بطريقة يشوبها الحذر والهدوء، تمارس السطات المصرية جرائم باتت تعرف بـ”الاغتيالات الصامتة” ضد السجناء والخصوم السياسيين للرئيس عبد الفتاح السيسي، معظمهم ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، وعلى الأغلب لن يكون الرئيس الراحل محمد مرسي آخرهم.
ومنذ إطاحة السيسي بمرسي في يونيو 2013، أودع الأمن المصري عشرات الآلاف من المعتقلين بالسجون على ذمة التحقيق في قضايا مزعومة، لكن المثير أن هؤلاء المعتقلين يفارقون الحياة بطرق شغلت الرأي العام في السنوات الأخيرة، وسط تحفُّظ شديد من السلطات القضائية والأمنية على ملفاتهم وتقارير موتهم، و”الجرائم الصامتة” التي يتعرض لها السجناء.
“الخليج أونلاين” أجرى عملية بحث عميقة حول أبرز أسباب الوفيات داخل السجون المصرية والطرق التي تستخدمها السلطات الحكومية في “قتل المعتقلين” أو التخلص منهم، بحسب ما تذكره تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية وبيانات جماعة الإخوان المسلمين، والناشطون في المجالات الحقوقية والإنسانية والمدنية.
السجون المصرية
يقول حزب “الحرية والعدالة”، الذراع السياسية لجماعة الإخوان: إن “منع العلاج عن المعتقلين السياسيين جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار”، مشيراً إلى أن “إدراة السجون المصرية تسلب المعتقلين أبسط أنواع الحقوق”.
في هذا السياق، دعت منظمات حقوقية دولية إلى إجراء تحقيق دولي فيما أطلقت عليها “جرائم ضد الإنسانية” وعمليات التعذيب داخل سجون النظام المصري.
وأكد تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، نشرته في 27 سبتمبر 2016، أنه “بين عزل مرسي 31 يونيو 2013 حتى بداية 2015، اعتقلت السلطات المصرية 68 ألف شخص، على أقل تقدير”، واستند تقرير المنظمة التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، إلى 23 مقابلة مع أقارب سجناء ومحامين وسجين سابق وباحثين حقوقيين، وأيضاً اعترافات حكومية.
وأكد تقرير آخر للمنظمة نفسها أن نظام السيسي شيَّد وخطط لبناء 19 سجناً جديداً، لاستيعاب أكثر من 60 ألف معتقل من المعارضين لحكمه. ونقلت المنظمة الدولية عن إبراهيم عبد الغفار، مأمور سابق لأحد السجون، قوله: “صُممت بحيث إن من يدخلها لا يخرج منها حياً.. صمموها للمعتقلين السياسيين.. إنها حياة القبور”.
وفي فبراير 2019، قرر وزير الداخلية المصري، اللواء محمود توفيق، إنشاء سجن مركزي جديد تحت اسم “السجن المركزي للمنطقة المركزية بأسيوط”، في محافظة أسيوط الواقعة بصعيد مصر جنوبي العاصمة القاهرة.
ويعد هذا القرار رقم 22 ضمن قرارات إنشاء السجون الجديدة، التي تمت في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومنذ الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3 يوليو 2013.
وحسب تقارير صادرة عن منظمات حقوقية مصرية، فقد صدرت خلال الفترة من يوليو 2013 وحتى يوليو 2017، قرارات قضت بإنشاء 21 سجناً جديداً، ليصل عدد السجون في البلاد إلى 66 سجناً، بحسب “الجزيرة.نت”.
يأتي التوسع في إنشاء السجون، في ظل تصاعُد إدانات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وارتفاع عدد السجناء السياسيين، وتواتر شهادات الضحايا حول التعذيب داخل السجون، فضلاً عن تكدُّس المساجين داخل أقسام الشرطة، في حين تقول الحكومة المصرية إن هذه الأرقام مبالَغ فيها، وإن مصر ليس بها معتقلون، بل سجناء بأحكام قضائية أو ضمن قضايا منظورة.
ومنذ العام 2013، تتهم عديد من المنظمات الحقوقية العالمية القضاء المصري والقوات الأمنية بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، منها القتل العمد وممارسة التعذيب ضد المعتقلين والتصفيات الجسدية ضد المناوئين والمعارضين لحكومة السيسي، بطرق تُخفي أياً من معالم الجريمة.
ومن الطرق التي اعتمدها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي لتصفية رموز المعارضة، خصوصاً قيادات جماعة الإخوان المسلمين”، وسيلة “الإهمال الطبي أو الصحي”، و”دس السُّم” في الطعام أو منع العلاجات الضرورية، وبعد ذلك يبقى السجين من دون رعاية صحية إلى أن يلقى حتفه، من دون إطلاع أسرة المتوفى على التقارير الطبية التي يمكن من خلالها معرفة أسباب الإصابة أو المرض أو تلقي العلاج داخل المستشفيات الحكومية، بأوامر تصدرها قوات الأمن والمخابرات.
