أثارت بعض الأعمال الدرامية التي أذيعت على الشاشات المصرية خلال شهر رمضان حالة من الجدل الواسع بين أوساط المهتمين بالمجال الفني، حيث رأي البعض فيها تعبيراً عن سياسة النظام العسكري في إظهار الصوت الواحد وتشويه ما دونه من أي أصوات معارضة .
ومنذ انقلاب السيسي في يوليو 2013، تعيش مصر حالة من التأميم لكافة قطاعات الدولة الحيوية لصالح الجيش، فلم يقتصر الأمر على صناعات الأغذية والمواد التموينية، أو شركات المقاولات والبناء، أو الفضائيات التي سيطر عليها النظام عن طريق ذراعه الإعلامية شركة “إعلام المصريين”، بل امتد ليشمل سوق الدراما المصرية، لتكتمل منظومة دولة “الجيش” في عسكرة كل القطاعات في مصر.
وفي سبيل ذلك يسعى نظام السيسي إلى إسكات أي صوت فني معارض، والإبقاء فقط على الأصوات المؤيدة له من خلال سيطرة المخابرات بشكل مباشر وغير مباشر على سوق الدراما المصرية، وإنتاج العديد من الأعمال الدرامية التي تشيطن معارضي النظام وتمجد في السلطة العسكرية وأفرادها.
“بلحة” تقتل حبش
وكان آخر تجليات هذه الحالة هي وفاة المخرج الشاب شادي حبش بعد اعتقاله لأكثر من عامين في حبس انفرادي على خلفية إخراجه لأغنية “بلحة” في مارس 2018 التي سخرت من عبدالفتاح السيسي بعد انتهاء فترته الرئاسية الأولى، وانتقدت العاصمة الإدارية، ومشروع قناة السويس والدور الاقتصادي الذي تمت توسعته للجيش في عهد السيسي ، وأكذوبة الحرب على الإرهاب التي يديرها في سيناء.
ورغم أنه لا يوجد أي إعلان رسمي حتى اللحظة، لكن جهات حقوقية مصرية أعلنت وفاة الفنان المصري الشاب، شادي حبش، داخل محبسه في سجن تحقيق طرة، بعد استغاثات من المعتقلين معه داخل الزنزانة لإنقاذه، دون استجابة.
وفي آخر رسالة لحبش، من زنزانته في سجن طرة، بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2019، طالب فيها الجميع بإنقاذه من الموت في السجن، وكتب نصًا “السجن مابيموتش بس الوحدة بتموت، أنا محتاج دعمكم عشان ماموتش. في السنتين اللي فاتوا أنا حاولت أقاوم كل اللي بيحصلي لوحدي عشان أخرج لكم نفس الشخص اللي تعرفوه بس مبقتش قادر خلاص. مفهوم المقاومة في السجن: إنك بتقاوم نفسك وبتحافظ عليها وإنسانيتك من الآثار السلبية من اللي بتشوفوا وبتعيشوا كل يوم وأبسطها إنك تتجنن أو تموت بالبطيئ، لكونك مرمي في أوضه بقالك سنتين ومنسي ومش عارف هتخرج منها امتى؟ أو ازاي؟”.
شادي لم يكن الضحية الوحيد للأغنية، فمع ظهور الأغنية تتبعت أجهزة الأمن في مصر كل المشاركين في الأغنية وتم القبض على سبعة أفراد منهم كاتب الأغنية الشاعر الشاب جلال البحيري، وأحمد شوقي مدير صفحة مغنيها رامي عصام ، وخبير السوشيال ميديا الذي ساعد رامي في إنشاء الصفحة مصطفى جمال، واعتقل أيضا عازف الجيتار رامي صدقي الذي عزف لعدد من الفرق الشهيرة ومن ضمنها فرقة رامي عصام رغم أنهما منقطعان عن التواصل منذ عام 2015.
الغريب أن جميع المتهمين الذين تم وضعهم على ذمة هذه القضية واجهوا تهمة واحدة وهي الإنضمام إلى جماعة إرهابية ،ونشر أخبار كاذبة ،إساءة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي ، وازدراء الدين وإهانة المؤسسة العسكرية، ورغم ذلك ظلوا جميعا محبوسين على ذمة القضية منذ اعتقالهم في العام 2018 دون صدور أحكام ،مع الاكتفاء بتجديد مدد حبسهم 45 يوما كل فترة.
ملاحقة وابتزاز
لم يقتصر الأمر علي ملاحقة السيسي للأصوات المعارضة له داخل البلاد، لكنه امتدّ ليشمل من هم خارج دائرة سطوته من الممثلين أو المخرجين الذين رفضوا أن يسيروا وفق تعليمات أجهزة السيسي الأمنية، وتنوعت أساليب الضغط عليهم ابتداءا من تلفيق القضايا والحكم عليهم بأحكام غيابية وانتهاءً باعتقال الأهل والأقارب كما حدث مع عدة فنانين منهم محمد علي وعمرو واكد ومحمد شومان.
