العدسة – منصور عطية

جبال متراكمة من الأزمات باتت تعكّر صفو العلاقات التاريخية بين شقيقي وادي النيل العربيين؛ مصر والسودان، ورغم امتداد بعضها لسنوات وعقود سابقة، إلا أن تجلياتها وتطوراتها خلال أشهر وأسابيع ماضية فقط أكثر من أن يتم استيعابها.

وفي خِضمّ هذا الوضع المتأزم يأتي اللقاء المرتقب، اليوم الاثنين، بين الرئيسين عبدالفتاح السيسي وعمر البشير، على نحو يعوّل فيه كثيرون على أن يشكل هذا اللقاء إمّا دفعًا للعلاقات إلى الأمام أو تعقيدًا للأزمات الحاضرة.

كل الملفات مطروحة

رئاسة الجمهورية في مصر لم تخفِ حقيقة الأزمة، وقالت عبر متحدثها الرسمي السفير بسام راضي: إن زيارة البشير للقاهرة “تأتي في وقت دقيق”، موضحًا أن “جميع الملفات مطروحة للنقاش خلال اللقاء”.

وفي تصريحات متلفزة، أكد أن الزيارة تعد امتدادًا للقمة التي جمعت الرئيسين في 28 يناير الماضي، على هامش القمة الإفريقية في أديس أبابا، والتي شهدت تصريحا لافتا للسيسي، مشيرا فيه إلى أنه “لا توجد أزمات بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا فيما يخص ملف سد النهضة”.

اللافت أن اللقاء يأتي بعد أيام من عودة السفير السوداني لدى مصر “عبدالمحمود عبدالحليم” إلى القاهرة بعد شهرين من استدعائه للتشاور.

المتحدث باسم الخارجية السودانية “قريب الله خضر” لم يخفِ الحديث عن جذور الأزمات بين البلدين والتأكيد أنها لا تزال عالقة دون حل، وقال في تصريحات صحفية: “عودة السفير لا تعني أن القضايا التي من أجلها تم استدعاؤه حُلَّت ولكن وضعت خريطة طريق لإيجاد حلول لها في الاجتماع الرباعي”.

وتابع أن “الاجتماع وضع أفكارًا للمعالجة لكن الأمر يعتمد على التنفيذ”، مشيرا إلى أن الخلافات تدور حول “ثلاث قضايا هي حلايب وسد النهضة الإثيوبي والإعلام”.

عودة السفير تعد إحدى ثمار الاجتماع الرباعي الذي ضم وزيري خارجية ومديري جهازي المخابرات في البلدين بالقاهرة فبراير الماضي.

هل يتجاوزان الخلافات؟

وعلى الرغم من أن التساؤل الأبرز فيما يخص سير مجريات اللقاء وما سيتم طرحه من قضايا وقدرته على إيجاد حلول للأزمات العالقة، إلا أن كثيرين يرون أن مجرد عقد القمة في هذا التوقيت يعد بادرة أمل على عزم متبادل بين قيادتي البلدين لتجاوز العقبات.

وعلى الرغم من أن كلا البلدين لم يعلنا الأسباب الحقيقية وراء استدعاء السفير، إلا أن تلك الخطوة جاءت بعد يوم واحد من نفي المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية صحة ما تردد من أنباء نقلتها صحف سودانية عن أن مصر طلبت استبعاد السودان من المفاوضات الخاصة حول سد النهضة الإثيوبي.

وكانت مصر أعلنت رسميًا في نوفمبر الماضي فشل مسار المفوضات الفنية بشأن سد النهضة، نتيجة رفض كل من السودان وإثيوبيا للتقرير الاستهلالي من المكتب الاستشاري الفرنسي الذي يقيم التأثيرات المحتملة على مصر نتيجة إنشاء السد، والتي تقول القاهرة إنه سيحرمها من حصتها التاريخية في مياه النيل.

وإلى جانب الخلاف حول السد، يقوم خلاف عميق بين البلدين حول السيادة على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي الواقع على البحر الأحمر والذي تسيطر عليه مصر منذ العام 1995، فيما تؤكد الحكومة السودانية أنه تابع لسيادتها منذ استقلالها في عام 1956.

