مع تصاعد حدة الانتقادات الحقوقية الدولية للنظام المصري، وشت ردة فعله المُبالِغة في التصعيد عن ظهير خلفي يمنحه الثقة الكاملة في مواجهة تلك الانتقادات، حتى بعدما تُرجمت في شكل قرارات سيادية إثر ضغوط سياسية وإعلامية على مستوي المجتمع الدولي، بلغت من القوة ما جعل حليف النظام المصري، الرئيس الأميركي دونالد ترامب يستسلم بسهولة لقرار الكونجرس بتخفيض المساعدات العسكرية المقدمة إلى مصر بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.
بدا واضحا أن نظام السيسي تسبب في إحراج كبير للرئيس الأميركي، بسبب توسع الأول في انتهاك حقوق الإنسان دون محاولة لإخفاء آثار تلك الانتهاكات. الأمر الذي فسره مراقبون في ظله حملة ترامب الإعلامية التي صاحبت الإفراج عن الناشطة الأميركية في السجون المصرية آية حجازي، إذ ظهر ترامب وكأنه يحاول “فك الارتباط” بينه وبين جرائم النظام المصري.
نظام السيسي إذن بحاجة إلى من يغسل جرائمه أمام المجتمع الدولي، وبدت الحاجة ملحة لذلك بعدما تعددت الأطراف المتضررة من توسع الجنرال في الانتهاكات بشكل غير مبرر ولا مسبوق، إلا أنه من الواضح أنّ “أحدا” تطوّع للدفاع عن الجنرال في المنافذ الدولية، محاولا التخفي، وإن كان معلوما للجميع.
الكشف عن الأوراق
ويبدو أن الأزمة الخليجية سرعان ما اضطرت اللاعب الخفي للكشف عن أوراقه، بعدما أضحى لاعبا أساسيا في الصراع الحقوقي الدولي، إثر توالي انتقادات المنظمات الحقوقية الدولية لنظامه القمعي الذي نجح في إسكات الضمير العالمي عنه فترة طويلة.
الإمارات العربية المتحدة -كفيل الجنرال المصري وولي أمره- باتت في مأزق كبير بعدما كشفت عدة تقارير حقوقية وإعلامية عن دورها المشبوه في توظيف المال لتخفيف حدة الانتقادات الدولية الموجه لها ولتابعتها مصر في مجال حقوق الإنسان.
فقد كشف تحقيق أجرته “الهيئة المستقلة لمراقبة الأمم المتحدة” داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة معلومات عن محاولات سلطات الإمارات الأمنية التلاعب بقضايا حقوق الإنسان وتوظيفها في حصارها ضد جارتها قطر.
وأكد تقرير الهيئة عن وجود تعبئة وضغط سياسيين “لا أخلاقيين” تمارسهما الإمارات عن طريق إغراق المجلس بمعلومات مضللة والضغط على المقررين الخاصين التابعين لمجلس حقوق الإنسان، واعتبر أن الإمارات تقوم بانتهاك القوانين المالية والتجارية السويسرية والأوروبية، وهو ما يعني أن سلطات الإمارات تقوم بعمليات جنائية وإجرامية تستوجب ملاحقة قانونية وأمنية.
ضباط أمن بعباءة حقوقية
لكنّ أكثر ما أبدت الهيئة استغرابها منه، هو توظيف الإمارات أجهزتها الأمنية للعمل على أنها منظمات دفاع عن حقوق الإنسان، وسمى تقرير الهيئة إحدى المنظمات المحلية الرئيسية في الإمارات كمثال على ذلك، وهي “الفدرالية العربية لحقوق الإنسان”، التي اعتبرت أنها “ليست أكثر من قناع للأجهزة الأمنية”.
وقال التقرير إن الإمارات -تحت هذا القناع الإنسانيّ- تستخدم المال السياسي لتقديم رشاوى لأفراد ومنظمات غير حكومية للمساهمة في حملاتها ضد قطر “عبر الضغط على تلك الكيانات لربط الدوحة بمزاعم تمويل ورعاية الإرهاب وانتهاك حقوق العمالة”.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استهجن التقرير الجرأة الإماراتية في تبنى حملات تشويه ضد المنظمات العالمية المعروفة بمصداقيتها ووزنها الكبير في قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان كـ “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية “أمنستي”.
