“لا تحتاج إلى مكان ذي إضاءة ضعيفة، وتصمم مهيب، وورق مبعثر هنا وهناك، وكأنما تستعد لكتابة أهم رواية في التاريخ المعاصر، فكل واحد منا هو كتاب”.

هكذا بدأت المتخصصة النفسية “لوراكينخ” مقالها حول “الكتابة والسعادة”، مقال يتناول ما هو معروف لدى كل من خاض تجربة زيارة عيادة طبيب نفسي أو لم يزر، فالكتابة هى التمرين الرئيسي الذي ينصح به المعالج النفسي، من أجل مساعدة الشخص على ترتيب أفكاره السيئة، ومواجهة آلامه، تقول الباحثة: “دعونا ننظر إلى فوائد جعل الكتابة عادة يومية لدى الجميع”.

الجديد فيما تقدمه، هو الربط بين الكتابة والسعادة، فالأمر لا يتعلق فقط بما هو معروف عن دورها كمخرج نفسي من الهموم والآلام، فتقول الباحثة: “الكتابة التعبيرية- كما تثبت البحوث الميدانية على عينة كبيرة من الأفراد- ترتبط بتحسن المزاج والرفاهية، وانخفاض مستويات الإجهاد لأولئك الذين يقومون بذلك بانتظام، خاصة إذا ارتبطت هذه الكتابة بتحقيق الأهداف والأحلام المستقبلية، فهذا قد يجعل البشر أكثر سعادة وأكثر صحة “.

العينة تناولت مجموعة من المهندسين، بعد 10 سنوات من العمل، حيث يشعر المرء- بشكل تلقائي- بالحاجة إلى إعادة تنظيم حياته من جديد، بالعودة خطوة للخلف، والتقاط صورة بعدسة مقعرة تكشف كل التفاصيل، وهنا ساعدت الكتابة من اعتادوها- كتمرين يومي- على ترتيب أفكارهم بشكل أكثر سلاسة، وإحداث تغيير إيجابي في حياتهم خلال شهرين، بنسبة تصل إلى 30%.

وباتجاه عملي ـ تقول الباحثة ـ فإن اكتساب عادة الكتابة يساعد على التخلص من الكسل بشكل عام، والتخلص التدريجي من عادة  صعوبة وصف المشاعر.

ولكن كيف نكتب؟ تتناول الباحثة الأمريكية هذه النقطة الإجرائية في بحثها بالتفصيل؛ فتشير أولا إلى أن قضاء مشوار من أجل اختيار كراس ذي صفحات بيضاء أو مسطورة، واختيار القلم، قد يساعد من لا يزالون يميلون إلى الكتابة بخط اليد على اتخاذ قرار جاد نحو الكتابة.

وهو نفس الأمر لمن يخصصون صندوقا خاصا داخل حسابهم الشخصي، ويحددون له كلمة سر يضعون داخلها تدويناتهم الشخصية، أما الكتابة نفسها فالأمر بالتأكيد لا يتعلق بكتابة أدبية، وإن كان الأمر قد يذهب ببعض الموهوبين ممن لم يكتشفوا أنفسهم بعد إلى ذلك الاتجاه، ولكن الأمر يتعلق بتأريخ ذاتي، عبر كتابة ما يتراوح بين 5 ـ 9 سطور يومية بشكل استرسالي أو عبر نقاط، كما تدعم استخدام الفواصل والنقاط على إلتقاط الأنفاس ووضوح الأفكار.

من داخل قاعة محاضرات الطب النفسي، يتم اعتبار الكتابة واحدة ضمن 9 أساليب رئيسية تساعد الإنسان على الحفاظ على صحته النفسية والجسدية، وبذلك تقل زيارته للطبيب أو إلى تفاقم الأمور في تجاه الاكتئاب.

فهي تنفع بشكل كبير في أوقات الضغط والتوتر والحزن والغضب، وحالات “كرب ما بعد الصدمة” فكما يقولون خوض الآلام أفضل من تجنبها فالأولى تؤدي نهاية إلى تجاوزها، أما الثانية فتؤدي إلى تفاقمها داخليا.

تشير المدونات النفسية أيضا إلى دور الكتابة في “المعالجة الذهنية” عبر مساعدة الشخص على إعادة ترتيب الأحداث والتفاصيل المتعلقة بالذكريات المؤلمة، فيقال: إن الكتابة تجعل الكاتب يعيد ترتيب الأحداث في ذهنه، ويضعها في سياقها (الماضي)، وفي مكانها الصحيح، مما يجعله يكتشف حجمها قياسا بباقي الأحداث؛ فربما يرى أن الحدث الأليم لم يكن بالضخامة التي تصورها طوال المدة الماضية، كما تكشف حجم الحقيقة حول شعور الإنسان بالاضطهاد، أو تورطه في الأحقاد بما ينافي طبيعته الأولى.
هي قيمة إنسانية كبرى قبل أن تكون قيمةعلاجية، هكذا يقول باختصار الأب الروحي للطب النفسي “فرويد”.

لعل ما سبق كله هو ما ذهب بالتقنية الحديثة للبحث عن طرق أفضل للتواصل، فالشعار الرئيسي لموقع التواصل الاجتماعي الأول في العالم facebook ، هو “ما الذي يجول بخاطرك”، ولذا فلا غرابة أن يصدر facebook، إحصائية تشير إلى تزايد استخدام خاصية  only me ، وهو ما صدم الكثيرين ممن كانوا يشعرون أنهم وحدهم من يفعلون ذلك (يكتبون ما يجول بخاطرهم دون أن يشاركوه مع غيرهم)، فمجرد الكتابة والتعبير عن ما بداخلهم يجعلهم أفضل، ولذا دائما ما كانت الكتابة هي بداية الحل في الاتجاه الصحيح، وإن بقيت وحدها لا تكفي.