وبينما يطالب السودان بالتفاوض أو التحكيم الأولي، تعقدت الأزمة في أعقاب عدم اعتراف الخرطوم باتفاقية ترسيم الحدود التي تنازلت بموجبها مصر عن جزيرتي تيران وصنافير في شمال البحر الأحمر للسعودية.

وفي الملف الإعلامي تشهد البلدان تراشقات يقودها الإعلام الحكومي تارة والخاص تارة أخرى بما يشكل إساءات بالغة لقادة وشعبي البلدين.

وبينما اتهم البشير القاهرة صراحة بدعم معارضين سودانيين بالسلاح، تتهم وسائل إعلام مصرية الخرطوم مرارًا بإيواء عناصر في جماعة الإخوان المسلمين التي تعتبرها القاهرة إرهابية منذ إطاحة الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013.

اللافت أن جميع تلك الأزمات ليست وليدة اللحظة بل قديمة ومتجذرة، إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت في قرار السودان تخصيص جزيرة سواكن في البحر الأحمر لتركيا من أجل تطويرها وإدارتها لمدة غير محددة، وهو ما اعتبرته القاهرة موجهًا ضدها بسبب التوتر مع أنقرة وقرب الجزيرة من مناطق نفوذ مصر على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.

تاريخ من المد والجزر

وفي مقابل تلك الأزمات، فإن ثمة تاريخا متجذرا من العلاقات بين البلدين، المؤسسة على روابط دينية وتاريخية وجغرافية وثقافية واجتماعية متينة، لكنه لا يخلو أيضا من المشاكل بين الأنظمة وليس الشعوب.

تشكل السودان بحدوده الحالية مع دخول الحملات الحربية التي أرسلها محمد علي باشا والي مصر للتوسع جنوبًا في إفريقيا، وقد استمرت تلك الحملات في انتصاراتها وضمها للممالك والقبائل المهزومة نحو نصف قرن، إلى أن اكتمل السودان الحديث في العام 1874 بعد أن تم إلحاق سلطنة دارفور به.

انفصلت الأراضي السودانية عن مصر من 1885 إلى 1898 عندما قامت الدولة المهدية في السودان، لكن سرعان ما انتهت هذه الدولة على أيدي القوات البريطانية التي دخلت السودان، وعادت السودان مرة أخرى إلى مصر ولكن بمشاركة بريطانيا التي كانت تحتل مصر وتدير أمورها حينذاك، وهو ما عُرف باتفاقية الحكم الثنائي 1899، والتي رفعت العلمين المصري والبريطاني معًا على الأراضي السودانية.

انفصل السودان تمامًا عن مصر بعد 4 سنوات من قيام نظام يوليو 1952، وطيلة الحقبة الناصرية شهدت العلاقات بين البلدين مدًا وجزرًا تبعًا لطبيعة النظام الحاكم في السودان؛ حيث ازدهرت في الحكم العسكري وتردت في فترة الديمقراطية الثانية، خاصة مع بطش نظام عبدالناصر بجماعة الإخوان المسلمين عام 1965.

شهدت العلاقات تحسنًا كبيرًا في فترة السادات– جعفر النميري، وعُقدت اتفاقية التكامل عام 1974، حيث تقاربت السودان مع واشنطن، وأعادت العلاقات معها بعد انقلاب هاشم العطا والحزب الشيوعي في 1971.

وتدهورت العلاقات المصرية السودانية في بداية عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى أن وصلت ذروتها عام 1995 مع محاولة اغتيال مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا واتهام القاهرة للخرطوم بالتورط في إيواء المتورطين بالهجوم، حتى تحسنت الأمور كثيرا بالتوقيع على اتفاقية الحريات الأربع عام 2004.

وتميزت العلاقات خلال فترة ما بعد ثورة 25 يناير 2011 بتقارب كبير، إلى درجة حرص المسؤولين وقتها على عدم إثارة أية قضايا خلافية بين البلدين، حتى أطيح بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013.

ورغم القمم القياسية بين السيسي والبشير (لقاء اليوم هو التاسع بينهما)، إلا أن هذا الود الظاهر يخفي وراءه كمًّا من الأزمات والملفات الخلافية على صعيد العلاقات الثنائية والإقليمية.