ونقل التقرير عن أحد المسؤولين الدوليين قوله إنه تلقى عرضا من منسق “الفدرالية العربية لحقوق الإنسان” لربط قطر بالإرهاب لقاء مبلغ من المال، الأمر الذي دفعه إلى البحث عن أصل تلك المنظمة، ليكتشف أنها غير مسجلة رسميا، وبالتالي فإنها جهة غير شرعية تقوم بصرف أموال غير معلن عنها، وهو ما يعتبر فساداً مالياً فاضحاً، بحسب وصف التقرير.
تضليل حقوقي
التقرير أبان أيضا عن قيام الإمارات بدفع مبالغ لمنظمات مدنية عربية وإفريقية ومصرية لتكون ظلا لها في مؤسسات الأمم المتحدة لتدافع عنها وعن الجنرال المصري وتتحدث بلسانهما في محاولة لتضليل المنظمات الحقوقية الدولية وضرب مصداقية تقاريرها عبر إحداث حالة من تشويش الحقائق المنقولة عن المنطقة العربية.
وضرب التقرير مثالا لذلك بتجنيد الإمارات لعدد من اللاجئين الأفارقة في سويسرا ليقوموا بالتظاهر ضد قطر، واصفا ذلك بأنه ” تصرّف غرائبيّ لأبعد الحدود”، و”يكشف عن تكالب محموم على تنفيذ أجندات سياسية وأمنية من دون أي اكتراث بأي أعراف أو أخلاق أو قوانين”.
عبد الرحمن نوفل
المملكة العربية السعودية كان لها نصيبها من هذه المعركة، دور رغم خطورته جاء مفتقدا لأدنى أمارات الحيطة والذكاء، فورطت المملكة نفسها في فضيحة أخلاقية من العيار الثقيل، بعدما تنبه نشطاء إلى الخدعة التي أرادت لها أن تنطلي على المجتمع الدولي كله.
وشرعت المملكة في اختلاق كيانات وصفتها بالحقوقية، فيما اتضح بعد أنها لا تعدو كونها كيانات “وهمية” ، ولعل أبرز مثال على ذلك ما نقلته فضائية العربية عن من أسمته “رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا”، عبدالرحمن نوفل.
خطورة ادعاءات نوفل استدعت البحث عن هويته، الأمر الذي كشف عن كواليس مؤامرة تضليل كبيرة، إذ كشف النشطاء عن أن نوفل (واسمه الحقيقي: عبد الرحمن شوشار – فلسطيني الجنسية) لم يتحصل على أية شهادة جامعية، فضلا عن أن يكون لها علاقة بالقانون أو العمل الحقوقي، وأنه لاجيء في جينيف منذ سنوات ويعيش حياة رفاهية كبيرة حسبما أظهرت الصور التي نشرها على حسابه في أنستغرام بصحبة رفيقاته “الجينيفيات”.
لكن الفضيحة الأبرز كانت لحظة تحوّل شوشار (أو نوفل) إلى حقوقي بارز، ومدير لكيان حقوقي كبير، فقد كشفت صورة له على حسابه القديم جمعته بوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، الأمر الذي أثار شكوكا حول علاقته بالمخابرات السعودية وأنظمتها الأمنية.
لاحقا، تبين أن شوشار كان يعمل -حتى وقت قريب- مراسلا للفضائية الإخبارية السعودية الرسمية، حيث ما تزال صوره في منصة موقع القناة على الإنترنت حتى اللحظة، بينما أخوه الأكبر –وشريك “نضاله” الحقوقي الوهمي- يعمل مراسلا لصالح النسخة الاقتصادية السعودية منها.
وفي وقت تسعى الأجهزة الأمنية المصرية (المكفولة إماراتيا) لتصدير منظمات بديلة موالية لها من الباطن، سرعان ما قفز اسم الرئيس الحالي للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ,عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، حافظ أبو سعدة.
وعن نشاط أبو سعدة، يقول الكاتب المصري، وائل قنديل: “لن يجد نظام السيسي عناء في إيجاد حقوقيين من نوعية حافظ أبو سعدة، يظهرون وكأنهم في لقطات إعلانية عن السجون، كمنافس لأكبر المطاعم في مصر، ويبتسمون في سفور أمام الكاميرات، ومذاق الطعام ونكهته وجودته تكاد تذهب برؤوسهم، على نحو يدعو محلات الكباب الشهيرة للقلق على مستقبلها في السوق”.