منظمة “هيومن رايتس ووتش” لحقوق الإنسان أصدرت تقريراً تحت عنوان: “مصر.. موجة من الوفيات داخل السجون”، قالت فيه إنها سجلت وفاة 95 معتقلاً في زنازين أقسام الشرطة في العام 2014 فقط بزيادة 40% عن العام 2013، وأكدت أن المعتقلين يتعرضون للضرب حتى الموت داخل السجون، بخلاف حالات وفاة أخرى لمعتقلين مصابين بأمراض منها القلب والسرطان، ورُفض علاجهم، وسط تردي الخدمات الصحية داخل السجون.
مرسي.. الرئيس الراحل
محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطياً في تاريخ مصر، طالب بالكشف الطبي عشرات المرات في محبسه، وأكد تعرضه لمحاولات اغتيال؛ منها دس “السُّم في الطعام”، ومنعه من تلقي العلاج من قبل إدراة السجن، وعدم مراعاة حالته الصحية طوال مدة سجنه التي امتدت لـ6 سنوات، إلى أن تدهورت حالة الصحية بشكل سريع ودخل غيبوبة أثناء المحاكمة في القاهرة، ليفارق الحياة يوم 17 يونيو 2019.
وأكدت منظمة “كوميتي فور جستس” الحقوقية (مصرية)، يوم 18 يونيو 2019، أن معاناة مرسي من مرض السكري المزمن، وظروف الاحتجاز السيئة، والحرمان من العلاج، أدت إلى مضاعفات خطيرة؛ منها ضعف البصر الشديد، وبثور في الفم والأسنان، وتكرار تعرضه لغيبوبة نقص السكر في الدم، بالإضافة إلى إصابته بالتهابات روماتيزمية حادة في العمود الفقري وفقرات الرقبة نتيجة إجباره على النوم على الأرض.
الإهمال الطبي والإخفاء القسري
انضم محمد مهدي عاكف، المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين بمصر، إلى قائمة المتوفين داخل السجون المصرية، عام 2017، ولم يشفع له وضعه الصحي الصعب، ولم تفلح مناشدات منظمات حقوقية وناشطين ومطالب أفراد أسرته بالإفراج عنه قبل وفاته.
عاكف، البالغ من العمر 89 عاماً، وكان يعاني من الإصابة بانسداد في القنوات المرارية (الصفراوية) ومرض السرطان، تُوفّي الجمعة 22 سبتمبر 2017، في مستشفى القصر العيني الحكومي، في حين اتهمت جماعة الإخوان السلطات المصرية بقتل عاكف عمداً من خلال “الإهمال الطبي المتعمّد”.
وسبق عاكف بالوفاة داخل السجون ومراكز الاحتجاز عضو مكتب الإرشاد في الجماعة، عبد العظيم الشرقاوي (67 عاماً)، الذي تُوفّي في أغسطس من العام نفسه، بعد احتجازه 6 أيام داخل قسم العناية المركزة في مستشفى تابع لسجن بني سويف، بعدما عاش فترة طويلة في سجن انفرادي شديد الحراسة، بحسب ما ذكر موقع “إخوان الدقهلية”، في 23 سبتمبر 2017.
جماعة الإخوان أحصت في تقارير موثّقة أكثر من 900 حالة إهمال طبي متعمّد داخل سجون النظام المصري، نتج عنها وفاة 150 سجيناً في أقل من 4 سنوات من حكم السيسي، مؤكدة توثيق هذه الحالات لدى المنظمات الحقوقية الدولية، منها “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية.
وحمّلت الجماعة النظام المصري، برئاسة عبد الفتاح السيسي، بكل رموزه المسؤولية الجنائية عن وفاة الشرقاوي، وقالت إن وفاة الشرقاوي “تُضاف إلى سجلّ السلطات المصرية الأسود في القتل البطيء بالإهمال الطبي”.
وسائل النظام المصري للتخلص من أعضاء الإخوان المعتقلين ليست عن طريق الإهمال الطبي فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى الإخفاء القسري، وتؤكد الجماعة أن المنظمات الحقوقية وثقت أكثر من 5500 حالة إخفاء قسري، تمت تصفية 500 منهم بـ”القتل الممنهج خارج القانون”؛ من بينهم محمد كمال، عضو مكتب الإرشاد، والنائب ناصر الحافي، وهشام خفاجي.
السرطان والموت البطيء
ومن أبرز قيادات الإخوان الذين تُوفّوا داخل السجون المصرية منذ الإطاحة بحكم الرئيس المعزول، محمد مرسي، في 3 يوليو 2013، القيادي في حزب “الحرية والعدالة” وأستاذ الطب بجامعة عين شمس، طارق الغندور.
