات على الطريق السريع، خوفًا من الإضرار بها.

 

مع ظهور مبادرات حشد إبداعية في فلسطين جنبًا إلى جنب مع الاهتمام الدولي -خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي- تبرز ردود الفعل الإسرائيلية العنيفة الخائفة من الجماهير. 

ففي نهاية الأسبوع الماضي فقط، قمعت القوات الإسرائيلية بعنف “ماراثون” فلسطيني بطول 3.5 كيلومتر من الشيخ جراح إلى سلوان في القدس ، شارك فيه الآلاف للاحتجاج على التطهير العرقي المستمر في تلك الأحياء. لم تكتف الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية من مسافات قريبة على المشاركين، بل قاموا أيضًا بضربهم جسديًا، مما أدى إلى إصابة 23 شخصًا.

 

 

فرق تسد..

 

مع اندلاع احتجاجات الشيخ جراح، تساءل الكثير: لماذا لا يستطيع الفلسطينيون من رام الله وبقية الضفة الغربية المحتلة حضور هذه الاحتجاجات؟ بعض القوانين والسياسات القمعية التي يفرضها النظام الاستعماري الإسرائيلي على الفلسطينيين وُضعت للحيلولة دون قدرة الجماهير الفلسطينية على التجمع.

لقد نشر صحفي فلسطيني من الضفة الغربية المحتلة هذه الفكرة على تويتر: “ماذا لو دخل كل الفلسطينيين في الضفة الغربية واحتجوا في الشيخ جراح؟ هل يستطيع الاحتلال [الإسرائيلي] اعتقال الآلاف؟ ستكون أعدادنا أكبر من أعدادهم “.

وأضاف: “نعرف جيدًا استراتيجية إسرائيل: فرق تسد. الفصل العنصري والتهجير القسري للفلسطينيين هو جوهر بقائها كدولة استعمارية، وكان ذلك منذ إنشائها”.

مليونا فلسطيني -70٪ منهم لاجئون من أراضي 1948- محتجزون في سجن مفتوح في قطاع غزة، تحت حصار إسرائيلي دام 14 عامًا. ويشكلون حوالي ثلث السكان الفلسطينيين الباقين في وطنهم.

ما يقرب من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية المحتلة محاصرون أيضًا، ولا يُسمح لهم بدخول بقية فلسطين التاريخية إلا بتصريح من جيش الاحتلال، ليس من الصعب الحصول عليه فحسب، بل يمكن أن يكون محدودًا زمنيًا لبضع ساعات فقط. مجرد التفكير في الاضطرار إلى مطالبة المحتل الخاص بك للحصول على تصريح لدخول وطنك لا يشجع الكثيرين على التقديم.

 

 

الخوف من الفلسطينيين..

 

بين الضفة الغربية المحتلة ومناطق الـ 48، وفي الضفة الغربية نفسها، أقيمت عدد لا يحصى من نقاط التفتيش وحواجز الطرق التابعة لسلطات الاحتلال، وهدفها تقسيم الأراضي وفصل الفلسطينيين عن بعضهم البعض، مما حد من المساحة التي يمكن أن يتواجدوا سويًا فيها. كما أن المستوطنات تشكل بحراً حول القرى الفلسطينية، تلتهم أراضيها، ويقوم المستوطنون المسلحون بانتظام بشن هجمات ضد الفلسطينيين.

تملي إسرائيل أين يمكن لكل فلسطيني أن يعيش، ومن يمكنه الزواج، وأين وكيف يمكنه بناء مستقبله. يحمل الفلسطينيون بطاقات هوية وجوازات سفر ووثائق ملونة مختلفة – بما في ذلك العديد من النسخ المختلفة حتى داخل نفس العائلة – التي تملي كل جانب من جوانب حياتهم تقريبًا.

في موازاة ذلك، عملت إسرائيل ومؤسساتها بجد على مر السنين لإعادة تعريف الفلسطينيين بما يتناسب مع محاولات التجزئة القمعية ، مثل تسمية الفلسطينيين في أراضي عام 1948 بـ “عرب إسرائيل”. كما لو أن العيش في ظل نفس النظام الذي أجبر عائلاتهم لم يكن سيئًا بما يكفي، كان لا بد من تسميتهم باسمه أيضًا. كما تصوّر إسرائيل غزة على أنها “حماس”.