وتابع في مقال له: “المنطق الذي جعل أساتذة جامعات وأطباء كباراً ينتظمون في فرق الترويج لاختراع علاج الإيدز بالكفتة، باعتباره إعجازاً علمياً لا مثيل له، هو نفسه الذي يجعل حافظ أبو سعدة وفرقته يتحدثون عن فخامة السجون وروعة مذاق مأكولاتها، كأماكن منافسة لأشهر المقاصد السياحية في العالم”.
علاء شلبي
كان علاء شلبي، يوصف قبل سنوات بأنه “ناشط سياسي” يؤيد تحركات الجيش المصري ويصفها بالثورة، لكن سرعان ما تحول فجأة إلى لقب جديد “الحقوقي البارز”، وبين هذا وذاك، يتضح الدور الذي أراد علاء لنفسه لعبه في النسخة الجديدة من نظام مبارك.
وقدّم شلبي أحدث المحاولات الأمنية لتجاوز الحصار الحقوقي الدولي على مصر، عبر الدعوة لتشكيل وزارة لحقوق الإنسان، في اقتراح تقدم به شلبي، خلال مؤتمر للهيئة العامة للاستعلامات، التي عقدت مؤتمرا، للرد على انتقادات “رايتس ووتش” من خلال استضافة بعض المنظمات الحقوقية الموالية للنظام الحالي.
وقال شلبي: “إننا ما زلنا في حاجة لأن يكون هناك وزارة لحقوق الإنسان في مصر، لمتابعة كل ما يخص شؤون حقوق الإنسان، ومواجهة أي تقارير مشبوهة تصدر ضد مصر”، مضيفا: “تقدمنا من قبل بهذا المقترح ومازلنا نطالب به في الوقت الحالي”، لافتا أنه لابد أيضا من إعادة النظر في قانون الجمعيات الأهلية، لأنه غير مرضي بالدرجة الكبرى.
داليا زيادة
هذه المرة، لم تكذب صحف النظام حين وصفت داليا زيادة مدير المركز المصرى لدراسات الديمقراطية الحرة، بالناشطة السياسية، فالفتاة كانت حاضرة في الإعلام قبل سنوات مع الناشط أحمد دومة، الذي يبدو أن لحظة التحول في مسيرتيهما كانت واحدة.
أحداث انقلاب 3 يوليو مثلت تحولا كبيرا في مسيرة داليا، لتتحول من ناشطة ضد حكم العكسر، إلى متحدثة دولية بلسان النظام ومدافعة عن انتهاكاته في كل محفل دولي، ميزة جديدة منحتها فرصة للسفر إلى البلاد الغربية هنا وهناك، والاسم: ناشطة حقوقية مستقلة.
إن أكثر ما يثير الريبة حيال تحركات منظمات النظام البديلة، المدعومة إماراتيا، هو أن تحركاتها دائما ما ترتبط فقط بالرد على التقارير الدولية سواء الرسمية وغير الرسمية، دفاعا عن النظام الحالي، ولم تحاول –ولو مرة- أن تبرز تحركا حقوقيا مرتبطا بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، أو خدمة الشعوب وليس الأنظمة السياسية.
إقصاء للمنظمات الحقوقية
غير بعيد، بدا أن أجهزة الأمن في الإمارات ومصر والسعودية قد استوعبت خطة مواجهة الاتهامات المتزايدة لها بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان والتعذيب، فبدلا من تعقب أجهزة الأمن لأخطائها والقضاء على أسباب الاتهامات الموجهة لها، اختارت أن تتعقب أولئك المدافعين عن حقوق الإنسان، وأن تقضي على منظماتهم التي يعملون فيها.
في مصر، بدأ التحقيق في قضية تمويل منظمات محلية وأجنبية في يوليو 2011، بعد 5 أشهر من تنحي الرئيس الأسبق، حسني مبارك، وأدى إلى إدانة وإغلاق مكاتب 5 منظمات دولية غير حكومية، ويتولاه حالياً لجنة من 3 قضاة اختارتهم محكمة استئناف القاهرة بناء على طلب وزارة العدل.
وأصبحت مقاضاة قيادات المنظمات غير الحكومية المصرية، على خلفية اتهامات مرتبطة بنشاطاتهم في مجال حقوق الإنسان تشكل خطرًا وشيكًا على استمرار عمل تلك المنظمات في مصر؛ فعلى مدى الشهور الثلاثة الأخيرة، أصدر قضاة التحقيق في القضية المعروفة إعلامياً بـ”قضية التمويل الأجنبي”، أربعة أوامر جديدة بالمنع من السفر بحق حقوقيين مصريين.