وتوفي الغندور، مدير المستشفى الميداني في رابعة وميدان التحرير، في نوفمبر 2014، بعد تعرّضه لنزيف حادٍّ استمر 8 ساعات داخل سجنه “دون اهتمام”، حسب تأكيد شقيقه أسعد الغندور، في لقاء بُث على وسائل الإعلام. وقال أسعد: إن “شقيقي ظل ينزف 8 ساعات مكبّل اليدين، وزاره الطبيب مع طلوع الشمس، بعد أن كان قد تُوفّي إكلينيكياً (موت سريري)”، وانخفض الهيموجلوبين من 11 إلى 3.5، بحسب التقارير الطبية.
وفي طابور المتوفّين داخل السجون المصرية يأتي دور القيادي البارز في الجماعة، فريد إسماعيل (57 عاماً)، الذي وافته المنية داخل مستشفى سجن العقرب بمنطقة سجون طرة، في 13 مايو 2015، بعدما أصيب بمضاعفات مرض السكري و”فيروس سي”، وحجزه انفرادياً لعدة أشهر، ومنع الدواء عنه، ما تسبب في دخوله غيبوبة كبدية ونزيف وجلطة بالمخ فارق على أثرها الحياة.
بعدها بأيام قليلة لحقه النائب الإخواني وعضو مجلس الشعب المصري السابق، محمد الفلاحجي (58 عاماً)، متأثراً بغيبوبة كبدية داخل سجن جمصة بالدقهلية، في 25 مايو 2015.
وقالت أسرة الفلاحجي، الذي اعتقل يوم 26 أغسطس 2013، من مقر عمله بمديرية التربية والتعليم في دمياط، إن إدارة السجن تركته في غيبوبة كبدية ولم تقدم له المساعدة الطبية المطلوبة لحالته حتى لقي مصرعه.
وسبق أولئك وفاة القياديين في الجماعة؛ صفوت خليل داخل سجن المنصورة بعد إصابته بمرض السرطان، وأبو بكر القاضي (46 عاماً)، الذي توفي أيضاً في نفس المرض داخل سجن قنا، ومنعتهما السلطات الحكومية من تلقي العلاج، كما رفضت الداخلية الإفراج الصحي عنهما قبل الوفاة.
وتوفي داخل سجن العقرب شديد الحراسة بمجمع طرة نبيل المغربي، القيادي بالجماعة، ورفضت السلطات إمداد العائلة بأي تقارير طبية، ومنها نتائج تشريح جثمان المغربي.
وبحسب تقرير “هيومن رايتس ووتش”، حذرت السلطات الأمنية أقرباء وأسرة الضحية من تقديم الشكوى على أي أحد منهم جراء “الإهمال الطبي ونقص الرعاية”، قبل أن تأذن لهم بالحصول على تصريح الدفن.
وبعد شهرين من وفاة المغربي توفي أيضاً مرجان سالم، أحد القياديين بالجماعة الإسلامية. كما توفي القيادي بالجماعة الإسلامية أيضاً عزت السلاموني، داخل إحدى الزنازين، في 1 أغسطس 2015، وفي اليوم نفسه توفي أحمد غزلان، عضو جماعة الإخوان المسلمين، لكن بسجن الأبعادية بدمنهور. كما توفي أيضاً عصام دربالة، رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، في ظروف غامضة داخل السجن.
كما توفي محمود عبد الرحمن المهدي (51 عاماً)، في ظروف غامضة داخل سجن مستشفى عتاقة بالسويس، بعد احتجازه لأشهر في زنزانة سجن مكتظة، ومعاناته من نوبات قلبية أدت إلى مفارقته الحياة. كما توفي عبد الرحمن الرزاحي، القيادي بجماعة الإخوان من محافظة أسيوط، في أكتوبر 2013، في سجن طرة، بعدما رفضت إدارة السجن السماح بعرضه على طبيب، بحسب شهادة زوجته.
ومسلسل تصفية رموز وأعضاء الإخوان المسلمين داخل السجون المصرية شمل القيادي البارز بالجماعة محمد العصار، وحمّلت الجماعة السلطات المصرية مسؤولية “قتل عضو مجلس شورى الجماعة جراء الإهمال الطبي المتعمد، داخل محبسه بسجن برج العرب”.
واعتقل العصار، في نوفمبر 2013، بعد أشهر قليلة من الإطاحة بمرسي، حيث تعتبر الجماعة العصار من أبرز رموزها في المجال الفكري والدعوي.
وتوفي القيادي في جماعة الإخوان عماد حسن بسبب الإهمال الصحي، حيث منعته السلطات من تلقي العلاج رغم علمها بإصابته بمرض السرطان لأكثر من 6 أشهر، ولم تخبر عائلته حتى لقي حتفه، كما رفض الأمن المصري تسليم السجلات الطبية لأسرته، بحسب ما أكدت زوجته لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”. كما توفي محمد السعيد، ورمضان جمعة، إثر إصابتهما بمرض السرطان داخل السجن العقرب، بحسب المنظمة نفسها.
اضف تعليقا