كنتُ في السابعة من عمري، حين اصطحَبتني عمةٌ لي إلى كليتها دار العلوم بجامعة القاهرة؛ لأُلقيَ قصيدةً في ذكرى استشهادِ محمد الدرة. جهّزني أبي من قبلها ومرنني على قراءة القصيدة وإلقائها، وكانت للشاعر عبدالعزيز جويدة، منذ ذلك الحين وأنا أحفظها؛ من ثلاثة عشر عامًا.
يقول في مطلعها: سلاماتٌ سلاماتْ.. لكل محمدٍ ماتْ.. وكل محمدٍ آت.. إلى المفجوعةِ الثكلى.. تقبلُ أوجه القتلى.. لأن القدسَ غاليةٌ.. بذلنا روحنا الأغلى.. بذلنا الذاتْ.. سلاماتٌ سلاماتْ.
كنتُ في أنظارِ الحاضرين طفلًا صغيرًا معجزةً يُلقي بالفصحى قصيدةً عن قضيةٍ باعها الكبارُ، لكنْ لم يكن غريبًا بالنسبة إليَّ حينها سوى أنّهم يتعجبون من ذلك. تربّيتُ على أناشيد المقاومةِ التي يصدح بها الراديو في بيتنا، وسلسلة أطفال الحجارة و”يا شارون” وأغاني ميس شلش، وعلى صورة الشهيد أحمد ياسين قبل استشهاده وبعده، وعلى صور عز الدين القسّام والرنتيسي، وعلى مسلسل التغريبة الفلسطينية الذي بنى غضبًا متأججا في عقلي الباطن تجاه الاحتلال، ولا أنسى جلوسنا جميعًا ننتظرُ بدء الحلقةِ قبلها بنصف ساعة، وحفظنا الأحداث عن ظهر قلب. تربّينا على “عائد إلى حيفا” وكان خلدونُ الصغيرُ هو ضالّتنا جميعًا، وليس ضالّة أبويه وحدهما، وكانت دموعُ أمّي المصاحبة لكل حلقةٍ تزيد جلل الأمر بدواخلنا، خصوصًا أننا نعرف أن هذه الدموعَ العزيزة، لا تغادرُ المقلَ إلا من أجل عزيز.
في عام 2006 حضرتُ مع أبي مؤتمرًا في القاهرة، على رأسه الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله، احتفالًا بانتصار حزب الله وقتَها على إسرائيل، وكنتُ أسمعُ الهتافاتِ وأرددها كأنَّني أدرك معانيها كاملة، ولم أكن أفهمها تمامًا لكنني كنتُ أفهمُني، وأفهم أنَّ كل انتصارٍ على ما تسمَّى “إسرائيل” يستحقُ إنفاق الحناجر والخناجر.
في صالون شقّتنا، علّقت أمي “حصَّالة” خشبية ملونةً بعلم فلسطين، وكنتُ أنا وعمر نتسابق على من يضعُ فيها من مصروفِه جزءًا أكبر. إلى اليمين قليلًا ستجدُ بابَ غرفتنا، في منتصفه ورقةٌ كتبتُ عليها بخطّي الصغير “عيدنا يوم تُحرر فيه فلسطين”. فوقها بقليلٍ صورةٌ تجمع الرنتيسي والياسين، ومُلصَقٌ صغيرٌ لعلمِ لبنان مكتوب فوقه “أولئك حزب الله ألا إنّ حزبَ الله هم المفلحون”. افتح بابَ الغرفةِ وانظر عليه من الخلف، ستجد نتيجة العام الهجريّ من اثنتي عشرة ورقةً، في كل واحدةٍ منها رسمةٌ لطفلٍ بيده حجارةٌ ويقف أمام دبابة، أو رسمةٌ لعلم فلسطين، أو غيرهما مما يتعلقُ بالقضية، وعلى جدار الغرفةِ ستجد رسمةً متواضعةً لقبة الصخرة كنتُ أنا صاحبها، وشالٌ لا يغادرُ المكتبَ. وسؤال لا أملّ من تكراره، ولا يملّ أبي من الإجابة عليه؛ “متى سيُفتَح باب الجهاد في فلسطين؟” –قريبًا إن شاء الله.. “تعدُني بأن تتركني أذهب؟” –سنذهب كلنا معًا.
