العدسة – معتز أشرف

وقفت بريطانيا الشعبية في مواجهة بريطانيا الرسمية، تناهض زيارة الديكتاتور الشاب محمد بن سلمان، وتستنكر التصريحات الرسمية الدبلوماسية بطريقة زائدة في مواجهة الجرائم المتصاعدة التي تقودها السعودية منذ وصول الشاب الثلاثيني لسدة ولاية العهد بانقلاب ضد ابن عمه، ولكن بريطانيا الرسمية لازالت تسقط في تناقض أخلاقي واسع لازال يلقي بظلاله على المشهد، حيث تقدم زعيم حزب العمال البريطاني المعارض «جيريمي كوربن»، بقصف قوي لمنصة رئيسة وزراء بلاده «تيريزا ماي» وطالبها بإعلان وقف إمداد السعودية بالسلاح ومعارضة بريطانيا لانتهاك حقوق الإنسان الواسعة بالسعودية.

الأزمة البريطانية!

وفي ظل الأزمات البريطانية حافظت لندن على التواجد السعودي مهما كان النقد، وذلك بحسب دراسة حديثة بعنوانأوروبا ومحمد بن سلمان.. مستقبل العلاقات السعودية الأوروبية، ففي ظل حكومة «ديفيد كاميرون» المحافظة، بلغت مبيعات الأسلحة البريطانية إلى السعودية نحو 6 مليارات جنيه إسترليني، وكانت بريطانيا بحاجة إلى تعزيز تجارتها مع الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص، بعد الأزمة المالية عام 2008 مباشرة، وبضغط من السعودية والإمارات العربية المتحدة، أمر رئيس الوزراء البريطاني بإجراء تحقيق بشأن جماعة الإخوان المسلمين في بريطانيا، بهدف حظر الجماعة الإسلامية، والحد من انتشارها العالمي، وكانت السعودية حريصة على حرق الأرض تحت أقدام الإخوان في مصر بعد انتفاضة عام 2011، وتم حظر الجماعة في السعودية نفسها، ولم يعثر التحقيق الذي قاده السفير السابق في المملكة «جون جينكينز» على أية علاقة واضحة للجماعة بالإرهاب، ويواصل الإخوان المسلمون حضورهم تنظيميًّا في بريطانيا، واستغرق الأمر عدة أشهر من الحكومة البريطانية لإطلاق المعلومات التي تم جمعها خلال فترة التشاور، ولم تكن السعودية مسرورة بنتائج التقرير.

وأصبحت حملة البحث عن علاقات أوثق مع المملكة أكثر إلحاحا بعد الاستفتاء البريطاني عام 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي، حيث أصبح من المؤكد أن الاقتصاد البريطاني سيواجه إمكانية التقلص بعد خروجه من الاتحاد الأوروبي، وقد التزمت رئيسة الوزراء «تيريزا ماي» بتعهدها بأن تظل صديقة للسعوديين بامتناعها عن اتخاذ أي إجراءات أو الإدلاء ببيانات من شأنها أن تحرجهم على الساحة الدولية، وعلى غرار الزعماء الأوروبيين الآخرين، هرعت إلى زيارة السعودية كجزء من جولة خليجية، وفي أبريل/نيسان عام 2017، وصلت إلى الرياض (قبل ترامب)، وسعت إلى تعزيز العلاقات التجارية مع المملكة.

