سحق التجارب الديموقراطية

مع انطلاق شرارة الربيع العربي في المنطقة عام 2011، سارعت الإمارات إلى سحق الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، خوفاً من انتقال عدوى الحرية إليها فيتزعزع استقرار نظامها الديكتاتوري المستبد، الذي يسخر أدواته ونفوذه لقمع شعبه والقضاء على أي صوت معارض داخل وخارج البلاد.

ظهرت بالفعل حركات تنادي بالديموقراطية بداية عام 2011 داخل الإمارات، لكن الدولة وبدلاً من محاولة احتواء الشعب، حاربت الثورات في كل بقعة في الوطن العربي، ظهر ذلك بصورة جلية في رد فعل ولي عهد أبو ظبي -آنذاك- محمد بن زايد، الذي أصيب بحالة من جنون الذعر من تجرؤ شعبه على المطالبة صراحة بنظام ديموقراطي يشارك فيه الجمهور في حكم البلاد.

انتقلت الدولة إلى وضع عسكري بامتياز، عززه خوف الإمارات من نظرية المؤامرة أن جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من حركات الإسلام السياسي، يسعون للاستيلاء على الحكم والهيمنة على السياسة الإماراتية في الداخل والخارج.

لم تتأخر الإمارات عن مساعدة النظام البحريني في سحق الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في البحرين في عام 2011، كما رعت الانقلاب العسكري في مصر عام 2013 الذي أطاح بأول رئيس مدني منتخب في مصر -الدكتور محمد مرسي، وأعاد البلاد للحكم العسكري الذي ما لبثت أن تحررت من قيود 60 عاماً بعد تنحي مبارك.

سعت الإمارات إلى القضاء على مكتسبات الثورة التونسية، ودعمت قيس سعيد في تحركاته التي وصفها المعارضون بالانقلاب على الديموقراطية، كما انضمت إلى اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لدعم أجندة سياسية مؤيدة للإسلاموفوبيا في دوائر السياسة وفي وسائل الإعلام من أجل التعامل مع جميع المسلمين النشطاء سياسياً باعتبارهم موضع شبهة وشك كما يحدث مع المعارضين والإسلاميين داخل الإمارات نفسها.

اتخذ محمد بن زايد فزاعة الإخوان المسلمين ذريعة من أجل ضم أكبر عدد من دول العالم إلى جبهته، سعى بقوة للترويج لفكرة الإسلاموفوبيا وربط الإسلام السياسي بالإرهاب، كي يضمن دعم الأنظمة الغربية والوقوف في ورائه في حربه على الديموقراطية تحت غطاء الحرب على الإرهاب.

وفقاً لتقارير بريطانية قبل عدة أعوام حاولت أبو ظبي الضغط على لندن لإلصاق تهم الإرهاب بقطريين بارزين، بينهم أشخاص من العائلة المالكة، كما أشارت التقارير إلى أن الإمارات طلبت عبر وسيط من مدير مركز دراسة التطرف في جامعة كينغز كوليدج في لندن إعداد بحث يربط قطر بالإرهاب، وأن يسلمه لصحفيين تثق بهم أبو ظبي في لندن مقابل عقد مع المركز بقيمة عشرين ألف جنيه إسترليني شهريا.

تزامن ذلك مع قيام خالد الهيل -وهو معارض للنظام القطري مقيم في لندن- بدفع أموال إلى النواب والهيئات الإسرائيلية لحضور مؤتمرات في كبرى فنادق لندن بهدف تشويه سمعة قطر والضغط لسحب تنظيم بطولة كأس العالم عام 2022 منها.

في تقرير لها، قالت المنظمة البريطانية “سبين ووتش” إن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، عقد لقاءات سرية مع ديفيد كاميرون -حين كان رئيساً للوزراء-، مؤكدة أن ابن زايد زار كاميرون بصفة شخصية عدة مرات ما بين عام 2012 وعام 2015 من أجل الضغط على المملكة المتحدة لاتخاذ موقف حول جماعة الإخوان المسلمين وتصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل الحكومة البريطانية.

حذرت الإمارات كاميرون بوضوح حينها بأن “الإخفاق في اتخاذ موقف صارم من جماعة الإخوان المسلمين داخلياً وخارجياً سوف يهدد صفقة الطائرات المقاتلة من طراز “يوروفايتر تايفون”، والتي تصنعها شركة بي إيه إي (والتي تقدر قيمتها بثلاثة مليارات دولار) مع الإمارات العربية المتحدة، وسيهدد مستقبل الامتيازات النفطية التي تحصل عليها شركة بريتيش بيتروليام في الإمارات”.

بعد إلحاح شديد من بن زايد، قررت حكومة المملكة المتحدة تكليف جون جينكينز بإعداد تقريره عن الإخوان المسلمين، لكن التقرير انتقدته وزارة الخارجية البريطانية، موضحة أن الإمارات دفعت لمؤسسات وجماعات من أجل شن حملة ضد جماعة الإخوان المسلمين في المملكة المتحدة.

تدخلات الإمارات لم تقف عند هذا الحد، بل تقدمت مراراً بشكاوى لمكتب رئيس الوزراء في بريطانيا حول السياسة التحريرية لشبكة BBC، حيث زعمت الدولة الخليجية أن النسخة العربية من الشبكة منحازة لجماعة الإخوان المسلمين، مهددة بأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى “حرمان المملكة المتحدة من الصفقات التجارية المجزية”.

