العدسة – ربى الطاهر

جذبت بلدة مونوي انتباه وسائل الإعلام العالمية بعد مرور14عامًا على السيدة إلسي إيلير، البالغة من العمر84 سنة، تعيش بمفردها في بلدة خالية تماما من السكان.

وتقول “إيلير”، التي جمعت أربعة سجلات تحتوي جميعها على توقيعات الزائرين من كل بقاع الأرض، الذين جاءوا ليشاهدوا تلك المرأة، وتلك البلدة التي لا يوجد بها شخص آخر غيرها: “إن هذا الأمر يجعلني أشعر بالفخر لأنني استطعت جذب أنظار العالم إلى بلدتي الصغيرة هذه، وكذلك جلب الاهتمام بها”.

وقد أكدت الإحصائيات الأمريكية الخاصة بتعداد السكان، أن بلدة مونوي هي المكان الوحيد في الولايات المتحدة الأمريكية، التي يبلغ عدد سكانها شخصًا واحدًا فقط!، وعليك أن تذهب إلى تلك الأطراف الشمالية النائية لولاية نبراسكا الأمريكية، لتجد ذلك الطريق الترابي الوعر الذي يمر وسط الأراضي الخضراء، وحقول القمح الذهبية، حتى تتمكن من الوصول إلى بلدة مونوي.

وهناك ستكتشف منزل السيدة “إيلير” الوحيد، الذي يعج بالحياة رغم هدوئها.. ذلك المبنى الأبيض الذي يبدو أنه لم يدهن مجددا منذ سنوات طويلة، حيث تلك الحوائط التي تكسوها القشور البيضاء بجميع جوانبها بعد سقوط طلائها من الخارج، ويقع وسط مجموعة من البيوت المهجورة الهالكة، في قلب البلدة أمام تلك الكنيسة التي هي بدورها مهجورة وتمتلئ جوانبها بإطارات الجرارات الزراعية القديمة، وبجانبه أيضًا مخزن مهجور للحبوب.

ووسط  كل هذا الخراب تعيش “إيلير”، التي تشغل الآن كل المناصب الإدارية بالبلدة، بداية من منصب العمدة، ومرورًا بالموظفة الإدارية الوحيدة، وأمينة الصندوق، وأمينة مكتبة البلدة كذلك، فهي الشخص الوحيد الذي يحيا في أصغر بلدة أمريكية في الوقت الحالي، كما تقوم “إيلير” كذلك بدفع الضرائب لنفسها، بل إنها تصوت لنفسها بانتخابات العمدة، حيث لا يوجد مرشحون ولا مصوتون سواها.

عمدة لخدمة نفسها

ففي كل عام في نفس الوقت الذي يحين فيه موعد الانتخابات، تقوم “إيلير” بتعليق اللافتة التي تعلن عن انتخابات اختيار العمدة على مقر النشاط التجاري الموجود بالبلدة، وهو تلك الحانة التي تديرها بنفسها، ثم تقوم بعد ذلك بإجراء عملية التصويت لصالح المرشح الأوحد الموجود بالبلدة بالطبع.

وهو ما يترتب عليه تقديم خطة سنوية لإدارة الشؤون المحلية في مونوي، وذلك هو ما يحمي حصة البلدة في التمويلات المقدمة من الولاية.

كما تقوم “إيلير” بتحصيل الضرائب المستحقة عن نفسها والتي تصل إلى 500 دولار سنويا، وهو ما يضمن لها استمرار تلك الخدمات الحكومية التي تتمثل في إضاءة ثلاثة أعمدة إنارة بكامل البلدة، بالإضافة إلى استمرار توصيل خدمات المياه إلى منزلها.

وتعمل “إيلير” في إدارة حانة صغيرة -عُلق على بابها لافتة كُتب فيها: “مرحبا بكم في أشهر حانة عالمية في مونوي”- بجوار منزلها، قد تركها لها زوجها الذي كانت تدعوه بـ “رودي”، وتقوم فيها بإعداد بعض الأطعمة، وكذلك إعداد زجاجات الخمور، لاحتمالية زيارة بعض الزبائن.

وبوفاة “رودي” في عام 2004، أصبحت “إيلير” تقطن تلك البلدة بمفردها، وتغيرت إحصائيات تعداد السكان، والتي كانت تسجل فردين، حتى تسجل فردًا واحدًا ليس فقط يعيش بها وحده، بل يتولى إدارتها كاملا بمفرده.

وتقول “إيلير” ضاحكة: “حينما أتقدم بطلب الحصول على التراخيص اللازمة لبيع الخمور والتبغ من الولاية، فيتم مراسلتي حيث إنني أمينة الصندوق بالبلدة، ثم أقوم بدوري بالتوقيع عليها بصفتي الموظفة الإدارية كذلك، ومن ثم أتسلمها من نفسي لأنني مالكة الحانة”.

وتقوم “إيلير” كذلك بتقديم خدمة توفير الأماكن المناسبة للإقامة في البلدة، حيث تحتفظ بقائمة لها في حالة ما إذا أراد شخص الإقامة لبعض الوقت داخل البلدة.

كيف هُجرت مونوي

وتحكي “إيلير” عن ماضي تلك البلدة، التي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي محطة سكة حديد بطريق مدينة “إلكورن”، كما أن عدد السكان وقت ذاك بلغ 150 نسمة، وكانت أنشطة التجارة ومحال البقالة وكذلك المطاعم تنتشر بها، كما أنها كانت تضم سجنًا حكوميًّا يزيد من عدد الزائرين للبلدة.

