العدسة – منذر العلي

لا سلام مع إسرائيل.. لا تطبيع.. لا تفاوض، لاءات ثلاث خرجت بها القمة العربية من العاصمة السودانية الخرطوم، عقب أشهر من نكسة 1967، التي احتلت فيها إسرائيل مناطق واسعة من العالم العربي.

منذ ذلك الحين، اشتهرت الخرطوم بعاصمة اللاءات الثلاث، وظلت حتى الآن من الدول القليلة في العالم العربي التي لا تقيم علاقات مع الاحتلال.

لكن كما تغير الوضع في السعودية الجديدة بقيادة الأمير محمد بن سلمان، قلب العالم الإسلامي وقاطرة مقاطعة الاحتلال، فإنه في طريقه للتغير في السودان أيضًا.

ويبدو أن ما يفخر به بعض السودانيين، من أنهم يمتلكون جواز السفر الوحيد في العالم المكتوب عليه دخول كل الدول ما عدا إسرائيل، في طريقه إلى الزوال.

ترويج بطعم الدين!

الداعية السوداني المثير للجدل “صلاح عوض”، كان نجم الحلقة الأحدث من حلقات الترويج الشعبي والرسمي لمسألة التطبيع مع إسرائيل، وجس نبض السودانيين تجاهه.

ففي إحدى حلقات برنامج “آفاق مفتوحة” الذي تذيعه قناة “سودانية 24” واسعة الانتشار، في 17 نوفمبر الجاري، دعا “عوض” إلى حتمية الاتجاه في التطبيع مع الاحتلال، مشيرًا إلى أن الأصل في العلاقات مع الآخر هو السلم وليس العداء والحرب.

الداعية البارز، وعميد كلية أصول الدين بجامعة أم درمان سابقًا، قال: إن التطبيع مع إسرائيل فقه ضرورة وسياسة شرعية، من أجل مواجهة العنف والإرهاب والتطرف الذي تنتهجه الجماعات المسلحة المنتسبة إلى الإسلام.

” صلاح عوض “

وكأنه يمهد للتطبيع الرسمي بصبغة شرعية، تابع “عوض”: “لا تستطيع القول بأن التطبيع مع إسرائيل قضية عقدية على الإطلاق، لكنها سياسة شرعية.. إذا الحاكم توفر له معلومات أن التطبيع ممكن يحل مشاكل، ليه ما يطبع معها؟”.

واجتهد في سياق المبررات المنطقية التي تدفع بإمكانية التطبيع، مشيرًا إلى أن إسرائيل وراءها البنك الدولي، وصندوق النقد، وأمريكا وأنظمة عربية، في حين يعاني السودان من أزمات اقتصادية خانقة، وبطالة وحصار يمتد لنحو 20 عامًا.

خطوات رسمية “على استحياء”

وعلى الرغم من كون هذه الخطوة “الدينية” لا تتمتع بغطاء رسمي، إلا أن ثمة توجهات رسمية أخرى سبقتها على استحياء.

وزير الاستثمار “مبارك الفاضل المهدي”، تصدر مشهد البطولة في هذا المشهد، حيث أطلق تصريحًا حول تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، في أغسطس الماضي، أحدث موجة من الجدل في الأوساط السودانية.

تصريحات الوزير قوبلت باستنكار شديد وصفه بـ”وزير التطبيع”، وسط مطالب متسعة لإقالته من منصبه، فيما أثيرت التساؤلات حول دور نظام الرئيس عمر البشير في الترويج لمثل هذه الدعوات.

” مبارك الفاضل المهدي “

رد الفعل الحكومي لم يفلح ربما في تجميل مظهر النظام، عبر تصريح أدلى به وزير الإعلام أحمد بلال، يتبرأ فيه من تصريحات المهدي، ويصفها بالموقف الشخصي، ويؤكد تمسك بلاده بموقفها التاريخي بعدم التطبيع مع إسرائيل.

اللافت، أن الرجل الذي وجه اتهامات لاذعة للقضية الفلسطينية مبديًا ترحيبه بالتطبيع مع الاحتلال، هو سليل عائلة المهدي السودانية المناضلة ضد الاحتلال.