في الصف السادس الابتدائيّ.. حدثت أول مجزرة في غزة وإعلان حصارها، اتفقتُ أنا وزملائي حينها على أن نذهبَ إلى بيت أحدنا من بعد المدرسةِ حتى المساء، لنرسمَ أعلامَ فلسطين وأمريكا وإسرائيل، ونكتبَ عباراتٍ وشعارات لغزة والقدس، وفعلنا ذلك بكل ما أوتيَتْ كفوفنا الصغيرة من قوة.. في اليوم التالي، انتظرنا جرس الفسحةِ لننزل جميعًا نهتف “ع القدس رايحين شهداء بالملايين.. غزة غزة رمز العزة” وفي أيادينا الأوراق والأعلام التي رسمناها بالأقلام الرصاص ولوّناها بألوان الخشب.. نحن -الصبية- نزلنا من سُلّم والبنات من السلم الآخر، وكان الأمرُ على درجةٍ عالية من التنسيق الطفوليّ.. وبتكرار التنبيهات على أفراد التنظيم “العيالي”.. أنا سأهتفُ، وهشام سيحملني على كتفه، وعلي وشادي سيحرقان علمي أمريكا وإسرائيل وتهريب علبة أعواد الثقاب من بيت أحدهما مهمتهما أيضًا، ثُرنا وصرخنا وهتفنا وأحرقنا العلمينْ ورفعنا علم فلسطين وكانت فرحةً لا توصَف.. ولا بأس أن قطعها شيخُ المعهد وهو يخرج من مكتبه على الضجّة التي أحدثناها، وفي يده عصا من الخرزان، صوتُها في الريح وهي تهوي على أيدي أحدنا، كأنها صراخٌ من قعر جهنم. أتذكّر الأحداث وكأنني الآن أرويها لأمّي.. هشامُ أول ما رأى شبح الناظر قادمًا من بعيد، نسيَ مهمّته في حمل قائد الهتاف، ونسي نفسه، ونسي أقدامه، ونسي المسكين الذي كان فوق كتفيه، قبل أن يفرّ بجسمه النحيل وأقع أنا على ظهري وجبةً دسمةً تتناولها خرزانةُ الناظرِ بشراهة من فوي ومن أسفل مني، إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر..رنّ جرس طابور نهاية الفسحة، وحينها أسمعَنا شيخ المعهدِ ما يقضّ مضاجعنا من تهديدٍ ووعيد، ثم رمقَني بعينٍ ساخرة قائلًا: “عامل لي فيها وطني يابن عبّاسط”.. وكان صديقًا لأبي.. وفي اليوم التالي؛ قرر التنظيم “العيالي” أن يوسّع نشاطَه ويصعّد ثورتَه لتنطلق خارج المعهد بعد اليوم الدراسي، وتمرّ على المدراس الأخرى، وكانتْ ثورةً لتلاميذ أكبرُهم في العاشرة، وأصغرهم ذو خمس سنواتٍ.. وقضيّة.. وهتاف.
في ميدان رابعةِ، كنتُ مميزًا بكوفّية فلسطين التي حول عنقي، ولا تتعلقُ بصيفٍ حارٍ أو شتاءٍ قارس، أرتديها على أي حال، حتّى يوم المجزرة التي باغتتنا فيه طلقاتُ الموت، وتركتُ الكاميرا والحقيبة وكل ما في الخيمة، وأخذت الكوفية وحدها، وانطلقتُ في الميدان تتلقفني المَشاهدُ وتخترقني الأحداث من السادسة صباحًا إلى السادسة مساءً، حتى أصبتُ في رأسي بنصفِ رصاصةٍ اخترقت جدار الرأس واستقرت قبل جدار المخّ بـ2 مللي، وصبرتُ إلى أن فقدت الوعيَ بعد حرق المسجد وخروجنا منه وفقدان ذاكرتي لست ساعاتٍ لم أدرِ فيها ما يحدث حولي ولا أعرف الأيادي التي تنقلني من بطانية إلى أخرى ولا من شارعٍ إلى آخر.. وبعد أربعة أشهر من المجزرة، عثرتْ أختي على صورةٍ تجمع عددًا كبيرًا من الشهداءِ على الأرض في شارعٍ جانبيّ، وكنتُ بينهم.. مغمض العينين، فاتحًا فمي، والدم مسودٌ على وجهي وأسفل رأسي، وحول عنقي.. كوفيّة فلسطين، مستحيلٌ لونُها من الأبيض إلى الأحمر.
المسيراتُ والفعاليات والدوراتُ المقدسية، والقصائد والأناشيد والأشعار، والكتبُ والأغاني، والروايات والأفلام والمسلسلات.. كلها استطاعتْ أن تنشئ بدواخلِ جيلِنا قدسًا نراها كل صباحٍ وننامُ على صوتِها كل مساء، استطاعَ أهلُنا أن يُنشئوا فينا فلسطينًا لا يسلبُها منّا أحد، ليستْ أرضًا لتُحتّل ولا صفقةً يتفاوض عليها الممثلون كما يتداعي الأكَلةُ على القصعة. استطاعوا أن يبنوا في عقولنا الباطنة دولةً لها تاريخٌ وجغرافيا، وبنوا أسوارًا حولها لا تهدمُها صواريخٌ ولا تفجّرها قنابل. إنّ هذه الأقداسَ التي في دمائنا هي القادرة وحدها على أن تستردّ القدسَ الأمّ من بطون الكلاب النجسة، وهي الأصدقُ من كل المفاوضات فوق الطاولةِ و من كل الصفقات تحتها.
كطبيعةِ التدوين، هو سردُ تجربةٍ، أو رواية أحداثٍ شخصيّةٍ وإسقاطها على واقع عام؛ فإنني لم أكتب هذا كله لأقول “أنا”؛ وإنما كأنموذجٍ عمليٍّ واليقينُ في الله أنه سيفلح. فإنها دعوةٌ لكل راعٍ أن يغرسَ في قلوب وعقول رعيَته قضيةَ فلسطين، بكل ما تحمله “فلسطين” من معنى، وإنّ الأمرَ ليس مقتصرًا على تعريفها بالكتبِ من زوايا الدين والقومية والأرض، وإنما من زاويةٍ أعمق من هذا كله؛ زاوية القلب، ولاسيّما إن كان في أولى نبضاته، ولا شيءَ أبقى في القلبِ مما نبضَ بحبّه أولا. وصدقَ القائلُ بأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، أو بالأحرى: “الفِلَسْطَنَةُ في الصغر.. بندقيةٌ وسكينٌ وحجَر”.
الفِلَسطَنَةُ في الصغر… بندقيةٌ وسكينٌ وحَجر
?❤️