وفي الآونة الأخيرة، واصلت «تيريزا ماي» حظر نشر تقرير التحقيق الداخلي في الرعاية السعودية للأيديولوجية الدينية الراديكالية في بريطانيا، ويعتقد بأن «تيريزا ماي» لا تزال تقاوم تعريض السعودية لمزيد من النقد سواء في بريطانيا أو أوروبا. وقد يؤدي الإفراج عن التقرير إلى تقويض العلاقات مع الرياض في لحظة حاسمة بالنسبة لبريطانيا، في الوقت الذي تسعى فيه لشركاء تجاريين جدد لتعويض خسائرها المتوقعة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ومنذ عام 2015 عندما بدأت السعودية ضرباتها الجوية على اليمن، تعرضت بريطانيا لضغوط متزايدة من اللجان البرلمانية ومنظمات المجتمع المدني التي تعارض بيع الأسلحة للدول التي لا تحترم حقوق الإنسان وانتهاك القانون الدولي من خلال التدخلات العسكرية غير القانونية في الخارج، وأصبح هذا الأمر ملحا بعد أن أطلق «محمد بن سلمان» هجومه باستخدام القنابل العنقودية البريطانية وغيرها من الأسلحة المحظورة، وقد دفعت أعداد القتلى من المدنيين في اليمن، التي تقدر بأكثر من 10 آلاف، والأزمة الإنسانية الناجمة، الرأي العام البريطاني لرفض بيع الأسلحة، ولكن منطق الحكومة البريطانية لا يزال ثابتا: «إذا لم نبع الأسلحة للسعوديين، فسوف يفعلها الفرنسيون».

السلاح يحكم!

بحسب أرقام رسمية يُعتبر الدعم البريطاني للسعودية أكثر من تاريخي ويتوقف علي لهثه وراء دفاتر الشيكات السعودية، حيث تُمثل بريطانيا واحدًا من أكبر مُصدري المعدات الدفاعية إلى السعودية لأكثر من 40 عامًا، بما في ذلك ما يعرف بصفقة اليمامة عام 1980، ومنذ بدء العدوان السعودي على اليمن أصدرت بريطانيا تراخيص لبيع طائرات وذخيرة ومعدات بأكثر من ثلاثة مليارات جنيه إسترليني، أي ما يقارب 3.9 مليارات دولار أمريكي، وعند الأزمة خرجت بريطانيا لتُثبت حجم الفجوة بين الطبقة الحاكمة في بريطانيا، والتي تدعي احترام حقوق الإنسان، والشعب البريطاني الرافض لسياسات دولته، وهو ما ظهر من خلال رفض المحكمة العليا البريطانية، طلب ناشطين بريطانيين يعملون على استصدار قرار بمنع تصدير السلاح البريطاني إلى السعودية، بسبب انتهاكات العدوان على اليمن، الأمر الذي أحدث جدلًا واسعًا حول أولوية المصالح البريطانية السعودية على حساب حقوق الإنسان، خاصة في ظل ما نشر في أواخر العام 2016، في صحيفة “تليجراف” البريطانية، من تصريحات لوزراء الدفاع والتنمية والتجارة البريطانيين، وصفتها بغير المسبوقة، حيث أكدوا التزامهم مواصلة مبيعات الأسلحة إلى السعودية، وهو الأمر الذي أثار جدلًا في بريطانيا، خصوصًا أن هذا القرار جاء معارضًا للتوصيات التي رفعتها لجنتان في البرلمان البريطاني، والتي أوصت بوقف الدعم العسكري للرياض، لأسباب تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها السعودية في اليمن، ووصل الجدل في 2016 إلى حضَّ البرلمان الأوروبي على فرض حظر على تصدير السلاح إلى السعودية، داعيًا بريطانيا وفرنسا وحكومات دول الاتحاد الأخرى إلى التوقف عن بيع الأسلحة إلى دولة تُتهم باستهداف المدنيين في اليمن، فيما شهد عام 2017 اتصالات سعودية بريطانية، هدفت لمنع حصول حظرٍ لمبيعات الأسلحة البريطانية للسعودية، لاسيما بعد تنديدات أممية بانتهاكات الرياض الإنسانية في اليمن، لكن بريطانيا فضَّلت الاستمرار في مصالحها مع السعودية، ولم تر حتى أي دليل على وجود خطر جدي من شأنه أن ينتهك القانون الإنساني الدولي في حالة تصدير الأسلحة للسعودية.

الاقتصاد يشتري!

