ترجمة عن مقال للصحفية الفرنسية في الغارديان “نتالي نيغريد”
الأيام القليلة الماضية شهدت نقطة تحول رئيسية في أوروبا، ليس فيما يتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإنما ما يحدث في سوريا، التي تبدو بشكل أو بآخر أقرب للحرب الأهلية التي شهدتها أوروبا في القرن الواحد والعشرين.
إن الهزيمة التي لحقت بالغرب وأوروبا في سوريا (وأقصد عنا الهزيمة السياسية والأخلاقية، وليس الهزيمة العسكرية فقط)، أشبه بما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما عجزت الديموقراطية عن الوقوف في وجه الاستبداد وقت أن تطلب الأمر تدخلها، بل اختفت عن المشهد بصورة لم يجعل لها أي دور حقيقي في منع وقوع كارثة كادت أن تبيد الجميع.
الحرب السورية والأحداث المأساوية التي تجري في شمال شرق سوريا الآن، ستؤثر سلباً بما لا يدع مجالاً للشك على الدول الأوروبية، وهي الحقيقة التي أشار إليها ترامب نفسه صراحة في أحد أحاديثه، بعد التحدث عن المقاتلين الأجانب المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية، والذين هم في طريقهم للفرار من سوريا متجهين إلى أوروبا، وهي المشكلة التي شدد ترامب في خطاباته أنه يتعين على أوروبا معاجلتها بمفردها.
وعلى الرغم من بشاعة مثل هذه الفرضية، إلا أنها تظل جزء من صورة أكبر وأكثر بشاعة ومأساوية، من شأنها أن تجعل الأوروبيين يرغبون في الفرار: في لحظة حرجة في التاريخ، أصبح التحالف الاستبدادي الروسي-الإيراني منتصرًا تمامًا على عتبة أوروبا.
قوات بشار الأسد، والمدعومة عسكرياً بقوات روسية وإيرانية، تضغط الآن باتجاه الشمال لاستعادة الأراضي التي انتزعت منهم في السنوات الأخيرة بفضل التحالف المناهض لهم بقيادة الغرب المتحالف مع قوات برية كردية، والتي تمكنت من إبعاد الديكتاتور السوري عن الأرض والسيطرة عليها لسنوات.
المشهد تغير بعد قرار ترامب المفاجئ بسحب القوات، وكذلك بسبب الأحداث السريعة المتغايرة التي تلت ذلك القرار، ففي المقابل لم تضيع روسيا الوقت في التحرك لملء الفراغ، ليصبح التحالف الروسي-الإيراني مسيطراً على الأحداث بصورة لا مثيل لها من قبل، ولعل ما ساهم في ذلك بصورة رئيسية هو تهور ترامب وعقيدته التي دائماً ينادي بها: “أمريكا أولاً”، الارتباك والانقسام التي تعاني منهم الدولة السورية أيضاً كانا سبباً في ذلك، ليعيد ذلك المشهد إلى أذهاننا أحداث 1930.
صحيح أن الأوروبيين يتدافعون حاليًا لتوحيد العقوبات ضد تركيا بسبب هجومها العسكري على الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد داخل سوريا، ومع هذا لم تتوحد الصفوف الأوروبية بعد، وهذا ما يجعل أي ضغط تسببه بعض العواصم الأوروبية بلا تأثير واضح وقوي على المشهد، فلا يبدو أن الحكومات الأوروبية في وضع يمكنها من تشكيل أي تأثير فعال على روسيا التي تتقدم دون توقف محدثة المزيد من الخراب لدول الجوار، لتصبح أوروبا الضحية لذلك الكابوس الذي لم تحسب أنها ستتأثر به، وفي نفس الوقت، لا تملك الأدوات التي تحميها منه.
إذا كنت تعتقد أن ما يحدث في سوريا هو مجرد نزاع في بقعة بعيدة عنا، ويمكن لنا نحن الأوروبيون أن نغض الطرف عنها بسهولة وأريحية، فأعتقد أن عليك إعادة النظر في معتقداتك.
