العدسة – جلال إدريس

“قضية التحرش الجنسي” واحدة من أزمات كثيرة تتعرض لها النساء السعوديات، خصوصًا العاملات منهن، إلا أن السلطة الحاكمة تفرض حالة من التكتم والصمت الشديدين على تلك القضية، حتى أصبح طرحها في وسائل الإعلام من المحظورات.

ورغم معاناة الكثير من النساء من تلك الظاهرة، وتقديم الآلاف منهن شكاوى ضد القضاء السعودي لتعرضهن للتحرش الجنسي، إلا أنّ السلطة تصر أن تتعامل مع تلك القضية بتكتم وحظر شديد خصوصا في ظل حالة الانفتاح الكبرى التي يتبناها “ولي العهد السعودي محمد بن سلمان” والتي يخشى الكثيرون أن يتزامن معها ارتفاع وتيرة التحرش.

ومؤخرا كسرت عضوات بمجلس الشورى السعودي القيد حول التحدث في تلك القضية؛ حيث تحدثن بجرأة عن تلك الظاهرة المجتمعية وطالبن بسن قوانين وتشريعات تحد منها، وتعاقب مرتكبيها كما هو الواقع في كثير من بلدان العالم.

“العدسة” تتناول في هذا التقرير ظاهرة التحرش الجنسي في السعودية، وأسبابها، وإلى أين تتجه، وما السر في ازديادها مؤخرا، وما هي أبرز الإحصاءات والأرقام التي تحدثت عن “التحرش” في السعودية؟

اكسروا حاجز الصمت

داخل جامعة الطائف، وقفت عضوة مجلس الشورى “نورة فيصل الشعبان” وهي ترفع إصبعي السبابة والوسطى، الدالة على شارة النصر في ندوة خصصتها جامعة الطائف الثلاثاء (27 فبراير 2018) لمناقشة قضية التحرش، باعتبارها من القضايا الحساسة (المسكوت عنها) التي يخجل الكثيرون من تناولها.

عضوة الشورى، رفعت شارة النصر، لتبرز أهمية مناقشة «مكافحة التحرش في ضوء النظام»، ورضاها التام عما يتم تناوله تحت سقف واحد في ندوة علمية مفتوحة، نظمها كرسي الأمير خالد الفيصل للالتزام بالنظام واحترامه بجامعة الطائف، حضرها جمع من الأكاديميين والأكاديميات ممن يمثلون الجامعة وقطاعات حكومية أخرى، أبرزهم ثلاث عضوات من الشورى، ومسؤول من النيابة.

الحضور في الندوة تحدثوا عن التحرش في السعودية، مروراً بأسبابه وأساليبه المتضمنة لغة العيون واللمس، أو حتى استغلال التواصل الاجتماعي.

وبينما كان يطرح المتحدثون القضايا بجرأة كان يرد عليهم الحضور بتصفيق حاد، في كثير من المداخلات، أبرزها الإشادة بمفردات شبابية استخدمتها عضو مجلس الشورى نائب اللجنة الأمنية نورة فيصل الشعبان، لتكسر بها روتين الكلمات في تحيتها للشباب والشابات.

ونجحت الشعبان في تسليط الضوء على تبادلية التحرش، مؤكدة أنه لا يقتصر على جنس بعينه ضد آخر، وقالت: «ليس مقتصرا على الرجال دون النساء، بل هناك نساء يتحرشن بالرجال»، متطرقة لأساليب التحرش قولاً وفعلاً، نظرة وغمزة ولمسة، وكلها من الأفعال المشينة التي واجهها نظام الحماية من الإيذاء، بعدما كان الحديث عنها محفوفاً بالكثير من الحياء والخجل.

ودعت الشعبان إلى التمسك بالقيم والعادات، باعتبارها جدار الوقاية الأول دون الوقوع في موجة الذوبان في الانفتاح، وأضافت: «دعونا نعُد لحياة وعادات الطيبين»، مطالبة بإدراج مقرر دراسي عن التحرش، وتكثيف البرامج الإرشادية.

3 آلاف قضية تحرش سنويا

لا توجد إحصائية دقيقة بإجمالي تلك القضايا، خصوصا أن كثيرا من اللاتي يتم التحرش بهن يتكتمن على الأمر ولا يصرحن به، غير أن أرقام صدرت عن جهات رسمية وغير رسمية تكشف بصورة أو بأخرى عن حجم الكارثة وتفشي الظاهرة في المجتمع السعودي.

فعلى سبيل المثال اعترفت جمعية حقوق الإنسان السعودية، بتنامي حالات التحرش، وكتبت في تقريرها السنوي لعام 2016، أنها رصدت أكثر من أربعة آلاف حالة تحرش، محذرة من أن التحرش داخل الأسرة، بدأ يطفو على السطح من خلال قضايا كثيرة سُجّلت أخيراً لدى الجهات المختصة بالتحرش الأسري.

كما كشفت إحصائية صادرة عن وزارة العدل السعودية خلال عام 2015 أن عدد قضايا التحرش استدراج حدث ومضايقة نساء بلغ 2797 قضية في محاكم المملكة خلال عام.

وتصدرت محاكم منطقة الرياض بواقع 650 قضية، ثم محاكم منطقة مكة المكرمة بواقع 430 قضية، وبعدها محاكم المنطقة الشرقية بـ210 قضايا، ومحاكم منطقة المدينة بـ170 قضية، بينما نظرت المحاكم الأخرى قضايا التحرش بالنساء والحدث بأعداد متقاربة.

وبلغ عدد قضايا السعوديين المتهمين بالتحرش 1669 قضية، فيما بلغ عدد قضايا غير السعوديين المتهمين بالتحرش 1128 قضية.