وتضيف أنها عاشت طفولتها في تلك المزرعة الوحيدة بمونوي، وهناك قابلت زوجها الراحل “رودي”، أثناء التحاقهما بالمدرسة الابتدائية ذات الفصل الواحد هناك، وبدأت قصتهما معًا، عندما كانا يستقلان نفس الحافلة لارتياد المدرسة الثانوية التي كانت تبتعد عن البلدة بما يقرب سبعة أميال.

وفي مرحلة لاحقة اتجه “رودي” إلى الخدمة العسكرية والتحق بالقوات الجوية الأمريكية، ثم ذهب إلى فرنسا لتأدية الخدمة هناك إبان الحرب الكورية، أما “إيلير” فقد ذهبت إلى مدينة “كانساس” للعمل في شركة طيران، وتقول “كنت أحلم بأن أكون مضيفة جوية، وما كان يجمح حلمي هذا، هو عدم اكتراثي للعيش في المدينة، فقد كانت طبيعة الحياة في مونوي تستهويني، ولا أرغب في الانتقال للحياة بمكان آخر”.

وعندما وصلت إلى الـ 19 من عمرها، عاد “رودي” وكذلك “إيلير” إلى البلدة مرة أخرى، ليعلنا زواجهما الذي أسفر عن طفلين، ثم أبدى لها “رودي” رغبته في إعادة افتتاح الحانة التي كان يمتلكها والدها، حيث كان يعمل في مخزن الحبوب الخاص بالبلدة، وفي توصيل الوقود للمحطات الخاصة بعد انتهاء خدمته العسكرية، ورحبت هي بذلك وقاما سويا بإعادة افتتاح الحانة في عام 1971.

إلا أن إعادة افتتاح الحانة قد تزامن مع إغلاق العديد من المحال والأنشطة الموجودة هناك، بعد أن تدهورت الأوضاع الزراعية عقب الحرب العالمية الثانية، التي أثرت على الأنشطة الريفية بمنطقة “السهول العظمى” بالولايات المتحدة، وهو ما جعل العديد من المجتمعات وبشكل كامل تفضل الرحيل من هذا المكان.

وفي عام 1960 أقيمت آخر مراسم جنائزية في كنيسة مونوي، والتي كانت تخص والد “إيلير”، وبعدها أغلق مكتب البريد الخاص بالبلدة، وتلاه ثلاثة من محال البقالة فيما بين عامي 1967، و1970، ثم أغلقت مدرسة القرية عام 1974، وظلت الأمور على هذا المنوال، حتى وصل عدد السكان قبل حلول عام 1980، إلى 18 شخصا فقط.

والآن انضمت مونوي إلى بلدتين من بلدات مقاطعة بويد بولاية نبراسكا، يقل عدد السكان المتواجدين بها عن 10 أشخاص.

وبالوصول لعام 2000، لم يبق في مونوي سوى “إيلير” وزوجها “رودي”، حيث كان كلاهما يعمل في الحانة التي أعادا افتتاحها.

العمل يقضي على الوحدة

إلا أن أبناء “إيلير” و”رودي” لم يميلا إلى اختيار والديهما بالاستمرار في القرية، وفضلا الانتقال إلى أماكن أخرى بحثا عن فرص عمل، في أواسط فترة السبعينيات، ولم تسيطر يوما مشاعر الوحدة على “إيلير”، التي خططت لحياتها أن تستمر بالعمل يوميًّا، حيث تستيقظ صباح كل يوم، وتسير على بعد خطوات من منزلها لتكون في التاسعة صباحا في تلك الحانة، إرث والدها وزوجها، وتستمتع بإجازتها  الأسبوعية يوم الاثنين.

وربما يشعرها زبائن الحانة المنتظمين بدفء الصداقة، حيث إنهم يقطعون مسافة 20 أو 30 ميلا، ليصلوا إلى حانة “رودي”، لقضاء أمسيات يوم الأحد، وربما يقطع آخرون مسافة تصل إلى200 ميل، في رحلة تستغرق عشر ساعات تقريبا، من أجل زيارتها والاطمئنان عليها، وهؤلاء أشخاص قد عرفتهم جيدًا على مدار السنين التي أدارت فيها الحانة مع زوجها الراحل.

وتبدأ “إيلير” في الاستعداد لغلق حانتها بعد التاسعة والنصف من مساء كل يوم، وهنا يعود ذلك الصمت إلى البلدة كاملة.

“مكتبة رودي”

وكان “رودي” قارئًا دءوبًا، فقد جمع ما يقرب من خمسة آلاف كتاب ومجلة، وكانت أمنيته الوحيدة التي أبلغ بها قبل وفاته بوقت قصير، هي أن تتحول مكتبته الخاصة إلى مكتبة عامة في البلدة.

وبالفعل تعاون أبناؤه وأحفاده لبناء المكتبة، وساهموا في بناء الأرفف، ودهان الحوائط بأنفسهم، وكتبوا لافتة بخط اليد تحمل اسم “مكتبة رودي”، والتي تقع بجوار تلك الحانة.                                                                                                          ورغم أن عائلة “إيلير” ليست صغيرة، بل إن ابنيها حصلا على خمسة أبناء وكذلك اثنين من الأحفاد، إلا أن أقرب فرد فيهم يبعد عن البلدة 90 ميلا، في مدنية بونكا بولاية نبراسكا، في حين أن الآخرين يعيشون بأماكن متفرقة تشمل أريزونا، وهولندا.

وتقول “إيلير” إن “ولديَّ طلبا مني الانتقال للعيش معهما، ولكني أفضل أن أبقى هناك، فمن الصعب أن أتنازل عن عادتي في هذا السن، كما أنني وبعد عودتي من عملي اليومي أقرأ كتابًا من تلك التي تركها لي زوجي، على أن أستعد للنوم قبل الـ11 مساءً، لأستقبل الزبائن الجدد صباح اليوم التالي.