تم مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي اعترت مصر باستخدام معدات عسكرية فرنسية، وهو ما يجعل من فرنسا شريكاً في كافة الانتهاكات الحقوقية التي تمت في مصر.

على مدار العشر سنوات الماضية، أصبحت مصر من أكبر مستوردي الأسلحة الفرنسية، وبحسب منظمة العفو الدولية فإن تلك الأسلحة تم استخدامها بصورة أساسية في قمع المتظاهرين الذين خرجوا في الشوارع في مصر في أوائل 2011.

مع الوقت ازدادت قوة العلاقات الفرنسية المصرية، خاصة منذ 2014، بعد سيطرة السيسي على مقاليد الأمور في مصر عقب قيامه بانقلاب عسكري على الرئيس محمد مرسي- أول رئيس مدني منتخب بصورة ديموقراطية، ومنذ ذلك الحين وأصبحت فرنسا أكبر مورد للأسلحة في مصر، متجاوزة حتى الولايات المتحدة.

ومن الجدير بالذكر أنه في الفترة بين 2012 وحتى 2016، في عهد الرئيس فرانسوا هولاند، باعت باريس معدات عسكرية للقاهرة أكثر من مبيعاتها في العشرين سنة الماضية، ورغم الازدياد الملحوظ في مبيعات الأسلحة للقاهرة والذي تبعه انتقادات حقوقية دولية، نفى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الأولى لمصر أواخر يناير/كانون الثاني 2019، أن تكون فرنسا تجاهلت القانون الدولي في إبرام تلك الصفقات، رغم التقارير الحقوقية التي تفيد بأن الأسلحة الفرنسية قد استخدمت ضد المدنيين المصريين خلال احتجاجات الربيع العربي.

 

مقتطفات من الثورة المصرية

في 25 يناير/كانون الثاني 2011 احتشد عشرات الآلاف من المصريين في ميدان التحرير، احتجاجاً على الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة، وقمع النظام، وممارسات الشرطة اللاإنسانية، وبحلول 11 فبراير/شباط 2011 أعلن الرئيس مبارك تنحيه عن منصبه الذي استمر فيه لمدة 30 عاماً.

وبعد مرور عام على تلك الأحداث، أجريت انتخابات رئاسية في مصر، فاز فيها محمد مرسي، وأصبح رئيساً للجمهورية في 30 يونيو/حزيران 2012، إلا أنه وبعد مرور فترة قصيرة على فوزه بالانتخابات، قوبلت سياساته في الرئاسة بمعارضة شرائح كبيرة من المجتمع لأسباب عدة أبرزها كونه رئيساً ذو خلفية إسلامية.

بلغ الرفض الشعبي لسياسات مرسي ذروته مع الإعلان الدستوري الذي قام به الرئيس “الإسلامي” في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، والذي أعطت مواده صلاحيات للرئيس للتحكم في السلطة القضائية، وكذلك كانت بمثابة حصانة له من المحاسبة على أي تصرف كرئيس للجمهورية، وكرد فعل على هذه الخطوة لم تتوقف المظاهرات المعارضة لأشهر حتى تم خلعه، وهي الخطوة التي مكنت السيسي من التحكم في مقاليد الأمور بصورة رسمية.

بعد الانقلاب العسكري الذي قام به السيسي على مرسي، اعتصم مؤيدو الرئيس مرسي ومناصري جماعة الإخوان المسلمين في ميدان رابعة العدوية في القاهرة مطالبين بالإفراج عن مرسي وإعادته لمنصبه كرئيس للجمهورية، وبعد مرور قرابة الشهرين على هذا الاعتصام، قامت القوات الأمنية بفضه بالقوة، فيما عُرف بعد ذلك بمذبحة رابعة، والتي خلفت نحو 800 قتيلاً وإصابة أكثر من 4000 شخصاً.

 

استخدام أسلحة فرنسية في مذبحة رابعة

في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً من 53 صفحة خلُص بالأدلة إلى استخدام قوات الأمن المصرية لأسلحة ومركبات ومعدات عسكرية فرنسية الصنع، من المفترض أنها مرخصة فقط لأغراض مكافحة الإرهاب.

التقرير ذكر أنه اعتمد في أدلته على لقطات ومقاطع فيديو من المذبحة بلغت مدتها نحو 20 ساعة، بالإضافة إلى مئات الصور الفوتوغرافية وحوالي 450 غيغابايت من المواد السمعية والبصرية الأخرى.

اللقطات والمقاطع المُشار إليها في التقرير أظهرت وجود شارات قوات العمليات الخاصة وقوات الأمن المركزي التابعة لوزارة الداخلية المصرية على مركبات فرنسية، كمدرعات من طراز MIDS وهي من شركة Renault، مصنوعة خصيصاً لـ “مهام الأمن الداخلي”، كما تم استخدام مركبات من نوع Sherpa، وهي سيارات أخرى طورتها Renault من أجل “وحدات التدخل السريع”.

