حرب السلطة على المجتمع المدني لم تخلف ضحايا من المنظمات الحقوقية فحسب، بل خنقت العمل الأهلي الخيري ليدفع ملايين الفقراء الثمن غاليًا.

“الجمعيات الأهلية شريك مهم في مسيرة التنمية”.. هكذا قال السيسي خلال وجوده في نيويورك سبتمبر الماضي للمشاركة في اجتماعات الدورة الـ72 للأمم المتحدة، لكن يبدو أنها تصريحات “فض مجالس”.

فعلى الرغم من أن المجتمع المدني، وهو التوصيف الذي يشمل الجمعيات الأهلية ومنظمات حقوق الإنسان، في أي دولة بالعالم يمثل ركيزة أساسية في استقراره فإن الوضع يختلف في مصر كثيرًا.

السيسي الذي نطق بالكلمات السابق ذكرها، يترأس نظامًا اتفق غالبية الحقوقيين على أنه “أمّم” المجتمع المدني، وحارب الجمعيات الأهلية بوسائل مختلفة، وعادى المنظمات الحقوقية، منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013.

السيسي فى الأمم المتحدة

قانون “تأميم” المجتمع المدني

ولعل قانون الجمعيات الأهلية الذي أصدره السيسي في مايو الماضي، يعد الحلقة الأبرز في طريق الحرب التي يشنها النظام، ليس على منظمات حقوق الإنسان التي ساهمت في كشف فساد نظام حسني مبارك وما تلا ثورة 25 يناير فحسب، بل تعداه إلى جمعيات خيرية كانت عونًا وملاذا لكثير من الفقراء.

يتكون القانون من 89 مادة تحدد آليات عمل وسبل تمويل الجمعيات الأهلية، وكذلك العقوبات ضد من يتجاوز هذا القانون سواء في النشاط أو في تلقي التمويلات من الخارج.

مجلس الشعب المصري

ورغم أن الدستور الحالي ينص في مادته رقم 76 على حق المواطنين “في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار وتمارس نشاطها بحرية ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شؤونها”، فإن القانون يفرِّغ هذه المادة من مضمونها.

حيث يفرض قيودًا مشدَّدة سواء من حيث إجراءات التأسيس أو طريقة ونوع الأنشطة التي تمارسها هذه المنظمات، أو التمويل وغيرها، بما يضعها من الناحية الفعلية تحت سيطرة الأجهزة الأمنية والحكومية.

وتنص المادة 21 من القانون على أنه “لا يجوز للجمعية فتح مقرات أو مكاتب تابعة لها في محافظات الجمهورية إلا بعد موافقة كتابية مسبقة من الوزير المختص، بينما تشترط المادة 23 لجمع التبرعات للجمعيات الأهلية، ضرورة إخطار الجهة الإدارية المنوطة، وهي وزارة التضامن الاجتماعي قبل تلقي التبرعات أو جمعها داخل مصر بثلاثين يومًا، وصدور الموافقة اللازمة لذلك، ولا يجوز صرف الأموال إلا بعد صدور الموافقة.

كما يتضمن القانون عقوبات مشددة تصل للحبس لمدة 5 سنوات وغرامة مالية تصل إلى مليون جنيه بحق من يقوم بجمع تبرعات بدون تصريح مسبق، كما يعاقب بالحبس والغرامة ذاتها كل من عاون أو شارك منظمة أجنبية في ممارسة نشاط أهلي في مصر بدون تصريح، أو من شارك في إجراء استطلاع رأي أو بحوث ميدانية في مجال العمل الأهلي دون موافقة مسبقة.

القانون يحظر على الجمعيات الأهلية، العمل في الأنشطة التي تدخل في نطاق عمل الأحزاب أو النقابات المهنية أو العمالية، أو أي نشاط ذي طابع سياسي، وكذلك الأنشطة التي ترى السلطة أنها قد تؤدي إلى “الإخلال بالوحدة الوطنية أو الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة”.

سياسيون وحقوقيون أعلنوا رفضهم للقانون واعتبروا، في بيان مشترك، أن مواده تمثل عودة صريحة لقانون الجمعيات الأهلية رقم 32 لسنة 1964 والذي أطلق عليه قانون تأميم العمل الأهلي.

كما حظي القانون بانتقادات دولية لاذعة، حكومية وأخرى من منظمات عالمية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية.

“سيف” التمويل الأجنبي

وعلى الرغم من صدور أحكام أغلبها غيابية بالسجن في القضية رقم 173 لسنة 2011، بتاريخ 4 يونيو 2011، بحق 43 متهمًا إلا أنها فُتحت من جديد ولم تغلق إلى الآن، لتظل سيفًا مصلتا على رقاب النشطاء الحقوقيين.

وفوجئ الرأي العام قبل الأحكام بنحو عام، وتحديدًا أول مارس 2012، بفضيحة هزت مصر حينها بسفر المتهمين الأجانب من مطار القاهرة، على متن طائرة أمريكية خاصة، وهو ما قال عنه المستشار عبد المعز إبراهيم (قاضي التحقيق في القضية حينها) إنه إجراء “يتوافق مع الدستور”.

المنع من السفر والتحفظ على الأموال، وسيلتا السلطة في استخدام القضية عبر قرارات تُنسب إلى قاضي التحقيق، شملت خلال العامين الماضيين فقط العديد من الحقوقيين والمنظمات.

عايدة سيف الدولة

 

نجاد البرعي

 

عزة سليمان

ومن أبرز من صدرت ضدهم أحكام قضائية بالتحفظ على أموالهم ومنعم من التصرف فيها:

– حسام بهجت مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومديرها السابق.

– جمال عيد مؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومديرها.

– بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

– مصطفى الحسن مدير مركز هشام مبارك للقانون.

– عبدالحفيظ طايل مدير المركز المصري للحق في التعليم، وكذلك أموال المراكز الثلاثة الأخيرة.

– مزن حسن مديرة مركز “نظرة” للدراسات النسوية.

– محمد زارع رئيس المنظمة العربية للإصلاح الجنائي.

– أحمد سميح مدير مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف.

– مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب.

أما قرارات المنع من السفر التي فوجئ كثيرون بها قبيل استقلالهم للطائرة، فقد نالت القائمة السابقة، بالإضافة إلى كل من:

– نجاد البرعي رئيس المجموعة المتحدة للاستشارات القانونية.

– ناصر أمين عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان.

– عايدة سيف الدولة الناشطة بمركز النديم.

– عزة سليمان مديرة مركز قضايا المرأة.

– أحمد راغب مدير الجماعة الوطنية لحقوق الإنسان.

– مالك عدلي الناشط الحقوقي.

– مجدي عبدالحميد رئيس الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية.

المغضوب عليهم..

تلك الحرب الشعواء نالت نيرانها نحو 25 منظمة حقوقية، لا تزال أوراقها لدى قضاة التحقيق في قضية التمويل الأجنبي، بحسب مصادر قضائية، غالبية هذه المنظمات التي يمكن تسميتها بالمغضوب عليها، توقف تمامًا عن العمل.

تضم القائمة التي فصّلت تقارير إعلامية، بدت غير موثقة، تفاصيل ما حصلت عليه من مبالغ مالية كتمويل من قبل منظمات أجنبية، وصفتها بالمشبوهة 16 منظمة ومركزا وجمعية، وهي:

المعهد المصري الديمقراطي ومديره التنفيذي باسم سمير، الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية، مؤسسة سهم الثقة للتنمية بالإسماعيلية، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، جمعية التنمية الإنسانية بالمنصورة، الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، المجموعة المتحدة للاستشارات القانونية، مركز دعم التنية والتأهيل المؤسسي، مركز هشام مبارك للقانون، المكتب العربي للقانون، المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، مركز موارد التنمية، مركز دار المستقبل للاستشارات القانونية ودراسات حقوق الإنسان، ومؤسسة عالم واحد للتنمية ورعاية المجتمع المدني.

التقارير ذاتها أشارت إلى أبرز 6 منظمات وجهات دولية مانحة دأبت خلال السنوات السابقة على تقديم التمويلات المالية اللازمة للمنظمات المصرية، وهي: فريدوم هاوس الأمريكية، الوقفية الأمريكية الديمقراطية (NED)، المؤسسة الأمريكية الدولية لأنظمة الانتخابات، الاتحاد الأوروبي، منظمة المجتمع المفتوح، مبادرة الشراكة الأمريكية ا لشرق أوسطية.

المعهد المصري الديمقراطي

فريدوم هاوس الأمريكية

الناجون من المقصلة

لكن وسط الحرب لابد من ناجين، تمكنوا من الفرار إلى المناطق الهادئة دون أن يعترضهم أحد، وقدموا في سبيل ذلك ما يشبه القرابين بالتماهي مع المواقف الرسمية للدولة في مختلف القضايا الحقوقية والتسويق لها في الأوساط الدولية، وكان المقابل الحرية وعضوية بالمجلس الحكومي لحقوق الإنسان.

لكن الأمر لا يمنع من بيان هنا أو تصريح هناك، من باب ذر الرماد في العيون ومحاولة الخروج من تلك الدائرة التي وضع “الناجي” نفسه فيها.

“حافظ أبو سعدة” رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، يظهر على رأس قائمة الناجين، والذي قابلت السلطة دفاعه المستميت عنها، وتبني مواقفها السياسية في المحافل الدولية، بحرية أتاحت له أن يكون مرشحًا لعضوية مجلس النواب، وكافأته بعضوية المجلس القومي لحقوق الإنسان.

“أبو سعدة” الذي انبرى في العمل الحقوقي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وكان من أوائل من دخلوا المجال، لاحقته مؤخرًا اتهامات من قبل الهيئة المستقلة لمراقبة الأمم المتحدة في جنيف، بالتورط في مشاركة الإمارات في تسييس أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

الهيئة التي طالبت بسحب الصفة الاستشارية من المنظمة، أوضحت أنها “سهّلت عمل جمعية محلية إماراتية سيئة السمعة تدعى الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان خلال جلسة مجلس حقوق الإنسان السادسة والثلاثين في سبتمبر الماضي”.

حافظ أبو سعدة

 

داليا زيادة 

وفي السياق ذاته يبرز اسم الناشطة الشابة “داليا زيادة” رئيسة المركز المصري لدراسات الديمقراطية الحرة، والتي تحولت بعد انفصالها عن مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية ومؤسسه سعد الدين إبراهيم، إلى نسخة حقوقية من أعتى الإعلاميين من مؤيدي السيسي ونظامه، وبالطبع كانت المكافأة عضويتها بالمجلس القومي لحقوق الإنسان.

كما تضم قائمة الناجين “علاء شلبي” أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان وعضو المجلس القومي.

والثلاثة السابقون مرشحون بقوة للاستمرار في التشكيل القادم للمجلس المنتظر إعلانه أكتوبر الجاري.

وتضم قائمة الناجين أيضًا “أيمن عقيل” رئيس مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، الذي نجح بفضل دعمه وتأييده المستمرين للسيسي، والدفاع عن مواقف النظام بل ومهاجمة زملائه السابقين من المغضوب عليهم، في النجاة من مقصلة التمويل الأجنبي.

وتبقى الحالة الفريدة للحقوقي ناصر أمين، الذي يأتي اسمه ضمن المتهمين في القضية ومُنع من السفر للخارج على ذمتها، رغم أنه احتفظ بعضويته في المجلس القومي بتشكيله المقرر عام 2013.

“تجميد” الجمعيات الأهلية

بعيدًا عن منظمات حقوق الإنسان التي يبدو أنها سببت صداعًا في رأس النظام، فسعى للتخلص منها، لم تسلم الجمعيات الأهلية الخيرية من آتون الحرب لكن تحت مبرر آخر وهو الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.

ففي ديسمبر 2013، قررت لجنة التحفظ على أموال الإخوان تجميد أموال 1055 جمعية أهلية بمختلف محافظات مصر، بدعوى انتمائها للإخوان.

القرار أحدث موجة من الغضب، خاصة أن الغالبية العظمى من تلك الجمعيات كان منوطا بها تقديم كافة أوجه الرعاية الطبية والاجتماعية والمادية والغذائية لملايين الفقراء في عموم البلاد، والذي تأثروا إلى حد كبير بهذا القرار.

“الفقراء يدفعون الثمن” هذا هو ملخص عدد كبير من التقارير الإعلامية والحقوقية، التي أفردت مساحات واسعة لتغطية البعد الإنساني لقرار التجميد، والبحث في الخسائر الناجمة عنه.

هذه الخطوة جاءت على الرغم من اعتراف الدولة وفق بياناتها الرسمية أن 27.8% من الشعب المصري تحت خط الفقر، أي لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، من الغذاء وخلافه.