هذه الشكاوى دفعت عضو أمناء شبكة BBC اللورد ويليامز أوف باغلان للسفر إلى أبو ظبي عام 2014 لمقابلة وزير الخارجية عبد الله بن زايد والسعي لمراضاة الإمارات العربية المتحدة، وبعد ذلك لوحظ أن قناتي شبكة BBC الإخباريتين باللغتين العربية والإنجليزية أوقفت استضافة عدد من الضيوف المنتظمين لدى القناتين بسبب انتقادهم لسجل الإمارات في مجال حقوق الإنسان، أو بسبب تأييدهم لثورات الربيع العربي.

لوبي إماراتي لتقويض العدالة الدولية

في الخامس والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2021، انتخبت الجمعية العمومية لمنظمة الشرطة الدولية (الانتربول) في جلستها المنعقدة في إسطنبول، المفتش العام لوزارة الداخلية الإماراتي أحمد ناصر الريسي ليصبح الرئيس الجديد للمنظمة رغم اتهامه بالتورط في تعذيب وإساءة معاملة سجناء بينهم مواطنين بريطانيين والتستر على أفراد أمن قاموا بتعذيب سجناء سياسيين.

فوز الريسي جاء على الرغم من كافة المطالبات والدعوات التي أطلقتها الجماعات الحقوقية المختلفة حول العالم لرفض ترشيح الريسي من البداية، مؤكدين أن وجوده بين قائمة المرشحين يعني أن حقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية التي من المفترض أن تحمي الضحايا وتوفر لهم الانتصاف القانوني لم تعد ذات قيمة.

كالعادة، لم يفز الريسي في انتخابات نزيهة وشفافة، بل كان تتويجاً لجهود حثيثة من دولته كي تضمن انتزاع هذا المنصب، في تقويض واضح العدالة الدولية بلا شك.

قبل الانتخابات بفترة وجيزة، قالت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية إنها حصلت على وثيقة مسربة تكشف جهود الإمارات لدعم تولي الجنرال الريسي منصب رئيس الإنتربول، مضيفة أن جماعة ضغط محلية خططت للترويج للريسي في أوروبا والغربي عبر اقتراح التعاون مع 4 مسؤولين بريطانيين سابقين.

جاء في الوثيقة المسربة هي عبارة عن تصور عمل أعدتها جماعة الضغط “بروجيكيت أسوسييتس”، أسماء كل من وزير الدفاع السابق “مايكل فالون” والوزير السابق بالخارجية “اليستر بيرت” والنائب السابق “ريتشارد أوتاوي” والوزيرة العمالية السابقة البارونة “أشتون”.

وكشفت الوثيقة أن”فالون” و”بيرت” و”أوتاوي” ظهروا “كشخصيات مهمة” في جماعة ضغط بريطانية تمت الاستعانة بخدماتها لتسويق “الريسي”.

كما ورد اسم “أشتون”، وكلهم ظهروا في مذكرة أعدتها جماعة الضغط “بروجيكيت أسوسييتس” نيابة عن “الريسي”.

أشارت الوثيقة إلى العلاقة الوثيقة التي تجمع “الريسي” وحاكم دبي “محمد بن راشد”، كنوع من أنواع تقوية موقفه، لكن في الحقيقة بالنسبة للحقوقيين هذه المعلومة كانت سبب قوي كي يُرفض ترشيح الريسي من الأساس، وذلك بسبب السمعة السيئة التي يتمتع بها الشيخ محمد راشد آل مكتوم، والذي كشف قاض في المحكمة العليا البريطانية العام الماضي عن أمره باختراق هاتف زوجته السابقة الأميرة “هيا الحسين” ومحاميتها البارونة “شاكلتون” و3 آخرين، فضلاً عن تورطه في اختطاف اثنتين من بناته حاولتا الهروب من بطشه وقمعه: الأميرة شمسة -المختفية حتى الآن-، والأميرة لطيفة التي حُررت أخيراً من سجن أبيها، لكن لا تزال تفاصيل اختفائها سابقاً ووضعها الحالي غامضة.

كمسؤول بارز في وزارة الداخلية الإماراتية، أشرف “الريسي” على سجن وتعذيب العديد من المعارضين والنشطاء الإماراتيين، أبرزهم أحمد منصور.

الريسي متهم كذلك باعتقال وتعذيب الأكاديمي البريطاني ” ماثيو هيدجز” عام 2018، الذي كان متواجداً في الإمارات لإجراء أبحاث تتعلق بأطروحة الدكتوراة الخاصة به.

اعتقل هيدجر بتهمة التجسس في الإمارات، وطلب منه أن يكون عميلا مزدوجا، وبحسب إفادته، فإن السلطات الإماراتية خدرته وأجبرته على الوقوف “طوال اليوم” مكبلا في الأصفاد.

في تصريحات سابقة لشبكة BBC، قال هيدجز إنه تعرض لنوبات من الذعر وراودته أفكار انتحارية، وأنه اضطر إلى الاعتراف بأنه قاد طائرة “إف 16” حتى يتوقف “التعذيب”.

يُذكر أن الحكومة الإماراتية اتهمت في الماضي بمحاولة “شراء نفوذ” داخل “الإنتربول” عبر التبرع بمبلغ 50 مليون يورو عام 2017 لدعم المنظمة التي تتخذ من فرنسا مقرا لها.