تصريحات الوزير فتحت شهية الاحتلال فتلقفها بالترحيب، إلى الحد الذي دفع وزير الاتصالات الإسرائيلي “أيوب قرا”، لدعوة وزير الاستثمار السوداني إلى زيارة إسرائيل من أجل “الترويج للسلام”.

صحيفة “هآرتس” العبرية احتفت بهذه التصريحات، ووصفتها بأنها غير اعتيادية، بالنسبة لوزير رفيع في الحكومة السودانية، التي لا تعترف بإسرائيل ولا تقيم معها علاقات دبلوماسية.

أيوب قرا و “مبارك الفاضل المهدي”

هذه التصريحات الودية المتبادلة يبدو أنها تناست عدة وقائع كانت كفيلة بإشعال آتون الحرب بين السودان وإسرائيل، ففي الفترة بين 2008- 2014 قصف الاحتلال أكثر من مرة أهدافًا داخل الأراضي السودانية، بحجة تهريب حكومة الخرطوم أسلحة إيرانية إلى حركة حماس في غزة، مرورًا بسيناء.

إلا أن الاعتداء الأضخم وقع عندما قصف سلاح الجو الإسرائيلي مصنع اليرموك الحربي بالخرطوم، في أكتوبر 2012.

علشان خاطر أمريكا

المثير أن تزايد الحديث في الآونة الأخيرة عن قضية التطبيع مع إسرائيل، يأتي بعد أقل من شهرين على القرار الأمريكي برفع بعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم منذ 20 عامًا.

واشنطن عللت قرارها بإحراز الخرطوم تقدمًا في محاربة الإرهاب، وتسجيل تحسن في أوضاع حقوق الإنسان.

فهل يمكن اعتبار الخطوات السودانية المتقاربة مع إسرائيل بمثابة رد الجميل لأمريكا الحليف التاريخي للاحتلال، أم فتح لصفحة جديدة مع واشنطن، قرر السودان أن يدخلها من باب إسرائيل؟ أم أن الأمرين منفصلان؟.

الجواب يحيلنا إلى الواقعة السابقة، الخاصة بتصريحات وزير الاستثمار السوداني، حيث جاءت بعد أيام من الدعوة التي تلقاها السودان من الولايات المتحدة الأمريكية لحضور تدريبات “النجم الساطع” العسكرية بين مصر وأمريكا، والتي جرت في أكتوبر الماضي.

الخطوة الأولى من نوعها منذ نحو ثلاثة عقود، يبدو أنه سيكون لها ما بعدها، بحسب تصريحات الفريق أول ركن عماد الدين مصطفى عدوي، رئيس الأركان المشتركة للجيش السوداني، في أعقاب لقائه بمسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية.

الفريق أول “ركن عماد الدين مصطفى العدوي”

“عدوي” قال إن “الزيارة فتحت الباب أمام مزيد من الحوار والالتقاء، لمناقشة العديد من القضايا التي يمكن أن تعيد علاقاتنا في مجال التعاون العسكري مع الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح”.

“مولد” التطبيع

ولعل الحديث عن توجه السودان للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، لا يستقيم بمعزل عن التطورات الإقليمية المتسارعة، التي تندفع فيها دولة مثل السعودية بما لها من ثقل سياسي وتاريخي وديني للتطبيع.

وبدا من خلال العديد من الشواهد والوقائع التي رصدها وحللها (العدسة)، أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي، بخطوات سرية وأخرى علنية تتبرأ منها دائمًا.

ولعل عمليات جس النبض اشتدت للغاية خلال الفترة القصيرة الماضية، على نحو تتحين معه السعودية الجديدة، عندما يصل ولي العهد “محمد بن سلمان” إلى العرش رسميًّا، الفرصة لإعلان جريء بتطبيع يساير خطوات أخرى صدمت المجتمع السعودي المحافظ، مثل السماح بالاختلاط وقيادة المرأة، وغيرهما.