وبحسب تقارير رسمية سعودية ، فبريق الاقتصاد خطف أنظار القصر الملكي في بريطانيا وحكومتها، حيث تعد المملكة شريكًا رئيسيًّا لبريطانيا باعتبارها أكبر سوق في المنطقة للدول الاقتصادية الكبرى، وتشير الإحصاءات الخاصة بحجم التبادل التجاري إلى زيادة الصادرات السعودية إلى بريطانيا نسبيًّا، حيث بلغت نحو 5 مليارات ريال، بخلاف الارتفاع الملحوظ للصادرات البريطانية للمملكة، والتي وصلت إلى نحو 26 مليار ريال، وذلك لعام 2016، وتمثل المواد البترولية ومشتقاتها أهم الصادرات السعودية إلى بريطانيا من حيث القيمة، وتليها معدات النقل وماكينات توليد الكهرباء والبلاستيك الخام وماكينات التصنيع العامة. وتتصدر ماكينات توليد الطاقة ومعداتها الصادرات البريطانية من حيث القيمة إلى المملكة، بالإضافة إلى قطع غيار الطائرات والسيارات والحديد والصلب، أما في جانب الاستثمارات الأجنبية في المملكة، فتحتل بريطانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية ويقدر حجم استثماراتها المباشرة والمشتركة نحو 72 مليار ريال من ضمنها مساهمتها في 200 مشروع مشترك، بينما يقدر حجم الاستثمارات السعودية في بريطانيا نحو 21.6 مليار ريال، وهو الأمر الذي دفع كون كوجلين، محرر الشؤون العسكرية في صحيفةديلي تليجرافالبريطانية، إلى القول أنه مع اقتراب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث تسعى الحكومة لإيجاد فرص تجارية جديدة، ولهذا يتوجب عليها أن تعرف من يخدم مصالحها ومن يعاديها، معلقا: “ما يخدم المصالح البريطانية ليس بيع المقاتلات لقطر، ولكن توطيد الصلات مع حلفاء مثل السعودية”، كما دفع أليستر بيرت وزير شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية البريطانية إلى القول إن لندن تساند تحقيق برنامج الإصلاح الطموح في السعودية، الرؤية 2030، كما أنها تؤكد الحاجة لتسوية الخلاف الذي مازال مستمرًّا مع قطر، وضرورة مضاعفة الجهود لإنهاء الحرب في اليمن.

توترات عابرة!

أزمات عابرة عديدة في الفترات الأخيرة شهدتها علاقات البلدين، ضحت فيها لندن بمواطنيها وقيم حقوق الإنسان مقابل مصالحها الاقتصادية، ومنها أزمة اعتقال ومحاكمة المسن البريطاني كارل أندريه، بسبب امتلاكه خمورًا منزلية الصنع، وهو ما أدى للحكم عليه بالجلد، وفضيحة فيلم “موت أميرة”، الذي سجل عام 1980، لإعدام أميرة سعودية وعشيقها بتهمة الزنا، وهي الأزمة التي أدت لقيام الرياض بطرد السفير البريطاني لديها، وفرض عقوبات اقتصادية على لندن، وفضيحة صفقة اليمامة عام 2006، وتهديد الرياض بقطع العلاقات الاقتصادية مع لندن إذا لم تفرض الحكومة إلغاء التحقيقات المتقدمة في ذلك الوقت في اتهامات بالفساد والرشوة طالت مسؤولين سعوديين وبريطانيين في صفقة أسلحة بريطانية.
وبحسب “الجارديان” فإن بعض التوترات العابرة التي كانت تحكم علاقة البلدين، مؤكدة أن العلاقات بين البلدين كانت تشهد دوما أزمات بسبب الصراع في لندن بين قيمها الديمقراطية ومصالحها الاقتصادية، حيث تقوم العلاقات بين البلدين في الأساس على الشراكة الاقتصادية بما في ذلك مبيعات الأسلحة والصلات الأمنية السرية والتى يعتبرها الجانبان أساسية، خاصة في الأوقات التي تشهد فيها العلاقات اضطرابا، مؤكدة أن العلاقات بين لندن والرياض شديدة الأهمية، حيث إن المملكة العربية تعتبر أكبر سوق لتصدير الأسلحة البريطانية بعدما عقدت صفقات بما قيمته 4 مليارات جنيه إسترليني في الفترة من 2010 إلى 2015، كما يتشارك البلدان في نحو 200 مشروع اقتصادي تصل قيمتها الإجمالية إلى نحو 17.5 مليار دولار كما أن هناك ما يزيد على 20 ألف بريطاني يعيشون ويعملون في المملكة.