فيما كشف المؤشر الإحصائي لوزارة العدل في إحصائية حديثة أخرى صادرة أيضاً عن الوزارة أن المحاكم الجزائية استقبلت في العامين 1435-1436هـ 3982 قضية تحرش وإيذاء، بمعدل 6 حالات تحرش يومياً، وهي حالات تحرش بالنساء واستدراج أحداث، وجاءت الرياض في مقدمة مناطق المملكة العربية السعودية من حيث قضايا التحرش المسجلة لدى المحاكم بـ1199 قضية، تليها مكة المكرمة بـ494 قضية، ثم الشرقية بـ335 قضية، تليها المدينة المنورة بـ275 قضية.

التحرش في السعودية أعلى من أمريكا

وبحسب تقرير بثته وكالة أنباء رويترز قبل عدة سنوات، فإن السعودية احتلت المركز الثالث عالمياً في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل بين 24 دولة أجري بحث عليها من قبل شركة عالمية بتكليف من وكالة الأنباء، وشملت 12 ألف موظفة من دول المسح، وأن 16% من النساء العاملات في السعودية، تعرضن للتحرش الجنسي من المسؤولين في العمل.

وبيّن أيضاً أن نسبة التحرش في السعودية، أعلى بكثير منها في الولايات المتحدة وفرنسا والسويد وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأستراليا وإسبانيا.

وأوضحت الدراسة الميدانية أن النسبة الأكبر من الموظفات اللواتي يتعرضن للمضايقات الجنسية أو التحرش الجنسي المتعمد في العمل تقل أعمارهن عن 35 عاماً، ويأتي المسح الميداني بعد بروز عدد من قضايا حالات التحرش الجنسي في العمل على وسائل الإعلام العالمية.

الدولة تتحمل المسؤولية

وبالرغم من أن البعض يرى أن “التحرش الجنسي بالمرأة” هي ظاهرة مجتمعية تتحملها أخلاقيات المجتمع وقيمه، فإن كثيرين يحملون السلطة السعودية مسؤولية تفشي التحرش الجنسي بالمرأة وانتشاره وذلك لعدة أسباب:

السبب الأول: حين كانت السلطات السعودية ترى أن انغلاق المجتمع وإظهار جانب التدين فيه هو الصواب، صبت الدولة لجام غضبها على العري والانحلال، وحاربت كل أشكال الانفتاح، حتى إن السعودية ظلت تحرم لعقود طويلة قيادة المرأة للسيارة، فضلا عن أنها استغلت (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في تسليطها على المجتمع لإرهابه وتخوفيه، الأمر الذي فرض حالة من التدين الظاهري المغشوش، سرعان ما تنهار تلك الحالة عند مئات الشباب بمجرد ما يشعرون أنهم باتوا بمفردهم ولا رقيب سلطويا عليهم.

وفي المقابل حين رأت السلطة الجديدة المتمثلة في محمد بن سلمان ولي العهد بالمملكة أن الانفتاح والعلمانية هي الأفضل للحفاظ على كرسي الحكم، سرعان ما فتحت الدولة أبواب الانحلال والانفتاح في المجتمع السعودي على مصرعيه، فقررت إنشاء المسارح والسينما، وعمل حفلات غنائية وموسيقية مختلطة، وتنازلت عن كل ثوابتها القديمة، فضلا عن تجريد “هيئة الأمر بالمعروف” من كل سلطاتها.

خلف التناقض بين حالتي “الانفتاح والانغلاق” في السعودية صورة ذهنية مشوهة لدى كثير من الشباب السعودي، وبدا الكثير منهم ينظر للمرأة على أنها “الممنوع المرغوب” وأًصبحت المرأة في بلاد الحرمين كالسلعة التي تساوم عليها السلطة وتبتز بها المجتمع حتى انتشرت حالات التحرش الجنسي والاغتصاب والاختطاف لنساء وفتيات صغيرات في السن.

غياب القوانين الرادعة

السبب الثاني الذي يراه مراقبون أنه ضمن أسباب التحرش في السعودية، ويلقي بالمسؤولية على الدولة، هو غياب القوانين الرادعة التي تعاقب المتحرش.

ولأكثر من عقد، ظلت السعوديات يشتكين من التحرش، ويطالبن بقانون صارم ورادع، غير أن جهات دينية، كانت تقف في وجه سَنّ مثل هذا القانون.

ومنذ 2008، والقانون حبيس أدراج مجلس الشورى السعودي، وقد أُحيلَ إلى لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية في المجلس، بعدما رأى أعضاء في المجلس أن هذا القانون يُعزّز مفهوم الاختلاط.

وتؤكد مصادر في مجلس الشورى أن مشروع القانون الذي ما زال يراوح مكانه، سيعتبر: “أي سلوك بهدف التحرش سواء كان قولاً أو فعلاً أو حتى إشارة أو موقفاً أمراً موجباً العقاب، إذا كان الهدف منه الإيقاع الجنسي بالطرف الآخر، أو إهانته أو استفزازه أو تحقيره بسبب جنسه أو مجرد خدش حياء الأذن أو خدش حياء العين”.

تنامي تلك الحوادث، دفع الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى إصدار أمر ملكي بسن قانون لمكافحة التحرش، يوضح نوعه، ويحدد العقوبات اللازمة التي تمنع وبشكل قاطع مثل هذه الأفعال، لكن ما زال القانون ينتظر النور.

وكل مرة تنتشر مقاطع فيديو لشباب يتحرشون بفتيات، تتعالى الأصوات التي تطالب بسرعة إصدار قانون التحرش. وفي بعض الحالات، نال متحرشون نصيبهم من الضرب بأيدي نساء، ولكن ما يريده الحقوقيون، هو قوانين رادعة تضع حداً لهذه الظاهرة المتزايدة في المجتمع المحافظ بطبعه.