أشارت منظمة العفو الدولية في تقريرها إلى أن التدخل الوحشي من قبل قوات الأمن المصرية تسبب في مقتل ما يقارب 1000 شخصاً، وهو أكبر عدد من المحتجين تم قتلهم في يوم واحد في التاريخ المصري الحديث، مؤكدة أن فرنسا بتصديرها معدات عسكرية لدولة تشهد اضطرابات وغير مستقرة سياسياً قامت بانتهاك القانون الدولي، وتجاهلت التزاماتها القانونية بموجب معاهدة الأمم المتحدة لتجارة الأسلحة، والتي تحظر نقل أسلحة يمكن استخدامها “لارتكاب أو تسهيل انتهاك جسيم للقانون الدولي لحقوق الإنسان”.

 

فرنسا: مصالحي أولاً

وسط الإدانات الدولية المستمرة لانتهاكات نظام السيسي لحقوق الإنسان، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة مصر في بداية عام 2019 لتعزيز العلاقات مع مصر وتوقيع عدد من الاتفاقيات التجارية الثنائية في قطاعي النقل والطاقة المتجددة.

هذه الزيارة واجهت ضغوطات كثيرة من المنظمات الحقوقية، حيث قامت 8 مجموعات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان بالضغط على ماكرون للحديث حول قمع الحريات في مصر أثناء زيارته.

وخلال مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيسين المصري والفرنسي، قام صحفي فرنسي بسؤال ماكرون حول قيام باريس ببيع أسلحة للقاهرة بغرض الحفاظ على النظام والأمن العام، وهو ما لم ينفه ماكرون، إلا أنه أكد أن المعدات العسكرية الفرنسية بيعت بشرط أن يتم استخدامها فقط للأغراض العسكرية، مشيراً وأن فرنسا كانت قد اتصلت بمصر للاستفسار عن ذلك عندما اكتشفت أن مركبة مصفحة كانت تستخدم على المتظاهرين في عام 2013.

منظمة العفو الدولية علقت على هذا قائلة “عمليات بيع الأسلحة لمصر تمت بالفعل، ولا زالت مستمرة على الرغم من أن السلطات المصرية لم تتخذ أي خطوة لمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان باستخدام تلك الأسلحة وغيرها، ما يعرض فرنسا لخطر التواطؤ في أزمة حقوق الإنسان المستمرة في مصر”.

إن بيع الأسلحة الفرنسية لنظام السيسي يساهم في زيادة استبداد النظام المصري ويعزز من سياساته في انتهاك الحريات المدنية، ففي عام 2017 فقط، باعت فرنسا لمصر سفن حربية وطائرات مقاتلة وعربات مدرعة ومعدات مراقبة بقيمة 1.6 مليار دولار، ولقد بررت فرنسا ذلك بأنها تساعد مصر فيما تسميه “محاربة الإرهاب”.

صحيفة ليبراسيون الفرنسية وصفت التعاون الفرنسي-المصري بأنه جزءً من استراتيجية السيسي “لشراء صمت فرنسا” فيما يتعلق بانتهاكاته المستمرة ضد حرية التعبير والحط من كرامة الإنسان، ولعل زيارة الرئيس المصري لباريس في أكتوبر/تشرين الأول 2017، كانت خير دليل على ذلك، حيث صرح ماكرون- والذي كان قد تولى الرئاسة قبل خمسة أشهر، بأنه ليس من حقه توجيه انتقادات للسيسي، على الرغم من وجود ما لا يقل عن 60 ألف سجين سياسي منذ صعود الرئيس المستبد للسلطة في مصر.

ينظر ماكرون إلى وجود السيسي باعتباره ضمان “للاستقرار في المنطقة”، وأنه حليف إقليمي لفرنسا جدير بالثقة، فيما يتعلق بالوضع السياسي المعقد في ليبيا.

الوضع في ليبيا منقسم إلى جزأين، كل له حلفائه، فمن جهة هناك الحكومة الليبية في طرابلس المدعومة من الأمم المتحدة وإيطاليا وقطر وتركيا، ومن الناحية الأخرى يوجد الجيش الوطني الليبي والذي يسيطر عليه المشير خليفة حفتر، والمدعوم من الإمارات والسعودية وفرنسا ومصر.

يُذكر أن فرنسا تؤيد فكرة إقامة انتخابات ليبية بحلول نهاية عام 2019 وتسعى لذلك بقوة، في حين أن دول أخرى مثل إيطاليا تدعو لتأجيلها.

أخيراً، فإن تقرير منظمة العفو الدولية دحض كافة مزاعم فرنسا بأنها دولة الحقوق والحريات، وأن احترامها لحقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من هويتها الوطنية، ففي الوقت الذي تواصل فيه غض الطرف عن مسؤوليتها في القمع الواقع على الشعب المصري، تواصل من جهة أخرى، وتحت قيادة رؤساء مختلفين، انتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان وخيانة قيمها التي لطالما نادت بها.

مع انتشار مجال تجارة الأسلحة في العالم، ازدادت المنافسة بين الدول المصنعة لها، ما جعلها راضية ومتواطئة فيما يُرتكب من انتهاكات بتلك الأسلحة، إلا أنه على الأقل لا زالت أمام باريس فرصة بأن تراقب استخدام أسلحتها ومعداتها العسكرية المصدرة للسيسي، لحماية مصر من أن تصبح سجناً كبيراً كما يريد السيسي أن يفعل.

 

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا