“الأول يستهدف العقل الجمعي في الداخل، والثاني يحشد الدعم الدولي بالخارج”.. هكذا استقر توزيع الأدوار بشبكة اللوبي السعودي بين اثنين من أهم رجال فريق الحكم الجديد بالمملكة العربية السعودية، الذي يتزعمه ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان، ليمثل كلاهما جناحين لإعادة تنظيم شبكة اللوبي السعودي حول العالم بعد عقود من “العشوائية” في إدارتها، حسبما يرى العديد من المراقبين.

الأول: هو المستشار بالديوان الملكي، سعود القحطاني، الذي بدأ عمله كمستشار في الديوان الملكي عام 2012، بالمرتبة الممتازة قبل أن يصبح بدرجة وزير، ومديرا عاما لمركز الرصد والتحليل الإعلامي بالديوان، كما شغل من قبل منصب مستشار قانوني في مكتب ولي العهد عام 2003، ومستشار في مكتب رئيس الديوان الملكي السعودي.

تخرج “القحطاني” من جامعة الملك فيصل بعدما حصل على بكالوريوس في القانون، بعدها حصل على درجة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف في تخصص العدالة الجنائية من جامعة نايف العربية، ليعمل بعد ذلك محاضرا في القانون بكلية الملك فيصل الجوية.سعود القحطاني

وهنا تبرز الحلقة التي جمعت الرجل بابن سلمان، إذ تزامن صعود الأخير إلى موقع “وزير الدفاع” مع عمل الأول محاضرا قانونيًّا بكلية عسكرية، لتبدأ قصة توظيف جديد لواحد من أبرز وجوه فريق الحكم الجديد بالمملكة اليوم، بعد قصة أخرى لفشل ذريع لشبكة اللوبي السعودي على كافة الأصعدة.

دافع الفشل

وتمثل أحداث 11 سبتمبر مدخلا لتأسيس الدور الذي قام به القحطاني فيما بعد، إذ ظهرت حاجة الرياض الملحة لضمان التأثير في السياسة الأمريكية والحفاظ على مصالحها، حيث قام السعوديون بتعزيز توظيف شركات العلاقات العامة للتأثير على صانعي القرار الأميركي.

وفي كشف حساب أرسلته شركة Qorvis Communications LLC للعلاقات العامة بتاريخ السابع من أغسطس 2002 إلى سفير السعودية بالولايات المتحدة وزعيم اللوبي السعودي في واشنطن آنذاك، بندر بن سلطان، ظهر أن حجم الأموال التي اضطر بندر إلى دفعها للشركة تجاوز الـ 11 مليون دولار في أربعة أشهر فقط، إذ مثلت هجمات سبتمبر ضربة قاصمة لصورة المملكة الذهنية لدى الغربيين عموما والأمريكيين خصوصا.

استمر هذا التصاعد حتى عام 2006 حيث استقر معدل إنفاق الرياض على شركات العلاقات العامة والاستشارات القانونية والدعاية الإعلامية الأمريكية بمعدل ثابت تقريبا حتى عام 2014.

لكن مع التقدم في مفاوضات مجموعة 5+1 مع إيران بخصوص ملف الأخيرة النووي، وإظهار إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، العزم على التوصل إلى اتفاق مع طهران، بدأت الرياض في التعاقد مع أكبر عدد ممكن من شركات العلاقات العامة الأمريكية في محاولة للتأثير على السلطتين التنفيذية والتشريعية هناك.

اتفاقات بين الولايات المتحدة و طهران

ورغم ذلك، باءت هذه الجهود بالفشل، وساءت العلاقة بين السعوديين وإدارة أوباما إلى حد تقديم مشروع قانون أمام الكونجرس الأميركي باسم “العدالة ضد رعاة الإرهاب – جاستا”، الذي يمكن ضحايا أحداث 11 سبتمبر من مقاضاة الدول التي يتهمونها بالضلوع في دعم الإرهاب، أمام القضاء الأمريكي، للحصول على تعويضات ضخمة.

من هنا تبرز أهمية صعود اسم “سعود القحطاني” بالتزامن مع عملية مراجعة شاملة للسياسات السعودية بالخارج، تزامنت هي الأخرى مع صعود صاروخي لفريق حكم جديد بالمملكة يتزعمه ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان.

السليط الإعلامي

كشفت الوثائق أن مركز الدراسات والشؤون الإعلامية بالديوان الملكي، ممثلاً بمديره (القحطاني نفسه) تعاقد مع شركة “Podesta Group” عام 2016، عبر دفعه مبلغ 140 ألف دولار شهرياً مقابل تقديم “خدمات علاقات عامة” للمركز.

ورغم ذلك استمر صعود رجال ابن سلمان، على رأس السلطة السعودية، وفرضوا سيطرتهم على شبكة اللوبي السعودي، ليتفرد “القحطاني”، بجانب دوره في تقديم الأموال لشركات العلاقات العامة الأمريكية، بدور “السليط الإعلامي” في الداخل ضد من تراهم نخبة الحكم الجديد بالمملكة خطرا يهددها، خاصة قطر وإيران وكل الجماعات والحركات الإسلامية، التي تصنفها السلطة المتحالفة مع دولة الإمارات، في خانة الأعداء أو المتطرفين والإرهابيين.

يلعب “القحطاني” بالداخل السعودي دورا شبيها بذلك الذي قام به الفريق ضاحي خلفان في دولة الإمارات من قبل، مستندا إلى منصبه الذي يمكنه من الاطلاع على المعلومات الاستخباراتية، ليقوم هو باجتزائها أو قطعها من سياقها أو توظيفها في سياق “محلي” يخاطب به عقل المواطن السعودي بالدرجة الأولى.

ضاحى خلفان

وبذلك جمع القحطاني بين نفوذ توجيه العديد من جماعات الضغط الأمريكية من جانب، وبين تمثيل دور “لسان النظام الجديد” من جانب آخر، خاصة في ظل علاقته الشخصية بابن سلمان.

ويمثل القحطاني في ذلك “ظاهرة” رافقت إحلال رجال ابن سلمان محل طاقم الحكم السابق، في عهد الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، إذ يتمتع العديد من ذوي الصلة الشخصية بابن سلمان بنفوذ واسع حاليا، إضافة إلى تمييزهم بمعالجة إعلامية خاصة لنشاطهم، وعلى رأسهم “تركي آل الشيخ”، رئيس هيئة الرياضة الحالي، والمستشار بالديوان الملكي أيضا.

تركي آل الشيخ

لكن كل هذه المبالغ ذهبت أدراج الرياح أيضا، فقد فشلت جهود اللوبي السعودي خلال عامي 2015 و2016 في محاولة إسقاط القانون.

ومع توالي الفشل الذي سجله اللوبي السعودي، اتجه ابن سلمان وفريقه إلى إعادة “تنظيم” شبكة الضغط السعودية في الخارج بمعايير أخرى جديدة، اعتقادا منه أن غياب المظلة التي توحد القرار حتى يصبح ذا تأثير فاعل على الإدارة الأمريكية، جعل التأثير السعودي مغيبا حتى وافقت واشنطن على الاتفاق النووي مع إيران وتم تمرير قانون جاستا.

عميل مسجل

وإزاء ذلك، عولت سلطة ابن سلمان كثيرا على الجمهوري “ريتشارد هولت”، عضو لجنة الرئاسة الأمريكية حول الزمالات، الذي رصد تقرير صادر عن “مركز النزاهة العامة” في الولايات المتحدة حصوله على 4300 ألف دولار من وزارة الخارجية السعودية، بعدما أصبح “عميلاً مسجلاً” لدى الرياض منذ يناير 2017، مقابل “نصائح حول الاستراتيجيات التشريعية والشؤون العامة”.

و”لجنة الرئيس حول الزمالات في البيت الأبيض” هي لجنة استشارية غير متفرغة، مسؤولة عن تقديم توصيات نهائية للرئيس الأمريكي لمنح الزمالات المرموقة في البيت الأبيض، وعادة ما يكون أعضائها ممن سبق لهم أن تبوءوا مناصب في البيت الأبيض والوكالات الاتحادية.

لعب “هولت” دور المهندس في صفقة الأسلحة الخيالية التي أبرمها ترامب في الرياض، بتكلفة تصل إلى 110 مليار دولار، عبر اتصالات أجراها مع مكاتب الكونغرس، في أواخر مايو ويونيو الماضيين، لإقناع أكبر عدد ممكن من النواب بفوائد بيع  الأسلحة للسعودية.

لكن التوظيف السياسي للحملة السعودية ضد الإرهاب أفقدها الكثير من مصداقيتها غربيا، وهو ما كشفه موقع “ميدل إيست آي” البريطاني عندما وثق تحركات للوبي السعودي ضد قطر في الوقت الذي يدعو فيه إسرائيل للمساهمة في رؤية “السعودية 2030” التي اقترحها الأمير محمد بن سلمان كمشروع لتأسيس جديد للدولة التي يتم تجهيزه ملكا عليها.

 

قيادة الأنصاري

وبالتوازي مع جهود “هولت” ظهر دور رجل الجناح الثاني للوبي السعودي بالخارج، وهو المحلل السياسي السعودي، سلمان الأنصاري، الذي قاد جهود عملية “التنظيم” ليعلن عن إطلاق “لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأمريكية”، والتي عرفت اختصاراً باسم “سابراك”، في منتصف مارس 2016.

ويستهدف “سابراك” الوصول إلى المواطن الأمريكي وتثقيفه بالقضايا الخاصة بشأن العلاقات السعودية الأمريكية والشؤون العربية، وفق ما أكده الأنصاري.

 

جاء ذلك مقاربا لتعيين الملك سلمان بن عبد العزيز لنجله (خالد) سفيرا سعوديا بالولايات المتحدة، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشرا على وصل العلاقة بين الإدارة “السلمانية” بالمملكة وبين البيت الأبيض.

خالد بن سلمان 

ولما كان التوجه السعودي الجديد متماشيا مع نظيره الإماراتي، فقد خطا “سابراك” خطوات واسعة نحو الترويج للتطبيع رسميا مع إسرائيل، وبدا للمراقب أن الكيان الممثل للسعودية في الولايات المتحدة وكأنه فرع للوبي الصهيوني بالشرق الأوسط.

 

تحالف صهيوني

وفي هذا السياق، دعا “الأنصاري” إلى تشكيل “تحالف تعاوني متكامل بين السعودية والكيان الصهيوني”، معتبرا أنها تشكل “فرصة تاريخية لعصر جديد من السلام والازدهار”، على حد تعبيره.

وأشار الأنصاري في مقالة له نشرت في مجلة “ذا هيل” إلى أن الكيان الصهيوني “في موقع فريد يسمح له بمساعدة جارتها في التنمية الاقتصادية في السنوات القادمة”.

وزعم الأنصاري أن “إسرائيل هي واحدة من أكثر الدول تطورا وتقدما من الناحية التكنولوجية في مجال استخراج المعادن”، مضيفا أنها “من الدول الرائدة في العالم في صناعة هندسة المياه”، وهما مسألتان ذات أهمية كبرى بالنسبة للسعودية.

كما ادعى الأنصاري أن “بإمكان إسرائيل والسعودية أن يشكلا العمودين التوأمين الجديدين للاستقرار في المنطقة”، كما سيتمكنان من تعزيز ما أسماه “السلام والتنمية في الشرق الأوسط”.

الأنصاري

وإزاء ذلك، ذكر موقع “تايمز أوف إسرائيل” الصهيوني أن التطبيع السعودي مع دولة الاحتلال لم يظهر بعد إلى العلن، لكن الطرفين أجريا مناقشات سرية في شؤون متعلقة بالأمن في المنطقة، والحديث عن تحسين العلاقات بينهما ازداد في الفترة الأخيرة.

 

وأشار الموقع إلى أن الحملة التي شنها الإعلام السعودي في شهر أغسطس الماضي لمحاربة معاداة السامية استهدفت تنفيذ أحد أهم أهداف اللوبي الصهيوني حول العالم، وهو تحضير الرأي العام السعودي لتعميق العلاقات مع “إسرائيل”.

بوابة إسرائيلية

ويرى مراقبون أن ابن سلمان وفريقه يتخذون من إسرائيل بوابة لنفوذ اللوبي السعودي في الولايات المتحدة، لكن هذا النهج لا يعني انحياز الإدارة الأمريكية للسعودية في صراعها مع إيران فقط، بل قبول الرياض لتطبيع كامل وشامل مع إسرائيل، وفق مقتضيات، منها معاداة كافة حركات المقاومة الفلسطينية.

فما عبر عنه “الأنصاري” ما هو إلا استمرار لنهج الجنرال السعودي المتقاعد، أنور عشقي، الذي زار “إسرائيل” بالفعل، وكذلك مع ظهور موجة اتصالات تطبيعية متنامية خلف الستار بين دوائر إسرائيلية وأخرى سعودية.

أنور عشقي

ورغم كل هذه الجهود يظل اللوبي السعودي نموذجا للفشل، بخلاف نظيره الإماراتي، إذ يمكن القول بأن السعودية ليس لديها لوبي حقيقي في واشنطن رغم إعادة التنظيم الذي قاده الأنصاري.

فاللوبي الذي لم يستطع إيقاف “جاستا” لا يدرك حجم تشوه الصورة السعودية في الداخل الأمريكي لأسباب مختلفة، أهمها مبادئ الفكر الوهابي المتشدد، الذي قامت عليه بنية الدولة، وفقا لتقييم العديد من المراقبين.

ويستند هذا التقييم إلى أن معيار قياس عائد اللوبي في واشنطن ليس بالأهداف السهلة التحقيق، بل بتعظيم الفائدة، كما هو حال اللوبي الصهيوني، أو منع المخاطر، كما هو حال اللوبي الإيراني بعد توقيع الاتفاق النووي، وفي ضوء المقارنة بين هذين النموذجين وبين اللوبي السعودي يمكن الجزم بأن الأخير قد فشل بجدارة.

ورغم أن أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “جون هوبكنز” الأمريكية “تريتا بارسي” لا يستبعد نجاح الرياض في دفع المشرّعين الأمريكيين لإدخال تعديلات على قانون “جاستا” عبر تجنيد جماعات الضغط، خاصة في عهد إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، وعلاقته الوطيدة بابن سلمان، إلا أن القانون في كل أحواله سيبقى مزعجاً؛ كونه سيظل يربط اسم السعودية وسمعتها بالإرهاب، الذي تزعم اليوم قيادة الجهود الرامية لمكافحته.