لطالما كان تقسيم الشعب الفلسطيني جزءًا لا يتجزأ من قدرة المشروع الصهيوني على تحقيق أهدافه السياسية المتمثلة في إقامة دولة استعمارية استيطانية متعصبة في فلسطين – والأهم من ذلك ، الاستمرار في الحفاظ عليها.

لم يكن تشكيل هذه الدولة ممكناً إلا من خلال محاولة اقتلاع الشعب الفلسطيني من قبل الميليشيات الصهيونية بين عامي 1947 و 1949، عندما طردوا قسراً ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من وطنهم.

وتواصل إسرائيل منع عودتهم وعودة أحفادهم، الذين يبلغ عددهم اليوم أكثر من خمسة ملايين ويعيشون في مخيمات اللاجئين في الدول العربية المجاورة، حيث تخشى أن يؤدي وجود عدد أكبر من الفلسطينيين عن عدد اليهود إلى “زوال اليهود”. كما تمنع إسرائيل عودة أولئك الذين نزحوا داخليًا ولا يزالون يعيشون في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.

 

 

الهندسة الديموغرافية..

 

تبع أحداث النكبة على الفور سياسات وقوانين رسّخت التشرذم المستمر حتى يومنا هذا. في ظل مؤسسة استعمارية تستخدم الهندسة الديموغرافية والقوة العسكرية والتطهير العرقي للحفاظ على سلطتها على أمة لا تزال تقاوم، وهنا تعد التجزئة إحدى الأدوات الأساسية التي تمكن الكيان الغاصب من الحفاظ على وجوده.

في حين أن الاحتجاجات على الأقصى والقصف الإسرائيلي لغزة ربما تكون قد انتهت، يبقى التنظيم الشعبي الجماعي والتعبئة التي تجري على مستوى البلاد قائمًا غير مسبوق، وفقًا للنشطاء.

يبدو أن المشروع الصهيوني أخطأ في اعتقاده أنه يمكن أن يقمع ويفتت الأمة الفلسطينية الواحدة عن طريق القيود الإدارية والجغرافية القمعية.

في سلسلة من المبادرات المستمرة، يعمل النشطاء الفلسطينيون على تحدي وكسر التفتتات الجغرافية الاستعمارية الإسرائيلية والسياسات القمعية، من الاحتلال العسكري الوحشي إلى سرقة الأراضي، واستغلال الموارد الطبيعية، والقيود على الحركة، والتطهير العرقي والاستعمار الاستيطاني.

 

 

تحدي القيود الجغرافية..

 

ففي 18 مايو، نظم الفلسطينيون في جميع أنحاء البلاد إضرابًا عامًا تاريخيًا على مستوى البلاد. وعندما أُعلن عن المسيرة من الشيخ جراح إلى سلوان، نظمت مجموعات من الناصرة وحيفا حافلات لمرافقة الفلسطينيين للحضور.

كما شارك الفلسطينيون في جميع أنحاء البلاد في “أسبوع اقتصادي” بين 6-12 يونيو، يركز على تشجيع الفلسطينيين، بما في ذلك في الشتات، على مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وإنفاق الأموال على المنتجات الفلسطينية والشركات الصغيرة والمتاجر وحملات التمويل ، تحت شعارات “نشتري المنتجات الفلسطينية” و”القدس، الضفة الغربية، ومناطق الـ 48، وغزة – قوة اقتصادية واحدة”.

قدمت المتاجر والمطاعم والشركات المشاركة خصومات للعملاء ، بينما كانت الحافلات تغادر من مناطق الـ 48 إلى القدس على مدار الأسبوع للتسوق في المتاجر الفلسطينية.

في هذه الأثناء ، تم تشكيل لجان قانونية تطوعية في مناطق الـ 48 وفي القدس للدفاع عن المعتقلين في الحملة الإسرائيلية المستمرة للاعتقالات الجماعية في جميع أنحاء فلسطين.

 

تسلط التطورات على مدى الشهرين الماضيين الضوء على أنه على الرغم من الانقسامات الجغرافية والاجتماعية والسياسية التي عملت الدولة الصهيونية بجد على ترسيخها، فقد أخطأ المشروع الصهيوني في الاعتقاد بأنه سيتمكن من خلال هذه الإجراءات من تفتيت الوحدة المعنوية للأمة الفلسطينية، بل والعربية والإسلامية.