وفي الأشهر الستة الماضية نالت تلك الإجراءات من 12 منظمة حقوقية مستقلة على الأقل، ما بين قرارات بالمنع من السفر، وأوامر بتجميد الأموال، واستدعاء للعاملين بتلك المنظمات ومديريها، بالإضافة إلى قرارات بالغلق لبعضها.
وبناءً على تلك القرارات، ارتفع إجمالي الحقوقيين الممنوعين من السفر على خلفية القضية إلى 12 حقوقياً وحقوقية، فضلاً عن استدعاء 5 آخرين للتحقيق، ليصبح إجمالي المطلوبين للتحقيق بشأن نشاطهم الحقوقي 17 شخصًا.
خطة ممنهجة
وخلال الشهور الماضية أيضا، عملت السلطات الأمنية المصرية بشكل ممنهج على التضييق على المنظمات الحقوقية والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، مما دفع كثيرين من المحامين الحقوقيين للتحول من الدفاع عن المعتقلين إلى المطالبة بالإفراج عن زملائهم وإيقاف حملات تعقبهم، والدفاع عن أنفسهم ومنظماتهم، بدلا من الانشغال بانتقاد النظام أو الدفاع عن حقوق المظلومين وقضايا السياسيين.
وعمدت الأجهزة الأمنية المصرية لتشويه صورة المنظمات الحقوقية المحلية، عبر حملة إعلامية ممنهجة تستهدف ربطها بتلقي تمويلات خارجية أغلبها من قطر، أو محاولة لصقها بجماعة الإخوان المسلمين الخصم السياسي الأبرز للنظام العسكري الحاكم.
المصرية للحقوق والحريات
في 25 إبريل 2016 اعتقلت قوات الأمن المصرية رئيس مجلس أمناء المفوضية المصرية للحقوق والحريات أحمد عبد الله، والذي عمل بشكل استشاري مع محامي أسرة ريجيني بالقاهرة، ووجهت له اتهامات باستخدام القوة لقلب نظام الحكم.
بدورها، أعربت أسرة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني؛ عن قلقها من وجود عوائق ومخاطر يتعرض لها من يساعدها في تسليط الضوء على قضية مقتل ابنها في القاهرة، وقالت العائلة في بيان مشترك مع المفوضية إنها «تشعر بقلق عميق حول محاميها ومستشاريها في القاهرة».
وصرحت باولا وكلاوديو ريجيني والمحامية اليساندرا باليريني في بيان: “مرة أخرى، يبدو أن حرية وسلامة الذين يساعدوننا في تسليط الضوء على موت جوليو معرضة للخطر»، منددة بمحاولات الحكومة المصرية إغلاق مكتب المفوضية بالقاهرة واعتقال رئيسها.
الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
وقبل عدة أشهر، قامت السلطات الأمنية تحت غطاء قضائي بالتحفظ على أموال مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في مصر «جمال عيد»، وذلك ضمن عديد من المدافعين عن حقوق الإنسان والمؤسسات الحقوقية المستقلة في القضية السياسية المعروفة بـ«قضية المجتمع المدني رقم 173».
وقالت الشبكة العربية في بيان لها إن تلك القضية ما كانت إلا «جزءاً من حملة عنيفة يشنّها النظام المصري المُمعِن في عدائه لحقوق الإنسان والديمقراطية، وبالطبع ثورة يناير».
تنمية الديمقراطية المصرية
وشملت قرارات المنع من السفر وتجميد الأموال أيضا المحامي والناشط الحقوقي نجاد البرعي رئيس مجلس إدارة مؤسسة “تنمية الديمقراطية المصرية” الذي منعته سلطات الأمن في مطار القاهرة الدولي من السفر إلى الأردن، وأرجع البرعي هذا الإجراء لدوره في مناهضة التعذيب.
وقال البرعي في تصريح صحفي إن السلطات لم تحطه علما بالسبب الذي منع من أجله من السفر. لكنه أضاف أنه يواجه اتهامات بينها تعطيل مؤسسات الدولة من أداء مهامها بعد مشاركته عام 2015 في صياغة مشروع قانون لمنع التعذيب.
اضف تعليقا