وفي 2017، قضت محكمة جنح القاهرة الجديدة، برئاسة المستشار هيثم الصغير، بحبس الفنان محمد شومان 5 سنوات مع الشغل وغرامة 500 جنيه بتهمة أخبار كاذبة، كما عادت لاحقا في 2020 واعتقلت 4 من أقاربه من بينهم نجله وشقيقه، وأخفتهم قسرياً عدة أيام ، ثم وجهت لهم لاحقاً اتهامات بالانتماء لجماعة إرهابية، وواصلت التجديد لهم وحبسهما علي ذمة التحقيق.
أما الفنان هشام عبدالله، فنال حكما غيابياً بالسجن 15 عاماً في القضية المعروفة بـ”إعلام الإخوان”، والتي تضم مجموعة من الإعلاميين ومقدمي البرامج بقنوات الجزيرة والشرق ومكملين.
الفنان عمرو واكد لم يسلم هو الآخر من بطش السيسي، حيث قضت محكمة جنح التهرب الضريبي بحبسه لمدة ستة أشهر، وكفالة قدرها 10 آلاف جنيه مصر، وأمرت بتغريمه مبلغ 312 ألف جنيه، بتهمة التهرب الضريبي.
وكان واكد أعلن في مارس 2019 تلقيه تهديدات بعدم العودة إلى مصر، حيث سيتم القبض عليه، وسيواجه أحكاماً قضائية صدرت ضده غيابياً، قائلاً: “بلغني أنه محكوم عليّ غيابياً من القضاء المصري نيابة شمال القاهرة بـ5 سنين سجن وحكم آخر بـ 3 سنوات سجن بتهمتي نشر أخبار كاذبة وإهانة مؤسسات الدولة”
الفنان والمقاول البارز محمد علي تحول إلى أحد خصوم السيسي بعدما هاجمه بضراوة نهاية العام الماضي، ما جعله يحصد 3 أحكام قضائية متتالية بتهم واهية منها التهرب الضريبي وهو ما نال عليه أحكاما متتالية تقدر بنحو 11 عاما.
سينرجي كلمة السر
ما حدث من تأميم للفضائيات حدث أيضا مع سوق الدراما المصرية عن طريق شركة “سينرجي” التابعة لإعلام المصريين، ورئيسها تامر مرسي، الذي استحوذ على خارطة الدراما الرمضانية للعام 2020، على غرار الأعوام السابقة.
وسينرجي واحدة من عدة شركات تعمل في مجال الإعلام في مصر وتخضع لسيطرة مجموعة “إعلام المصريين” التي تمتلك أغلب شبكات القنوات الفضائية المصرية مثل سي بي سي والحياة وأون إي إضافة إلى مواقع إلكترونية وصحف ومحطات إذاعية.
من خلال سينرجي المملوكة لجهاز المخابرات العامة، أحكمت السلطة قبضتها على صناعة الدراما الرمضانية، وعلى غرار العام السابق، استمرت الشركة في الهيمنة على معظم مسلسلات رمضان لهذا العام 2020.
وعملت “منظومة الدراما العسكرية” على التوسع في إنتاج محتوى سياسي، بتوجهات محددة، مثل مسلسل “الاختيار” الذي ينمق من صورة ضابط الجيش بملابسه المموهة وذات اللون “الكاكي”، وفي المقابل يعمل علي تشويه المعارضة وإظهارهم بمظهر الخونة للوطن .
ويروي “الاختيار” قصة مقتل العقيد أحمد المنسي، وهو من بطولة أمير كرارة الذي يجسد دور منسي، ووصل أجر كرارة إلى 11 مليون جنيه (نحو 700 ألف دولار) مرتفعا بخمسة ملايين عن أجره العام الماضي في الجزء الثالث من مسلسل “كلبش” الذي جسد فيه دور ضابط شرطة أيضا.
ووصف إعلاميون محسوبون على النظام المسلسل بأنه سيكون علامة فارقة في تاريخ الدراما العربية، كما حاز على اهتمام بالغ من أجهزة الدولة، في محاولة لترميز ضباط شاركوا في عمليات عسكرية داخل سيناء التي تعاني من عمليات تهجير وقتل للمدنيين والأهالي منذ عام 2013.
ويري كثيرون أن المسلسل كان ترجمة حقيقية لتوجيهات السيسي المباشرة بالسيطرة على الدراما، فبرغم معارضة أهل “المنسي” أنفسهم للمسلسل ومقاضاتهم الشركة المنتجة، إلا أنها أصرّت على عرضه في رمضان، ما يؤكد أن الأعمال الدرامية تخضع بشكل مباشر لسلطة المخابرات مثلها مثل باقي القطاعات في الدولة، في رسالة للنظام مفادها إما أن تكون معي فتصبح “كرارة”، أو ضدي فتلقي مصير “حبش”.
اضف تعليقا