لقد أثبتت أزمة اللاجئين السوريين عام 2015 أن أوروبا من أكثر القارات تأثراً بتلك الحرب السورية، تلك الأزمة التي تسبب فيها استراتيجية الديكتاتور السوري بشار الأسد، الذي وجه أسلحة جيشه ضد شعبه بسبب تمسكه بالسلطة التي طالب جموع الشعب إياه بالتنحي عنها.
أعتقد أنه حان الوقت للتعلم من الدروس المستخلصة من تلك الحرب حتى وان لم تنته بعد، خاصة بعد تخلي ترامب عن حلفائه في سوريا، ليصبح ذلك دليلاً على أن الضمانات الأمنية الأمريكية لأوروبا ليست سوى محض أوهام تتبخر كالعادة بسرعة قصوى.
قرار ترامب بالانسحاب أكد على ازدرائه العام لحلف الناتو، وأكد أيضاً على أن القادة الاستبداديين الذين يعتقدون أن وقتهم العالمي قد حان وأن كل ما يحتاجون إلى فعله هو اغتنام الفرص والتقاط غنائم النظام الدولي المتفكك بقيادة الغرب، ولفهم الصورة أكثر، يمكن الاطلاع على ما كتبه فلاديسلاف سوركوف في وقت سابق من العام الجاري: دور روسيا في العالم كنموذج للقومية والتوسع القائم على القوة الوحشية.
الأزمة لا تكمن في الآثار السلبية التي ستعاني منها أوروبا بسبب الحرب السورية وحسب، إنما أيضاً بسبب حجم الخسائر البشرية، وكذلك ضرب عرض الحائط باتفاقيات حقوق الانسان التي من المفترض أن أوروبا واحدة من القائمين على حمايتها وضمان تنفيذها والعمل بها، حيث وجدت أوروبا نفسها عاجزة تماماً عن القيام بهذا الدور، وفي المقابل، تشير التكهنات إلى أن تنظيم الدولة “داعش”، سيحاول إعادة تجميع صفوفه.
في الوقت ذاته كيف ستتعامل القوات التركية والسورية والروسية مع هذه التكهنات، خاصة وهي تتنافس للسيطرة على البلاد على أنقاض عدد لا يمكن إحصائه من المدنيين الذين لقوا حتفهم جراء تلك المنافسات.
الأكيد الآن هو وجود عشرات الأدلة على الوحشية التي تعاملت بها القوات الروسية، والتي ستنسف أي فكرة لدى أي شخص يظن أنها تحترم حقوق الانسان، خاصة بعد التقارير الموثقة عن قيام روسيا بالقصف المنتظم للمستشفيات في سوريا.
هذه الكارثة متعددة الجوانب في الشرق الأوسط ستكون لها عواقب وخيمة على الأمن الأوروبي (التهديدات الإرهابية) والسياسات الداخلية (اليمين متناغم كلياً مع الأسد وبوتين) وكذلك المجتمعات الأوروبية بشكل عام؛ ذلك لأن نصر الأسد المدعوم من روسيا في سوريا سوف يُسجل كفصل حاسم في عصر الخوف والتفتت والتضليل.
من ناحية أخرى، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي له ارتباط بما يحدث في سوريا، وكذلك له دلالات عميقة على الوضع الداخلي في أوروبا، وبصورة أو بأخرى، سيؤثر على القضايا الأوربية المثارة حالياً، كحق إسبانيا وكتالونيا، وكذلك نتائج الانتخابات في بولندا والمجر (هل حقاً فاز القوميون؟).
ختاماً، أود أن أؤكد أنه يتعين علينا نحن الأوروبيون النظر من زاوية مختلفة لما يحدث في سوريا، وإدراك الحقائق المصاحبة لهذه الحرب، وأهمها أن ما يحدث ليس أقل من معركة أيديولوجية بين الديمقراطية والسلطوية، يرتبط فيها مصيرنا ارتباطًا وثيقًا بأولئك الذين يجدون أنفسهم في مفترق مأساة سوريا، وعليه، فإن سوريا في الواقع هي الحرب الأهلية الإسبانية للعصر الحالي، تمامًا كما كان الحال في الثلاثينيات عندما كان بلغ الاستبداد ذروته، فسنكون واهمين إن اعتقدنا أن ما فعلناه في سوريا لن يعود ليطاردنا الآن.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا