دخل عبدالفتاح السيسي على خط الأزمة التي تشهدها عدة دول أوروبية مع تركيا بسبب ما يسمى بمذابح الأرمن أو الإبادة الجماعية للأرمن، وذلك في سياق ما يمكن أن يندرج تحت باب المناكفة السياسية.

تزامنت كلمات السيسي مع توتر يشوب العلاقات وحرب كلامية بين تركيا وفرنسا للشأن ذاته.

وتطالب أرمينيا واللوبيات الأرمنية في أنحاء العالم بشكل عام، تركيا بالاعتراف بما جرى خلال عملية تهجير الأرمن من الأناضول في 24 أبريل عام 1915 إبان الخلافة العثمانية على أنه “إبادة عرقية”، وبالتالي دفع تعويضات.

وفي المقابل، ترفض أنقره إطلاق صفة “الإبادة العرقية” على الأحداث، وتصفها بـ”المأساة” لكلا الطرفين، وتصر على أن ما حدث هو حرب أهلية قتل فيها ما بين 300 ألف و500 ألف أرميني، ومثلهم من المسلمين.

وحاليا تعترف نحو 20 دولة، من بينها فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، و42 ولاية أمريكية رسميا بوقوع تلك المجازر كحدث تاريخي.

السيسي على الخط

وخلال كلمته في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي انعقد في ألمانيا قبل أيام، قال السيسي إن مصر “استضافت منذ 100 سنة الأرمن، بعد المذابح التي تعرضوا لها ووجدوا الأمن والسلام والاستقرار لدينا”.

لم يفت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الفرصة وقال إن هناك دعاية مغرضة تُروج تحت مسمى “إبادة الأرمن”، وخاصة في الغرب، مؤكدا عدم مشاركة الشعب التركي طوال تاريخه في أي إبادة جماعية ضد أي مكون عرقي على الإطلاق.

وأشار إلى أن تركيا تستضيف حاليا عشرات الآلاف من مواطني أرمينيا الذين قصدوها لكسب العيش، ولم تعمد لترحيل أحد منهم.

تصريحات أردوغان تأتي في خضم حرب كلامية أعقبت إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فبراير الجاري أن بلاده ستحيي يوما وطنيا لذكرى الإبادة الأرمنية، ليفي بذلك بوعد أطلقه خلال حملته الانتخابية بإدراج الإبادة الأرمنية ضمن جدول الفعاليات الرسمي الفرنسي.

ردا عليه، قال أردوغان: “لقد قلت لماكرون أنت ما زلت مبتدئا في السياسة، تعلم أولا تاريخ بلدك”، مشيرا إلى الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي لدول عربية وأفريقية.

وتدعو أنقره إلى حل القضية عبر منظور “الذاكرة العادلة”، ما يعني التخلي عن النظرة أحادية الجانب إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الطرف الآخر، والاحترام المتبادل لذاكرة الماضي لدى كل طرف.

وتقترح تركيا إجراء أبحاث حول “أحداث 1915” في أرشيفات الدول الأخرى، إضافة إلى الأرشيفات التركية والأرمينية، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراك وأرمن، وخبراء دوليين.

ولكن ماذا عن علاقة الأرمن بمصر، وحقيقة ما صرح به السيسي من استقبالها للفارين من جحيم العثمانيين؟.

الأرمن في مصر

بدأت الهجرة الأرمنية إلى مصر بشكل محدود في القرن السابع الميلادي، إذ هاجر أرمن مسلمون إلى مصر قبل هجرات الأرمن المسيحيين أوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وبرز بعض رجالهم كمسؤولين حكوميين منذ ذلك الوقت المبكر.

وفي عهد الحكم الفاطمي لمصر ازدادت أعداد الأرمن المسلمين بشكل واضح وشهدت الخلافة الفاطمية حكم وزراء من أصل أرمني، مثل الوزير بدر الجمالي قائد الجيوش وباني سور القاهرة ومجدد الحكم الفاطمي فيها وابنه الأفضل شاهنشاه.

وفي القرنين الثالث عشر والرابع عشر أُسر العديد من الأرمن أثناء فتح مملكة كيليكيا التي كانت متحالفة مع الحملات الصليبية وأصبحوا مماليك مصريين من أصول أرمنية وعملوا في الجيش والقصر، وفق تقارير إعلامية.

وفي عهد محمد علي باشا (1805-1849) توافدت تيارات هجرة أرمنية إلى مصر، إذ قربهم محمد علي ووظفهم في مناصب حكومية وبنى لهم كنائس أرمنية للأرمن الأرثوذكس والأرمن الكاثوليك، ولاحقا أصبح نوبار باشا ذو الأصل الأرمني أول رئيس وزراء في مصر الحديثة.

ابتداء من القرن التاسع عشر، أصبحت مصر أحد مراكز الحياة السياسية والثقافية الأرمنية وبرز العديد من الشخصيات الأرمنية على الساحة المصرية وتأسس الاتحاد العام الأرمني الخيري في القاهرة عام 1906 وإنتاج أول فيلم أرمني يحمل موضوعا أرمينيا في عام 1912 في القاهرة من قبل الناشر الأرمني المصري فاهان زارتاريان.

في العقد الثاني من القرن العشرين زادت الهجرات الأرمنية إلى مصر بالفعل، وبلغت ذروتها في بيانات التعداد السكاني لعام 1927 حيث بلغ عددهم 17188 نسمة تركز معظمهم في القاهرة والإسكندرية.

وعمل الأرمنيون حرفيين وإداريين وتجارا ومقدمي خدمات، وكانت أوضاع الأرمن في مصر أكثر ازدهارا مقارنة بدول الشرق الأوسط الأخرى، وعندما فتحت أبواب العودة إلى أرمينيا في عهد الاتحاد السوفياتي بين 1946 و 1948 هاجر نحو 4000 مصري فقط.

بعد حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 هاجر العديد من الأرمن إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وليس إلى أرمينيا، وتصاعدت هجرة الأرمن المصريين خاصة في الأعوام بعد 1956 ومع إدخال ما يسمى “القوانين الاشتراكية” في مصر وتأميم العديد من القطاعات الاقتصادية في ظل نظام جمال عبدالناصر.

وذكرت شهادات العديد من المهاجرين إلى أنهم تعرضوا للتهديد بسبب السياسات الجديدة لنظام عبد الناصر والعديد منهم غادروا مصر وهاجروا إلى الغرب، ومنذ عام 1956 انخفض العدد الإجمالي للمصريين الأرمن، ولا تتوفر أرقام دقيقة عن عدد الأشخاص المتبقين والأشخاص الذين لا يزالون موجودين.

من الضحية؟

بحسب الرواية الغربية، فإن السلطنة العثمانية المتداعية حينها (1915) ساقت الأقلية الأرمنية إلى مذابح جماعية بدعوى تهجيرهم إلى سوريا، وفي الطريق من الأناضول نصبت الكمائن ضد هؤلاء بغية الإبادة الجماعية بحقهم.

وبحسب وثائق تركية, تعاون الأرمن مع القوات الروسية بغية إنشاء دولة أرمنية مستقلة في منطقة الأناضول، وحاربوا ضد الدولة العثمانية، وعندما احتل الجيش الروسي شرقي الأناضول، لقي دعما كبيرا من هؤلاء المتطوعين الأرمن؛ العثمانيين والروس، كما انشق بعض الأرمن الذين كانوا يخدمون في صفوف القوات العثمانية، وانضموا إلى الجيش الروسي.

وبينما كانت الوحدات العسكرية الأرمنية، تعطل طرق إمدادات الجيش العثماني اللوجستية، وتعيق تقدمه، عمدت العصابات الأرمنية إلى ارتكاب مجازر ضد المدنيين في المناطق التي احتلوها، ومارست شتى أنواع الظلم بحق الأهالي، بحسب الوثائق.

وسعيا منها لوضع حد لتلك التطورات، حاولت الحكومة العثمانية، إقناع ممثلي الأرمن وقادة الرأي لديهم، إلا أنها لم تنجح في ذلك، ومع استمرار هجمات المتطرفين الأرمن، قررت الحكومة في 24 أبريل من عام 1915، إغلاق ما يعرف باللجان الثورية الأرمنية، واعتقال ونفي بعض الشخصيات الأرمنية البارزة.

وفي ظل تواصل الاعتداءات الأرمنية، وبرغم التدابير المتخذة، قررت السلطات العثمانية، في 27 مايو 1915م، تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب، والمتواطئين مع جيش الاحتلال الروسي، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل أراضي الدولة العثمانية.

ومع أن الحكومة العثمانية، خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجّرين، إلا أن عددا كبيرا من الأرمن فقد حياته خلال رحلة التهجير القسري بسبب ظروف الحرب، والقتال الداخلي، والمجموعات المحلية الساعية للانتقام، وقطاع الطرق، والجوع، والأوبئة.

وتؤكد الوثائق التاريخية التركية، عدم تعمد الحكومة وقوع تلك الأحداث المأساوية، بل على العكس، فقد لجأت إلى معاقبة المتورطين في انتهاكات ضد الأرمن أثناء تهجيرهم، وجرى إعدام المدانين بالضلوع في تلك المأساة الإنسانية، رغم عدم وضع الحرب أوزارها.

وعقب انسحاب روسيا من الحرب، جراء الثورة البلشفية عام 1917م، تُركت المنطقة للعصابات الأرمنية، التي حصلت على الأسلحة والعتاد الذي خلفه الجيش الروسي وراءه، واستخدمتها في احتلال العديد من التجمعات السكانية العثمانية.

في كتابه “الاحتكام إلى التاريخ“، كشف الباحث اللبناني “ماجد الدرويش”، عبر وثائق ومستندات ودراسات أجنبية براءة تركيا من دماء الأرمن، ويقول إن “شرارة هذه الأحداث بدأت في القرن التاسع عشر، عندما احتل الروس شمال منطقة الأناضول ودخل معهم أرمن، فسلم الروس الحكم المحلي للأرمن، وارتكبوا مجازر شنيعة بحق الأكراد والأتراك معا”.

ولفت إلى أن “هذه المجازر سبقتها مجازر أخرى بحق المسلمين في اليونان والقوقاز ومناطق أخرى، هاجر منها المسلمون عندما احتلها الجيش الروسي”.

على الجهة المقابلة، ورغم قلة المادة الموثقة لكشف زيف الادعاءات الغربية، إلا أن كتاب “مذابح الأرمن ضد الأتراك” يوفر مادة دسمة وشديدة الموثوقية لمن أراد الوصول إلى حقيقة ما جرى.

89 وثيقة اعتمد عليها الكاتب المتخصص في التاريخ العثماني، استطاعت إحصاء أكثر من نصف مليون ضحية من المسلمين المدنيين وليس العسكريين على يد العصابات الأرمنية المدعومة من روسيا.